من المتفق عليه في علم النفس أن حالات الحزن تمر بخمس مراحل متتالية: الإنكار، الغضب، المساومة، الاكتئاب و القبول. ويرى بعض المحلّلين على سبيل الدعابة أن مراحل حزن القذافي على قرب فقدان سلطانه تتلخص في إنكار، إنكار، إنكار،إنكار وإنكار. ولكن مما لا شك فيه أن ٱنتكاسة ملك ملوك إفريقيا تدور في حلقة مفرغة دون أن تصل إلى مرحلة قبول مستبعدة، ولعلنا لا نتورط كثيرا إذاما وصفناها بالمستحيلة. وخير دليل على ما تقدّم تصريحات الرجل وخطاباته التراجيدية-الكوميدية التي تدور في سلسلة متعاقبة من إنكار- غضب-مساومة-اكتئاب إلى إنكار- غضب-مساومة-اكتئاب. وإذا كان المتتبّعون قبل قيام الثورة في ليبيا لا يتعدون وصف القذافي بغرابة الأطوار والتفرّد، فلقد تكاثر المحلّلون النفسيون في أيامنا وتناولوا شخصيته بتمحيص وتشريح غير مسبوقين. و هكذا توافد فطاحلةُ هوايةِ الطب النفسي من صحفيين ومذيعين وعابري سبيل ومتسكعين، أمام كاميرات التلفزيون ليدلوا بدلوهم بعد أن تسنى لهم تشخيص حالة العقيد. فقالوا فصام واكتئاب وهوس أو لعله يكون مرض القطبين. وقالوا وَهْم من الاضطهاد وهلوسة ونرجسية وجنون عظمة وقد يكون جنون البقر. وقال خبراء آخرون: إنها حالة زكام بسيطة، لكنهم لم يستثنوا بعد انفلوانزا الخنازير. ولم يُفَوِّت هواةُ المودا وعروض الأزياء الفرصةَ؛ فجاءوا ليفسروا ماهية سراويل الزعيم ويفضحوا سرّ جلابيبه. ولم يتنفس المتتبعون الصعداء حتى أتى وفد من المحلّلين الاستراتيجيين لينبّهَ لشهيقه وزفيره، حركاته وسكناته. أين كان عبد الفتاح فرويد وعبد الرزاق يونغ قبل 17 فبراير؟ لماذالم ينبهونا لطزّات القائد وقذافياته؟ ولماذا لم يهتفوا البارحة بشعارات اليوم (الشعب يريد علاج الرئيس!)؟ ربما كانوا منهمكين في تشخيص أمراض الشعوب العربية المزمنة والمستعصية... وبينما انهمك قطعان من الأخصائيين في ممارسة الطب النفسي وقراءة الفنجان والملابس القذافية، نظم الزعيم مقابلات وندوات صحفية يروي فيها حكاياته عن “الحقيقة الحقيقية”، ويصب فيها جام غضبه على شعبه وعلى العالم، في مشهد أورويلي هتف فيه الهاتفون بعظمته ومجده وخلوده، وطزّز فيه المطزّزون فهدّدوا بطزاتهم الثوار والعالم. ليس لدى الكولونيل من يكاتبه؛ ليخبره بحلول موعد الرحيل لأن الجرذان ذاقوا ذرعا من تهريجه وضاق صدر الرعاع بمهزلاته.