تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    بيدرو سانشيز: إسبانيا تثمن عاليا جهود صاحب الجلالة الملك محمد السادس من أجل الاستقرار الإقليمي    قضايا المغرب الكبير وأفريقيا: المغرب بين البناء والتقدم.. والجزائر حبيسة سياسات عدائية عقيمة    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    تثمينا لروح اتفاق الصخيرات الذي رعته المملكة قبل تسع سنوات    مجلس الأمن: بلينكن يشيد بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.        أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال 24 ساعة الماضية    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا        تبييض الأموال في مشاريع عقارية جامدة يستنفر الهيئة الوطنية للمعلومات المالية    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    دورية جزائرية تدخل الأراضي الموريتانية دون إشعار السلطات ومنقبون ينددون    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    هجوم ماغدبورغ.. دوافع غامضة لمنفذ العملية بين معاداة الإسلام والاستياء من سياسات الهجرة الألمانية    ترامب يهدد باستعادة السيطرة على قناة بنما على خلفية النفوذ الاقتصادي المتنامي للصين    تفكيك أطروحة انفصال الصحراء.. المفاهيم القانونية والحقائق السياسية    مجموعة بريد المغرب تصدر طابعا بريديا خاصا بفن الملحون    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    الأستاذة لطيفة الكندوز الباحثة في علم التاريخ في ذمة الله    السعودية .. ضبط 20 ألفا و159 مخالفا لأنظمة الإقامة والعمل خلال أسبوع    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    إسرائيل تتهم البابا فرنسيس ب"ازدواجية المعايير" على خلفية انتقاده ضرباتها في غزة    المغرب أتلتيك تطوان يتخذ قرارات هامة عقب سلسلة النتائج السلبية    أمسية فنية وتربوية لأبناء الأساتذة تنتصر لجدوى الموسيقى في التعليم    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    سابينتو يكشف سبب مغادرة الرجاء    الممثل القدير محمد الخلفي في ذمة الله    التقلبات الجوية تفرج عن تساقطات مطرية وثلجية في مناطق بالمغرب    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    علوي تقر بعدم انخفاض أثمان المحروقات بالسوق المغربي رغم تراجع سعرها عالميا في 2024    جلسة نقاش: المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة.. الدعوة إلى تعزيز القدرات التمويلية للجهات    بطولة انجلترا.. الإصابة تبعد البرتغالي دياش عن مانشستر سيتي حوالي 4 أسابيع        دراسة: إدراج الصحة النفسية ضمن السياسات المتعلقة بالتكيف مع تغير المناخ ضرورة ملحة    بريد المغرب يحتفي بفن الملحون    اصطدامات قوية في ختام شطر ذهاب الدوري..    العرض ما قبل الأول للفيلم الطويل "404.01" للمخرج يونس الركاب    جويطي: الرواية تُنقذ الإنسان البسيط من النسيان وتَكشف عن فظاعات الدكتاتوريين    مؤتمر "الترجمة والذكاء الاصطناعي"    كودار ينتقد تمركز القرار بيد الوزارات    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



48 ساعة من الإعتقال
نشر في دنيابريس يوم 15 - 12 - 2010

مرت أسبوعين على الإعتقال الذي قامت به الشرطة مساء يوم الأربعاء 6 أكتوبر 2010 ، و الذي كان ضحيته 7أطر ينتمون إلى مجموعات مختلفة ، كنت أنا فيهم من يمثل مجموعة المستقبل للأطر العليا المعطلة .
فبعدما أنهت المجموعة الوطنية للأطر العليا المعطلة مسيرتها اليومية السلمية و التي جوبهت بتدخلات عنيفة وأحيانا شرسة من قبل قوات الأمن ، اٌجتمعت الأطر في ساحة الضبط تتشاور حول شكلها النضالي هذا ، و حول التدابير التي سيتماٌعتمادها في الأيام المقبلة.
مرت الأيام و أنا أحاول أن أكتب مقالاً مفصلاً عن فترة الإعتقال هذه ، أصف من خلاله التفاصيل الدقيقة التي عشناها في 48 ساعة من الإعتقال .
لكنني لم أستطيع ذلك بسبب حالتي النفسية المتدنية ، بالإضافة إلى ظروفي الصحية الصعبة التي تمتلت في انتفاخ ركبتي اليسرى بسبب البرودة التي تأثرت بها خلال مدة الإعتقال ،حيث كنا ننام على الأرض الصلبة لايحول بيننا وبينها سوى غطاء قديم ومتهالك لا حرارة فيه ولا يمكنه أن يقينا البرودة المتصاعدة من أرضية المكان.
لهذه الأسباب وغيرها فقد كنت محتاجاً إلى راحة نفسية ، لم يتسنى لي حينها الأريحية للتفكير فيما مضى والتركيز في كتابة ما جرى.
لكنني اليوم وبعد أن أحسست ببعض التحسن أقول لابأس،
فلسنا أول من عانى من الإعتقالات التعسفية ولن نكون آخر من يعيشها مادام هناك مناضلين يطالبون بحقوقهم ، وحكومة لا تتعامل إلا بالمقاربات الأمنية الضيقة .
لقد سبقنا مناضلون شرفاء عاشوا نفس هذه المحنة و ربما في ظروف أقسى و لفترة أطول، لكن ذلك لم ينل من عزيمتهم شيئاً ولم يثنيهم مطلقا عن مسارهم النضالي، و لن يحبطنا نحن أيضا في مواصلة مسيراتنا النضالية حتى تحقيق مطالبنا القانونية و المشروعة.
فلن نزكي أنفسنا في هذه الواقعة، لأننا نعتبر ما وقع لنا شكلاً من أشكال النضال، والذي يمكن أن يكون ضحيته أي إطار آخر في المستقبل مهما كانت درجة حرصه.
فمادامت المقاربة الأمنية حاضرة في ملف الأطر العليا المعطلة ، و مادام الإعتقال سلاحاً لردع النخبة المثقفة ، فلن تتوانى القوى القمعية في تكسير كل أشكالنا النضالية المشروعة ، و إلقاء القبض على كل من كان ضحية سهلة لا يبدي أي مقاومة .
لقد تم اختطافنا فعلا بحيلة رخيصة ، ومكرِ خبيث من أولائك الذين يفترض فيهم حمايتنا بحسب تسميتهم “رجال الأمن ” .
فلم نكن نمارس حينها أي شكل من أشكال الإحتجاج أو التظاهر ، ولكن كنا نظن أن الشرطة تدعونا للتشاور معنا في أمر معين ، كان كل إطار من الأطر السبعة المعتقلة في إجتماع مع أعضاء مجموعته، فكنت أنا كذلك مجتمعاً في ساحة الضبط مع أطر مجموعة المستقبل ، حيث كنت أقوم بعملية الضبط وهي أول مرة أقوم فيها بهذه المهمة لغياب مسؤول الضبط إذ بمسؤول أمني رفيع المستوى يتقدم نحوي ويسألني قائلا : أين هم أصدقاؤك ؟ فأجبته قائلاً : لا أدري ، هم موزعون هنا و هناك ، ثم أردف قائلاً : تعالى معي ، فصاح بعض الأطر من مجموعتي إذهب معه , إذهب معه ...
رافقت السيد المسؤول إلى سيارة الشرطة حيث أدخلوني فيها ، بعدها ببضع دقائق ألتحقت بي أربع أطر من مجموعة أخرى حيث أحكمت أيديهم بالأصفاد ، ثم أتجهوا بنا حيث لا ندري ، ظننا أننا سنقضي بعض الوقت مع الشرطة ، على أن يطلقوا سراحنا بعد مدة قصيرة .
قطعت سيارة الشرطة مسافة ليست بالقصيرة ، عرفنا بعد ذلك أنها توجهت إلى ولاية الأمن التابعة لمقاطعة أكدال – الرياض الموجودة بحي التقدم ، وصلنا إليها مع الساعة السابعة و النصف تقريباً ، حيث أخذوا منا البطاقات الوطنية والهواتف النقالة حتى يقطع أي إتصال بأطر المجموعة أو الأسرة ، فسجلوا أسمائنا كان هذا بالنسبة لي أول مرة أدخل فيها مركز الشرطة ويتم فيها ضبط بطاقتي الوطنية وقضينا ساعة تقريباً قبل أن يأخذونا من جديد في سيارة الشرطة ليتجهوا بنا إلى وجهة أخرى ، هي ولاية أمن حسان المدينة ، والتي وصلنا إليها مع الساعة التاسعة مساءً ، في هذه الولاية تم ضبط بطاقتنا الوطنية من جديد مع أخذ بصماتنا وصور فوتوغرافية متعددة الجوانب ، سألنهم عن السبب ، فقالوا لنا إنها إجراءات عادية مثلها مثل الهوية التي تقدمها البطاقة الوطنية .
انتهت هذه الإجراءات والتي طالت تقريباً ساعة ، كنا فيها صامتون لا نحرك ساكنا أمام فرقة من الشرطة تراقبنا ، مع شيء من الهدوء والاطمئنان لأننا لسنا من المجرمين الذين يحتاجون إلى مراقبة مشددة .
وبعد ساعة ونصف تقريباً أنزلونا إلى طابق تحت أرضي أستقبلنا فيه عناصر من الشرطة قامت بإزالة كل ما لدينا من أشياء كالأموال والهواتف و الأقلام وغيرها ...
ولاحظنا أننا في سجن مكون من ثلات زنزانات مسيجة بقضبان حديدية ، فأمرونا بدخول الزنازين ، فتوجهت أنا وإطار من الطموح وآخر من النضال إلى زنزانة فيما توجه أطر مجموعة الصمود إلى زنزانة أخرى ، أما الزنزانة الثالثة فكانت تقبع فيها إمرآتان .
أغلقوا علينا الأبواب الحديدية، وهنا أصبح كل شيء واضح، فلقد فهمنا أننا معتقلون.
يوسف بونجوم : عضو مجموعة المستقبل للأطر العليا المعطلة
الجزء الثاني
في المعتقل أو عالم السجن
أدخلتنا الشرطة إلى الزنزانتين و أقفلت الأبواب وراءنا بإحكام. كنت و إطاران من مجموعتي النضال و الطموح في زنزانة و كان الأطر الأربعة المنتمون لمجموعة الصمود في زنزانة أخرى محاذية. كانت هناك زنزانة ثالثة محاذية كذالك تقبع فيها امرأتان هما مواطنتان لا علاقة لهما بنضال المعطلين. وجدنا أنفسنا في زنزانة هي عبارة عن بيت طويل واسع لا توجد فيه إلا أغطية سوداء مرمية على الأرض، و في إحدى الزوايا يوجد مرحاض ذو حيطان قصيرة، ليس له باب و لا سقف و لكنه مستور نسبيا لأنه ينظر اتجاه حائط و ليس اتجاه فضاء الزنزانة حيث كنا ننام و نجلس.
بدأنا نتبادل النظرات، و بدأنا كذالك نتجاذب أطراف الحديث. كان السؤال الرئيسي الذي هيمن على حواراتنا هو: “إلى متى سيدوم اعتقالنا؟”. لم يكن الأطر على يقين تام بأن هذا الاعتقال سيدوم فقط ثمانية و أربعين ساعة ثم سنعرض على وكيل الملك للنظر في قضيتنا. كان أطر الصمود يقولون بأن الأمور ستمر على خير على الرغم من إبدائهم من حين لآخر لبعض مظاهر الخوف و اللايقين. أما في زنزانتنا فقد كانت حواراتنا يشوبها الخوف و الترقب لما يمكن أن يقع في الأيام التالية.
اقتربت من إطار النضال و سألته قائلا: “ما رأيك في هذا الاعتقال؟”.
النضال: “إنها كارثة، أنا لا أعرف لماذا اعتقلوني! كنت في مستشفى ابن سينا أقوم بتصوير بعض الأطر الجرحى، قبضت علي الشرطة و جاءت بي إلى هنا، فأنا لم أكن في ساحة النضال و إنما في المستشفى! فليس من حقهم اعتقالي!”.
المستقبل: “هل تظن أن اعتقالنا سيطول؟، و ماذا يمكن أن يقع إن ألصقت بنا تهمة من التهم لتورطينا و تعقيد قضيتنا؟”.
النضال: و الله لا أدري، إنك يمكن أن تلاحظ أني أتكلم برباطة جأش و لكني في حقيقة الأمر أشعر كأن قلبي سيخرج من مكانه. لقد رموا بنا في هذه البيوت الحديدية و تركونا نتصارع مع الاحتمالات و التخمينات القاتلة و السيناريوهات الجهنمية!”.
المستقبل: “و لكن، في نظرك هل ستتم محاكمتنا؟”.
النضال: “أنا لم أفعل شيئا، أنا سأقول لهم بأني كنت في المستشفى و أخذوني منه إلى هنا دون أي سبب!، و لكني أظن أنه سيتم تقديمنا لا محالة أمام وكيل الملك، فإن برأنا سيكون خيرا، و إن اتهمنا بشيء فربما سيحتفظ بنا في المعتقل ثم ننقل إلى سجن سلا المسمى الز اكي.”
المستقبل: “في حالة تثبيت التهمة سيتم نقلنا إلى سجن سلا؟ و لكننا أبرياء، نحن أطر معطلون قضينا سنوات في التربية و التحصيل و التكوين، نناضل من أجل لقمة عيش طيبة، نناضل من أجل العمل و خدمة بلادنا باستثمار الكفاءات التي أنفقت لها الدولة أموالا طائلة لسنوات طويلة”.
النضال: “نعم معك حق و لكن من سيسمع منك و يهتم لكلامك...إن بإمكانهم الآن أن يفعلوا بنا ما يريدون!، انظر، لقد تركونا في هذا المكان الموحش، إننا لسنا مجرمون و هذا المكان لا يليق بنا...إنها أول مرة في حياتي أشعر فيها أني معتقل بكل ما لكلمة اعتقال من معنى!”.
المستقبل: “أنا كذالك هذه أول مرة يتم فيها اعتقالي...إنها أول مرة أرى فيها نفسي وراء قضبان حديدية متينة...إنها أول مرة أشعر فيها أني مسلوب الحرية مفصول عن العالم... و أرى فيها شرطيا يحكم إغلاق باب الزنزانة وراءنا خوفا من أي رد فعل و لو أننا لسنا ممن سيقومون بردود فعل ضد رجال الأمن، فكيف نقوم بردود فعل و نحن نعتبر أنفسنا رجال أمن على المستوى الأخلاقي و العلمي و الفكري و الثقافي، و هم رجال أمن على المستوى الواقعي التجريبي!؟...إنني أشعر أني وقعت في ورطة لم تكن لي أبدا في الحسبان، لقد كنت ضحية ثقتي بمسؤولي الأمن...لقد زجوا بي في قضية عويصة لا أعرف رأسها من رجليها، و لا أعرف كيف سأخرج منها!...”.
و يشاركنا الحديث إطار الطموح الذي سألته قائلا: “يا صاحبي، كيف سنخرج من هذا الاعتقال؟”.
الطموح: “و الله لا أدري! الله يفرج علينا و يجعل لنا مخرجا من هذه الورطة المشؤومة”.
المستقبل: “هل سنحاكم و نقدم أمام محكمة قضائية؟.
الطموح: “و الله لا أعرف، و لكن كل شيء محتمل! إنني أكثر خوفا منكم...أنا لم أفعل شيئا خارج عن النضال السلمي المحترم للقوانين و لرجال الأمن...فكيف سيتهمونني و أنا بريء براءة الذئب من قميص يوسف عليه السلام؟”.
المستقبل: أنا كذالك خائف، و كيف لا تخاف و أنت في سجن! و لكن اطمئن سيكون خيرا إن شاء الله”.
ثم ننتقل من الحوار الجدي إلى بعض الحوارات الهزلية حتى نفرج عن أنفسنا، فنضحك قليلا و نتخيل أنفسنا خارج الزنزانة، و لكن سرعان ما يعود شبح السجن ليهيمن على تخيلاتنا، و سرعان ما تعود الأفكار الجهنمية لتستوحد على مواضيع حواراتنا: الاعتقال، التحقيق، المحاكمة، مقابلة وكيل الملك، المتابعة القضائية، سجن سلا...الخ.
يخيم الليل، يغلق الشرطي المسؤول على حراستنا أبواب الزنزانات من جديد. كان يفتحها من حين لآخر لأننا كنا نخرج لجلب الماء من مكان محاذي للزنزانات نستعمله للغسل و للمرحاض. ثم يستسلم الأطر و كذالك باقي المسجونين لحاجتهم للنوم...يظفر كل واحد بغطاءين باردين نثنين، يفترش بأحدهما الأرض و يغطي جسمه بالغطاء الثاني. فعلت نفس الشيء، لكني، لحساسيتي المفرطة للبرد، كنت أستيقظ من حين لآخر لشعوري بالبرد يتصاعد من الأرض. أقلب رجلاي و أحركهما لأني كنت أشعر بهما يتجمدان. أترك النوم و أفضل المشي على طول الزنزانة ذهابا و إيابا كي أشعر بشيء من الحرارة وحتى تتحرك رجلاي و يذهب عنهما التجمد و لو أن ركبتي اليسرى ذات الحساسية الكبرى للبرد قد انتفخت انتفاخا، فكنت رغم ذالك أمشي و اضطرها للمشي و لو أني لم أكن أستطيع أن ألويها أو أطويها بشكل طبيعي.
كنا حقيقة في السجن و لو أن فكرة السجن لم تقتنع بها عقولنا و لكن تأثرت بها أحوالنا النفسية تأثيرا بالغا كنت أشعر بسببها أحيانا بانهيار جسمي و تعب فكري. تذكرنا في هذه اللحظات فيلم النبي يوسف عليه السلام و كثير من الشخصيات التي عاشت السجن. و بذكرنا قصة النبي يوسف كانت نفوسنا تطمئن و ترتاح قليلا لهذا المكان البارد الموحش. كنا نحتج قائلين أن الأنبياء و منهم يوسف عليه السلام قد عاشوا أنواعا مختلفة من السجن، فكيف لا نحن! فهذا قدر من أقدار الله سنعيشه حتى يفرج الله علينا كما فرج على يوسف. و كم هي الأقدار ذات البلاء الصعب التي يعيشها الناس كل يوم! فلتهدأ نفوسنا و لتطمئن قلوبنا فما هذا إلا قدر من أقدار الله، و ما هذا إلا تجربة أراد الله أن نعيشها و نستفيد منها.
يمضي الليل الموحش ببطء شديد، انظر إلى الشرفات الصغيرة في أعلى الزنزانة لأرى هل بدأ يلوح ضوء الصباح. أقضي الليل واقفا أو أمشي ذهابا و إيابا على طول الزنزانة، من حين لآخر أنظر متأملا الزنزانات الثلاثة فأرى منظرا في غاية التعاسة و العذاب، لا وجود للحرارة و الدفء، الجميع يفترش الأرض و يخلد للنوم متحملا البرد القارس و صلابة الأرض و شقاء الأغطية الباردة النتنة، فتتألم نفسي و يعود عقلي إلى التفكير، و يتعذب جسمي، و تتألم مشاعري، و ارمي بنفسي في متاهة المجهول: “لقد فعلوها بنا، لقد اصطادونا كما تصطاد الفراخ الضعيفة!حسبي الله و نعم الوكيل، اللهم فرج علينا، اللهم فرج كربتنا...”.ثم أدعو بدعاء يونس عليه السلام:”لا الاه إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين”.
يأتي صباح يوم الخميس سابع أكتوبر، يستيقظ الجميع و تبدأ الحركة و الكلام من جديد. نسمع جلبة الشرطة في الخارج و هم يقومون باستعداداتهم لبداية يومهم الجديد. يغتسل الأطر و يتوضؤون الواحد تلو الآخر، ثم يصلون الصلاة التي كنا نجد فيها عزاءنا و راحتنا الكبرى على المستوى النفسي. يبدأ الحديث بين الأطر لإعادة مناقشة الأفكار التي نوقشت ليلة الأربعاء سادس أكتوبر. يسألون من فينة لأخرى رجال الأمن، يصيح إطار من مجموعة الصمود محتجا:”نريد أن نتحدث مع العميد، اذهبوا و قولوا له إن صبر المعطلين المعتقلين قد نفذ و إنهم يريدون الحديث معك”. يجيبه الشرطي المسؤول عن الحراسة بنبرة قوية فيها كثير من الصرامة و القوة: “لسنا من يقرر، و لست من يقرر هنا، نحن هنا نطبق ما يأمرونا بتطبيقه، و ليس من حقنا أن نطلب أحدا...عليكم أن تلتزموا الهدوء و الصمت...عليكم الانتظار..”.
يهدأ توتر الأطر، و يعود الحوار في ما بيننا و نحن مجتمعون نتناول بعض المأكولات التي طلبناها للفطور. يدخن بعض الأطر السجائر الواحد تلو الأخرى، ينتشون رائحة النيكوتين التي تهدئ أعصابهم و أدمغتهم. أدخن معهم و لو إني لست معتادا على التدخين و إنما فقط من أجل النشوة و التسلية و تهدئة صداع الدماغ و طرد المزاج الثقيل الحاصل عن اضطراب النوم و البرد. كان الأطر يضحكون لطريقة تدخيني التي كان فيها شيء من التصنع و الأناقة، و كانوا يندهشون لرغبتي الملحة في معاودة التدخين خلال عدة فترات من زمن الاعتقال. نننتظر طول نهار يوم الخميس ترقبا لمجيء مسؤول ينظر في أمرنا، لكن دون جدوى. يطول النهار كذالك و يمر ببطء شديد. تعبت أجسادنا و نفوسنا بسبب هذا الانتظار القاتل. لم نعد نطيق وجودنا في الزنزانات و بدأ تحملنا ينهار شيئا فشيئا. استمر الأمر كذالك حتى المساء مع الساعة الخامسة تقريبا حيث جاء بعض عناصر الشرطة المحققين لينظروا في قضيتنا.
جاء المحققون، فتوجسنا خيفة من التحقيق. بدأوا بتحقيق الأطر واحدا بعد الآخر. كان تحقيقهم الأول مع أحد أطر مجموعة الصمود طويلا، و كان تأويلنا لهذا التطويل يسير في اتجاه الشؤم و الخوف و الارتياب.
جاء دوري فقوبلت من طرف المحققين بنوع من الاطمئنان. تكلم أحدهم قائلا: “ما ديرش ما تخافش”، و كأنه يقول إنكم لم تفعلوا شيئا مخالفا للقانون، فلا داعي للخوف و القلق. كنا نرتاح نسبيا لكلامهم و لكننا صرنا لا نثق بشيء. كنا نظن أن الشرطة تطمئننا حتى تقوم بعملها حسب الظروف التي تريد دون صدام أو مشادة كلامية، و أنى لأطر مثقفين و مؤدبين أن يستعملوا العنف الكلامي أو العنف الجسدي!. كان التحقيق عبارة عن أسئلة عامة عن السيرة الذاتية التي شملت معلومات عن الحالة المدنية و الدراسة و تجارب العمل و الانتماء الحزبي و كيفية الالتحاق بحركة المعطلين بالرباط و كيفية اعتقالنا...الخ.
انتهى التحقيق الذي دام ساعتين تقريبا، ثم انسحب المحققون و تركونا لوحدنا في الزنزانات. سألت أحدهم قائلا: “متى سيطلقون سراحنا؟”، فأجابني قائلا: “ليس مساء هذا اليوم (أي الخميس) و لكن دون شك يوم غد الجمعة”. اطمأننت و اطمأن الأطر قليلا.
بعد هذه التحقيقات هدأ السجن، جلسنا نتحدث فيما بيننا لتسلية الوقت. عاودنا نفس المواضيع مع التعليق على هذه التحقيقات التي زادت في إشعال فتيل التأويلات السلبية حول ما سيؤدي إليه هذا الاعتقال. أما الشرطي المكلف بالحراسة فكان، بعد أن أغلق بإحكام أقفال الزنزانات، قد انسحب و اتخذ مكانه المتمثل في بيت مراقبة مجهز بمكتب صغير و مكتبة حديدية تحمل بعض الوثائق و الأوراق. قبالة هذا المكتب الصغير كان هناك الباب الرئيسي لهذا السجن التحت-أرضي، و من هذا الباب الحديدي الأسود اللون يمكنك أن تخرج و تصعد إلى الطابق السفلي لولاية الأمن. في أعلى هذا الباب كان هناك بويبان صغيران، واحد على يمين الباب و آخر على يساره، يفتح الشرطي أحدهما ليرى من يدق الباب قبل فتحه. كانت عملية الفتح تثير صوتا حادا و مرعبا بسبب طقطقة الحديد، و كان هذا الصوت يعبر عن الصرامة و القوة و الإحكام الشديد و يثير في مشاعرنا الإحساس بواقعية ناطقة للسجن. كنا نشعر بالحبس على مستويين: مستوى إغلاق أقفال الزنزانات، و مستوى إغلاق هذا البيت الحديدي الأسود. كنا نترقب من سيدق هذا الباب، و كلما دخل أحد من رجال الأمن أو من المتهمين لا يهتم لأمرنا تخيب آمالنا و يزداد شعورنا بالإهمال و الإقصاء، فنعود للانطواء على أنفسنا و الركون إلى الصبر و الاحتساب إلى الله تبارك و تعالى.
سألت إطار النضال: “ما رأيك حول هذه التحقيقات؟”.
النضال: “و الله إن الأمر صعب، لا يستبين لي شيء، إنني أخاف من متابعة قضائية تؤدي بنا إلى سجن سلا الزاكي”.
المستقبل: “سجن سلا الزاكي؟ ماذا تقول؟ هل تتكلم بجدية؟ هل أنت واثق مما تقول؟”.
اسمع للمرة الثانية عبارة سجن سلا فتفشل رجلاي فشلا ذريعا و تنهار نفسي انهيارا مضنيا، و أتصور نفسي أقضي أياما بل شهورا في السجن، و أتخيل نفسي في حالة من العذاب الشديد لا أرى فيه نور الشمس، و أتذكر في هذه اللحظة عائلتي التي لا تعرف شيئا عما و قع لي و للأصدقاء الأطر، و لا أعرف كيف ستكون ردة فعلهم إذا نحن بقينا معتقلين أياما أخرى و لا يتم الإفراج عنا يوم الجمعة ثامن أكتوبر. كنت أقول مع نفسي:” لن أخبر عائلتي بما وقع، و إذا تم الإفراج عنا يوم الجمعة سأقول لهم إنني بقيت في الرباط بسبب النضال”.
ثم أسأل أطر الصمود قائلا: “ما رأيكم، هل سنخرج غدا؟”.
الصمود: “نحن متأكدون أننا لن نتجاوز قضاء ثمانية و أربعين ساعة من الاعتقال، و غدا سيتم تقديمنا أمام وكيل الملك”.
المستقبل: “أنتم متأكدون مما تقولون؟”.
الصمود: “لا تخف يا صاحبي، سيكون خيرا إن شاء الله، فليس لديهم حجة تبرر اعتقالهم لنا، و ليست لديهم حجة تبرر مثولنا أمام المحكمة”.
مع الساعة الثامنة مساء سمعنا دقات على الباب الحديدي، فتح الشرطي الباب و سمح للشخص بالدخول ثم انصرف إلى بيت المراقبة. كان هذا الشخص مسؤول أمن رفيع المستوى. تقدم منفردا نحو زنزاناتنا، حيانا تحية فيها لطف و تقدير و قال: “هاذ المرة دازت لطيفة” أي باللغة الفصحى: “هذه المرة مرت قضيتكم لطيفة” ، و أضاف قائلا: “كم مرة نصحتكم بعدم الاقتراب من باب السفراء؟ و كم مرة نصحتكم بعدم حصر الطريق العام؟ نحن نعطيكم الحرية للتعبير عن قضيتكم و لكنكم تخرجون عن خطوط حمراء يجب احترامها فتفعلون ما هو ضد القانون و المصلحة العامة. إنكم لستم مثل مجموعة الشعلة التي كانت تعرف ما لها و ما عليها. نحن لا نظلم أحدا، أنتم الذين تظلمون أنفسكم...فحذار حذار بالنسبة للمرة المقبلة...”
اطمأن الجميع لصفة “لطيفة” التي استعملها هذا المسؤول، تكلم أحد منا قائلا: “نحن لم نفعل شيئا لقد اعتدوا علينا ظلما و بهتانا، لكن لا بأس هذه تجربة و نحن نحترم ما يقوم به رجال الأمن”. و تكلم آخر مضيفا: ” متى سنخرج من هنا يا سيدي العميد؟ نحن لم نفعل شيئا ضد القانون، نحن مثل آلاف من المعطلين ندافع عن حق يمنحه لنا الدستور هو الحق في الشغل...فهلا تفهمت وضعنا و حالتنا الحزينة هاته”.
حاول المسؤول إقناع كل واحد منا بما قاله محملا المسؤولية لكل واحد منا، و لم يحاول أن يخبرنا بوقت خروجنا من المعتقل و لا أن يطمئننا بما سيأتي فيما بعد. ترك حالنا كما هو عليه و ترك موضوع اعتقالنا مبهما غير واضح اللهم استعماله لصفة “لطيفة” التي نزلت بردا و سلاما على قلوبنا كما ينزل الغيث على الأرض العطشى، ثم سلم علينا باحترام و انصرف إلى حال سبيله.
بقينا لوحدنا برفقة بعض السجناء كاليتامى الذين فقدوا آبائهم. رجعنا نتبادل أطراف الحديث حتى نقضي وقت ليلتنا الحزينة، أخذنا في مناقشة ما قاله هذا المسؤول الأمني، و استفضنا في موضوع ما بعد الاعتقال و المتابعة القضائية فغرقنا في تأويلات جهنمية زادت في إنهاك أنفسنا و إيلام رؤوسنا.
و يأتي منتصف الليل، فنستسلم لقضاء ليلة أخرى مفترشين الأرض، آملين مجيء صباح يوم الجمعة بفارغ من الصبر. افترش الأطر الأرض و غطوا أجسادهم المرهقة و حاولوا شيئا فشيئا النوم. أما أنا، و بسبب التعب والتفكير المضني، استسلمت كذالك للنوم فاستلقيت على غطاء افترشته على الأرض حتى أستريح قليلا، لكن للأسف لم أستطع النوم بسبب البرد. أنهض واقفا كي أمشي، ثم أعود للنوم، لكن في النهاية لم أجد سبيلا من المشي طول و عرض الزنزانة حتى صباح يوم الجمعة الذي أنبلج بعد صبر مضني طويل.
أشرق صباح يوم الجمعة، أخذنا فطورنا و أكلنا بعض المأكولات التي بعثتها المجموعة الوطنية التي نحييها هنا على مجهوداتها. مع الساعة العاشرة جاء مفتشو الشرطة الذين اخبرونا بأننا سنذهب معهم إلى وكيل الملك بالمحكمة الابتدائية بحي العكاري. سررنا لهذا الخبر لأننا سنخرج
من عالم السجن إلى المحكمة الابتدائية أو المثول أمام وكيل الملك
استعددنا للخروج من الزنزانات، لكن قبل خروجنا أمرنا الشرطي المسؤول عن حراستنا بكنسها من بقايا المأكولات التي تناولناها طيلة مدة اعتقالنا، و طي الأغطية السوداء وجمعها في جانب من جوانبها. قمنا بما أمرنا به الشرطي بنشاط و حيوية ملؤها الفرحة و الابتهاج لأننا سنخرج من الظلمة و العذاب و الحبس إلى النور و الحرية و الانطلاق في العالم الواسع، و لو أنه ما زالت أمامنا عقبة المحكمة و أن ما نحن فيه ليس الا مرحلة أولى. تقدمنا نحو مكتب الحراسة حيث أرجعت لنا الشرطة حوائجنا التي كانت قد احتجزتها لديها حينما قررت اعتقالنا مدة ثمانية و أربعين ساعة، و كان من بين هذه الحوائج: الهواتف النقالة، المال، أحزمة البنطلونات، الحقائب...الخ. كان الحديث مع الشرطة في هذه الآونة أكثر مودة و طلاقة من الأوقات الأخرى لأنهم أنهوا مهمتهم معنا و مع باقي السجناء و نحن أنهينا مدة اعتقالنا و سنغادر المعتقل و في قرار أنفسنا إيمان ينطق صادقا أن تكون مغادرتنا مغادرة بغير رجعة إليه إن شاء الله.
بعد ذالك صافحنا الشرطيين اللذين كانا مكلفان بحراستنا باحترام و تقدير و ودعناهما و في نفوسنا شيء من التأثير بقي مرتسما في قلوبنا و مشاعرنا بسبب العلاقة التواصلية التي جمعت بيننا و بينهما في المعتقل. ثم انطلقنا مع الشرطة السرية بعدما أحكموا وثاقنا بأصفاد في معاصم أيدينا. و جدنا خارج دائرة الشرطة سيارة شرطة مخصصة لنا، أركبونا فيها و انطلقوا قاصدين المحكمة الابتدائية بحي العكاري. كان تأثير ضوء الشمس عجيبا لأننا لم نراه لمدة يومين كاملين! إننا لا نعرف قيمة شيء حتى نحرم منه!و متى سنعرف سر ضوء و حرارة الشمس و جلال خالقها و نحن معتادون على رؤيتها كل يوم؟! و كيف سنعرف قيمة ما خلقه الله و نحن عنه غافلون؟! بالطبع سنعرفه و نشعر به لما نفتقده و نحرم منه، سنعرف أن السعادة هي قريبة منا و لا نعير لها اعتبارا، سنعرف قيمة الأشياء البسيطة التي نمر عليها مرور الكرام، سنعرف أن الإيمان بقيمة ما خلقه الله هو من أعظم الإيمان، سنعرف قيمة حديث نبينا محمد عليه أفضل الصلاة و السلام:”من أصبح آمنا في سربه،معافى في بدنه، له قوت يومه، فقد حيزت له الدنيا بحذافيرها”.
انطلقت السيارة تجري عبر شوارع الرباط، شعرنا بشيء من الحرارة لأن الجو كان مشمسا و جميلا عكس ما كنا عليه من البرد و الرطوبة في الزنزانات. و صلنا إلى المحكمة فوجدنا مجموعة من أطر المجموعة الوطنية في انتظارنا، أشرنا إليهم بأيدينا رافعين إشارة النصر و مضينا مع الشرطة إلى داخل المحكمة. كان المكان الذي دخلنا إليه عبارة عن بهو واسع كبير، و أمامه كان درج يصعد منه إلى المكاتب التي كان يحرسها عناصر من الشرطة. فنحن لم نقدم أمام محكمة رسمية و إنما قدمنا أمام مكتب سيادة و كيل الملك. كان بعض المواطنين جالسين في جانب على كرسي خشبي طويل، أما نحن فجلسنا في جانب آخر على كرسي خشبي طويل مماثل.
انتظرنا تقريبا نصف ساعة، جاء عندنا المحامي المكلف بالدفاع عنا فطمأننا بأن الأمور ستمر بخير. بعد ذالك نودي علينا فانطلقنا صحبة المحامي وراء الشرطي الذي أدخلنا إلى مكتب وكيل الملك. و قفنا مصطفين الواحد جنب الآخر، و جلس المحامي على كنبة صغيرة كانت بجانب وكيل الملك. نادى علينا الوكيل بأسمائنا و تأكد من هوياتنا و سأل جميع الأطر نفس الأسئلة تقريبا:
- هل اعتديت على شرطي؟
- هل استعملت الحجر في المسيرة النضالية؟
- هل استعملت غصن شجر في المسيرة النضالية؟
- هل تعاركت مع شرطي؟
كانت إجاباتي الشخصية على هذه الأسئلة بالنفي القاطع مستعملا بشكل عفوي صادق: أبدا! أبدا! أبدا! أبدا!...كما أن إجابات الأطر جميعهم كانت بالنفي القاطع متحرين في ذالك الصدق و الأمانة و المسؤولية.
بعد ذالك سأل وكيل الملك المحامي قائلا: “ماذا تطلبون مني سيدي المحامي؟
أجابه المحامي قائلا: “أطلب من سيادة و كيل الملك حفظ الملف”.
أجابه سيادة وكيل الملك قائلا: “الحفظ شيء كثير!”.
سكت الجميع، ثم بعد بضع ثواني تكلم وكيل الملك و كلنا واجمون خائفون:”على أي سنصلي صلاة الجمعة ثم نعود لننظر من جديد في قضيتكم”.
انصرف وكيل الملك لتأدية صلاة الجمعة، في حين بقينا في انتظار رجوعه بفارغ من الصبر. دام انتظارنا نصف ساعة تقريبا. خلال هذه المدة الزمنية التحق بنا المحامي الذي عمل جاهدا على تهدئة نفوسنا و طرد الروع منا. كانت أسئلتنا تتقاطع مع السؤال المحوري التالي:”هل سيتم الإفراج عنا؟”. كان جواب المحامي كالتالي و هو يلخص كل الحجاج الذي استعمل من أجل تشجيعنا و بث الثقة في نفوسنا: “إنهم يحترمونكم غاية الاحترام، انظروا أين أجلسوكم! أجلسوكم في مكان محترم يليق بقيمتكم، فهم لم يدخلوكم مع المتهمين في بيت-زنزانة لانتظار دوركم، لا تقلقوا فان شاء الله ستمر الأمور بخير و على خير...إنني أدافع عن ملف المعطلين لأنه ملف اجتماعي بامتياز، فما تطالبون به هو حق شرعه الدستور...”.
لما رجع وكيل الملك من صلاة الجمعة إلى مكتبه نادى علينا الشرطي لمقابلته من جديد. تقدمنا متوجسين خائفين من حكم يكون ضدنا. دخلنا إلى المكتب و اصطففنا الواحد جنب الآخر. طلب منا الوكيل أن نوقع على أوراق فوقعنا عليها، ثم نظر إلينا و قال: “هذه المرة سنعفو عنكم و لكن حذار أن أراكم هنا مرة ثانية، فاذهبوا فأنتم الطلقاء”. شكرنا سعادة وكيل الملك و خرجنا نكاد نطير من الفرحة و الانشراح، فقد تخلصنا من عبء ثقيل و من هم أنهك أجسادنا و أرهق تفكيرنا.
خرجنا من المحكمة أحرارا طلقاء إلى عالم الحرية و الشمس و الحياة الرحبة الواسعة، خرجنا متعبين مرهقين لكن سرعان ما ذهب عنا الحزن و الخوف و التعب و الإرهاق حينما عانقنا نور العالم الخارجي و التقينا بأصدقائنا الأطر من المجموعة الوطنية الذين استقبلونا بالمصافحة و العناق و كلهم مبتهجون فرحون. فقد كانوا أكثر انشغالا و اهتماما بقضيتنا بحيث لم تكن أنفسهم لترتاح و تنام و نحن قابعون في السجن. لقد تحركوا للدفاع عنا لدى الهيئات الحقوقية و النقابية، و تعبوا أكثر مما تعبنا، و إننا لنشكرهم و نشكر هذه الهيئات الشكر الجزيل على تضامنهم و نضالهم الصادق.
تركنا وراءنا المحكمة و انطلقنا مع الأصدقاء الأطر و كلنا فرحة عارمة امتزج فيها السرور بالبكاء، انطلقنا لنتوج هذه الفرحة باحتفال يليق بها، انطلقنا عبر الفضاء الواسع لمدينة الرباط إلى أحد مطاعمها القريبة من الأسوار العظيمة لباب الحد. كانت الساعة تشير إلى الثانية بعد الزوال و هو وقت الغذاء. جلسنا على طاولة الغذاء، أكلنا و شربنا و استرحنا و تحدثنا حديثا ذا شجون. ثم بعد ذالك طلبنا من أصدقائنا الأطر أن يتركونا نذهب إلى حال سبيلنا، أن نعود إلى منازلنا لنرتاح نفسيا و نهتم بأمورنا أسبوعا أو أسبوعين. فكان أن رخصوا لنا عطلة كنا في أمس الحاجة إليها.
سلمت على الأطر و اتجهت صوب المحطة الطرقية القامرة حيث ركبت حافلة في اتجاه الدار البيضاء. كنت أشعر بتعب مضني، كنت أرغب في حمام ساخن يعيد الحرارة إلى جسدي الذي افتقدها بسبب برد و رطوبة الزنزانة. كان تخيلي و أنا في الحمام مستعيدا ما جرى شيئا لا يقدر بثمن.
بقلم بونجوم يوسف Bounjoume Youssef
[email protected]
Facebook: jozef rbt
Tel: 0665627768
مجموعة “المستقبل” للأطر العليا المعطلة.
الدار البيضاء، يوم الاثنين 13 دجنبر 2010.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.