محمد الصادقي العماري / [email protected] لقد حاولنا في مقال سابق الحديث ولو بإيجاز عن قضية الاستبداد بتمظهراتها الفقهية والسياسية، واليوم في هذه الورقة نحاول الوقوف عند قضية أخرى لا تقل عنها أهمية، إنها إشكالية الفعل والتأثير في الواقع لمن؟ هل هو للفقيه؟ أم للسياسي؟، إن على مستوى الخطاب والتواصل مع الآخر، أو على مستوى الممارسة أو الفعل في الواقع الإنساني. ولعل هذا الموضوع له علاقة بإشكال الحدود بين الدين والدولة، ولقد تكلم فيه الكثير من الباحثين والمهتمين بالشأن الديني والسياسي، لكن بالرجوع إلى تراثنا الاسلامي لا تعوزنا الآيات، ولا الأحاديث، ولا أقوال السلف والفقهاء...، التي تؤكد على أن الإسلام دين ودولة، السياسة دين، والدين سياسة، بل أكثر من ذلك وهذا ما يهمنا في هذه المقالة، هو أن الدين والدعوة مسيرة وحاكمة على الدولة. لكن لا يفوتني التذكير أن هذا التقسيم والتمييز بين الفقيه والسياسي هو أمر دخيل على الثقافة الإسلامية، لأننا لا نجد في تراثنا هذا التمييز، حيث لا نجد الفقهاء يفرقون بين السياسة والشريعة، فكلما ذكروا السياسة إلا ويربطونها بالشريعة فيقولون “السياسة الشرعية”، كما أنهم كانوا يشترطون في تولي المناصب والمسؤوليات في الدولة، الفقه والعلم، حيث كان الفقه تطبيقا عمليا في حياتهم، فالمحتسب في السوق كان فقيها، والقاضي كان فقيها، والإمام كان مجتهدا وفقيها. ومادمنا اليوم في ظل الدولة المدنية العلمانية، التي تفصل الدين عن الدولة، فطبيعي أن نجد هذا التمييز والفصل الجلي لهذين المكونين، بل أكثر من ذلك تغليب السلطة السياسية على السلطة الدينية. في عصرنا أصبحت الدعوة منزوية، بعيدة عن الدولة، مضغوطة من قبلها، محاربة مضطهدة، أو مروضة مدجنة، فالفقيه أصبح اليوم رهن إشارة السياسي، يستعمله متى شاء ويستغني عنه متى شاء، وبذلك أصبح رجال السياسة هم أصحاب الأمر والنهي، أحرار في تصرفاتهم، كلمتهم نافذة على الشعب وحتى على الفقهاء، حراس الشريعة، وممثلوا الدعوة. لكن اللافت للانتباه هو أن النخبة الدينية في بلدنا هي التي تقدم التنازلات، وهي التي تهمش نفسها وتسمح بأن تكون مفعولا بها، لأنها لا تبدي رأيها، أقصد رأي الشرع في كل المناسبات وفي كل الأحداث والقضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ...، وذلك لإخضاع الواقع الإنساني لوصاية الشريعة، ولا تترك الفراغ ليملأه غيرها. إن ضعف النخبة الدينية في التعاطي مع هموم ومستجدات الواقع قذف بها إلى هامش المجتمع، وبعدت الهوة بين الطرفين، وعجزت اليوم كل التنظيمات والمؤسسات والجمعيات ...، كيفما كانت برامجها إلى إعطاء الفقيه ذلك الدور الفعال في المجتمع الذي كان له في تاريخ الإسلام. كان للفقهاء الأربعة أصحاب المذاهب المشهورة: الإمام أبو حنيفة، والإمام مالك، والإمام الشافعي، والإمام أحمد، وغيرهم من الفقهاء، مكانة رفيعة في قلوب الناس في زمانهم، كان كلامهم نافذ عند الشعب، لأنهم كانوا يلامسون قضايا الناس ويبدون آراءهم في كل صغيرة وكبيرة، يجتهدون لواقعهم يحملون هم أمتهم ويدافعون عن الشريعة بالدليل والبرهان لا يفكرون في أنفسهم إلا قليلا. لكن خلف من بعدهم خلف أضاعوا الشريعة والعقيدة، وشوهوا التراث باجتهادات وفتاوى لا علاقة لها بالشريعة، وأعطوا الدنية في دينهم، بعيدين عن مشاكل مجتمعهم، هذا المجلس العلمي في بلدنا يصمت سنينا عديدة، ويتكلم في أمر جزئي، أو في أمر لا يخصه، أو ليس من اختصاصه، لا نسمع له صوتا إلا إذا أذن له السياسي في ذلك، يترك القضايا المحلية ويتكلم في شؤون الدول المتقدمة -التي الإسلام والمسلمون فيها أحسن حالا مما عليه الأمر في الدول العربية- كالصوامع في سويسرا، وهم يعلمون أن ذلك كان باستفتاء الشعب واستشارته، لا كما هو الحال عندنا في المغرب. أما القضايا المحلية فلا تهمه، فهو مستغني عنها لأن غيره-السياسي- متكفل بها، يخطط، ويبرمج، ويفتي، ويشرع، أصبحت النخب الدينية في بلدنا تابعة للنخب السياسية، فلا فعل لها، ولا تأثير لها في الواقع الإنساني، فلا حول ولا قوة إلا بالله. سبحان الذي تتم بنعمته الصالحات