ظل الإسلام والمسلمون لقرون عديدة بسبب افتراق القرآن والسلطان، هذا الافتراق الذي جر على الأمة كل هذه الويلات التي لا حصر لها، يرزحون تحت ظلمين أحدهما أشد وأعظم من الأخر، ظلم الفقيه المستبد وظلم السياسي المستبد، وهذه الظاهرة الاستبدادية مستمرة إلى وقتنا الحاضر، حيث نجد الفقيه المنهزم المقلد، المتملص من مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، اللاهث وراء عرض الدنيا، وكذلك السياسي الذي يتبرء من مسؤوليته، في سياسة الدين والدنيا وفق مصالح ومقاصد الشرع، فهما وجهان لعملة واحدة وهي الظلم والاستبداد على الآمة. إن المستبد الفقيه، أو عالم البلاط، لا يهمه مصير الأمة وواقعها، فهو يبحث عن تحسين أوضاعه، والرقي في السلم الإداري، والتقرب ما أمكن إلى مراكز القرار، فأشبه في ذلك السياسي العلماني، فكلاهما لا يهمه إلا استخلاص المنافع الخاصة على حسب المصالح العامة. في الماضي كان التقرب إلى البلاط والحكام بالفتاوى المريحة المسوغة للوضع القائم آنذاك،ولم يختلف الأمر كذلك في العصر الحالي، حيث تجد العلماء وأساتذة الشرع يتنافسون في الانخراط في المجالس العلمية، والمؤسسات الرسمية، والمشاريع والأوراش الرسمية التابعة للدولة، مساهمين من جهتهم في الاستبداد على الأمة، متناسين دورهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهم صمام الأمان في الأمة، وهم ورثة الأنبياء، والشعلة التي يهتدي بها الجميع. ورغم هذا كله فإن النخبة الدينية اليوم لم يعد لها اعتبار ولا فعل، أمام النخبة السياسية في وطننا العربي والإسلامي، وليس لها مساحة ولا فسحة تعبر فيها عن رأيها ومواقفها، إلا بعض القنوات المحتشمة، والتي تتعرض للإغلاق والتضييق من فينة لأخرى، أو في ندوات ومحاضرات داخل مجالس علمية أريد لها أن تبقى محدودة العطاء، كما هو الحال في المغرب. إن الاستبداد الفقهي في نظري أشد وأفحش من الاستبداد السياسي، لأن المستبد الفقيه هو صاحب مرجعية دينية تؤطره وتفرض عليه الامتثال لمقتضياتها، فتخليه عن مرجعيته والطعن فيها، إن بالحال أو المقال، أو الانهزام المعنوي في التعاطي مع القضايا الفكرية المطروحة على الفقيه المستبد المنحبس، يعطي للغير انطباعا بعدم مصداقية المشروع الذي يحمله، فهذا الفقيه هو نقمة على الأمة الإسلامية وعقبة أمام مشروع التجديد والنهضة التي تنشدها الأمة في مستقبل الأيام. أما المستبد السياسي المتأله على الخلق بالسلطة والمنصب، الذي شغلته المشاكل الإدارية اليومية عن سؤال المصير واليوم الآخر، فقد خلا له الجو لعمل ما يشاء، لغياب رجال الدعوة من الساحة السياسية، فهو لا يعرف إلا لغة السياسة، فلا تحدثه عن المؤهلات العلمية أو الأخلاقية فهو لا يعرف عنها شيء، لأن دخوله لعالم السياسة لم يكن إلا لهدف واحد هو الاستفادة من المنصب ما أمكنه ذلك، لأنه لا يضمن الرجوع إليه ثانية. فكان وجوده في السلطة مؤسس على النفع الخاص بدل النفع العام والمصلحة العامة، ومن هنا منطلق استبداديته، فهو يتحين الفرص من منطلق مسؤوليته لانجاز مشاريعه عوض مشاريع الأمة، التي قلد بمنطق العقد الاجتماعي مسؤوليتها. لقد حرف هؤلاء مفهوم السياسة القائم على معنى المصلحة وتسيير الشأن العام، بما يحقق النفع العام المجرد، واحترام حقوق وواجبات الحاكمين والمحكومين في نطاق الاستطاعة البشرية، فالحاكم أو المسؤول السياسي ما هو إلا فرد من أفراد المجتمع، وثقوا بكفايته لحراسة الدين وسياسة الدنيا، فليس له أن يستبد بالأمر دونهم، وأنه هو مصدر السيادة والقوة والنفوذ. فعلاقة الأمة بالساسة والمسؤولين، هي علاقة تنبني على إسداء النصح والإرشاد والإخلاص في العمل، وامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه، وصيانة الأمة من كل مكروه داخلي أو خارجي، لأن القاسم المشترك بين المسؤول السياسي والشعب هو الوازع الديني، وليس القوة والسلطة والتحكم والمال. هذه ورقة موجزة عن جانب من جوانب الاستبداد الفقهي والسياسي، والتي سنحاول الوقوف على جوانب أخرى منها في مقالات مقبلة بحول الله. سبحان الذي تتم بنعمته الصالحات. [email protected]