الدار البيضاء : عالم من الطوابق ، النوافذ. من كل نافذة يتدلى حبل غسيل، يحمل ألوانا وأكواما من ملابس الإنسان، يفضح سر الإنسان . الطوابق تصطف فوق بعضها مثل صناديق مربعة. قد تضم العمارة عشر طوابق بعشر أسر، أو أكثر . ما أسميه صناديق إسمنتية تشبه " صندوق لوقيد"، أو علب سرين يتكدس فيها البشر. الدارالبيضاء : في الليل عالم من الأضواء، تائهة أنا في هذا اليم من المصابيح وانعكاس شعاعها الضوئي وسط الظلام . واجهات المحلات والمنازل تتشابه بشكل مثير. والوجوه البشرية : تائهة، مسرعة، منشغلة قلقة، ملهوفة متلهفة ، مذهولة لاهثة . المثير والاستجابة " جري علي نجري عليك " من أين ؟ إلى أين ؟ لست أدري. الدوامة تدور وتدور كرحى الطاحونة، وحمار الطاحونة هنا، هو الانسان . الدارالبيضاء : فضاء مفتوح من البشر الشاحنات، الحافلات السيارات الخاصة والعمومية، وسائل النقل تتحرك في كل الاتجاهات. السباق على الطريق، إنه جنون السرعة، جنون اليقظة، جنون البشر، بشر بشر بشر. يجري يسرع يتسابق يلهث يحلم يتخيل يظن …لكن لا يصل لا يسمع لا يرى لايتكلم . عالم يتحول فيه الإنسان إلى آلة تؤمر فتطيع، يضغط لها على الزر فتعمل ميكانيكيا، دون نقاش ولا علم، ولا فلسفة في الحياة. الدارالبيضاء : البيئة مريضة معلولة معتلة، أكوام النفايات في كل مكان . الدخان يتصاعد يخنق الأنفاس والأجواء، يطرد الأوكسجين من الفضاء. تنتشر أمراض الحساسية بأنواعها، الكل يختنق، إختناق إختناق إختناق . بت فيها بضع ليال ، في الليلة الأخيرة صحت بأعلى الصوت : إني أختنق أختنق أختنق، فهل من منقذ ؟ قررت الرحيل : لا أستطيع العيش في عالم ملوث مصاب بالرعاش. تهت بين الأحياء المتشابهة، وأبواب العمارات المستنسخة ، وصفوف السيارات المصطفة على أشرطة طويلة. مدينة الدوار والتيه تذكرني بمدن الملح . البيضاء مدينة من الملح يذوب فيها الإنسان " كفص ملح في كوب ماء ". ذابت كل النقود التي جلبتها معي في رحلتي، الغلاء يكوي يدا، يجفف جيوبي، حافظة نقودي وحقيبة يدي. إنه الذوبان، صراع البقاء بين الملح والماء . الدارالبيضاء : أمر بشارع مسرعة للحصول على وسيلة نقل تقلني إلى محطة القطار. الشارع طويل إسمنتي، لا توجد به وسيلة للاستمتاع . وأنا بسيارة الأجرة رأيت حديقة بها أشجار، فرحت. لكن عندما انتبهت، كانت الحديقة محاطة بجدارإسمنتي سميك، يحجب عني جذور الأشجار وتراب الأرض ، حزنت. نزلت جلت بناظري باحثة عن مساحة ترابية ، لم أجدها . المكان إما صفيحي أو إسمنتي ، بهذه المدينة، اللون الرمادي طاغ والشارع طويل، والبنايات عالية عالية عالية . رفعت عيناي إلى السماء، خيل إلي أنها رمادية ، أصبحت لفافة بين الإسمنت والصفيح . أريد العودة إلى مدينتي الترابية الأثرية التراثية. لا أريد هذا المجال الغامض الغامق، الغارق في اللون الرمادي القاتم، الغياب يلف المكان. قررت أن أحمل حفنة تراب، في حقيبتي كلما سافرت إلى مدينة، تلبي نداء السرعة والشياكة للقرن الحادي والعشرين . الدارالبيضاء : بحر متلاطم الأمواج من السماوات الطرقات، الحدائق المحتجزة ، الحافلات المتعددة، القطارات السريعة سيارات الأجرة الكبيرة، والصغيرة الحمراء السيارات الخاصة ، سيارات العمل، والشركات والمدارس وسيارات الإشهار، الترامواي. الركاب المسافرون، السياح الشباب، المراهقون يطلقون عبارات دونية في الشارع، وفي الحافلات خاصة ، حيث لا يؤدون ثمن التذكرة : " قالوا لنا طلعوا لحد السوالم تفرجوا فالماتش ، وغاتشبعوا شوا، الساعة شبعنا … ". الساحات العمومية : ساحة المارشال، المدينة، المكانة، الكرة الأرضية. العمارات تناطح السحاب تحجب الشمس . إشتاقت عيناي إلى قرص الشمس ظللت أبحث عنها معلقة رأسي إلى السماء، أثرت ضحكات ابنتي . المتسولون المتسولات، أطفال الشوارع، بنات الأرصفة، وقفت أتابع كيف يوقفن السيارات باحترافية، جذبتني ابنتي : " أتركيهن في حالهن، أنت لاتستطيعين لهن شيئا، ياأمي. " . حزنت. اللصوص النشالون، التجار يبيعون كل شيء وأي شيء، ربما حتى البشر. إنها مدينة تجارية بامتياز. العاصمة الاقتصادية للمغرب . الدارالبيضاء : مدينة المتناقضات، الأحياء الراقية، راقية، راقية، راقية، تساير العصر في زمن العولمة، مع مطلع القرن العشرين. والأحياء الهامشية تغرق في البؤس والتهميش والإقصاء. النفايات مكدسة في كل مكان. هي مدينة المخاطر أيضا، مما أثار انتباهي على الطريق : أسرة من خمسة أشخاص تستقل دراجة نارية صغيرة، الأب والأم وثلاث أطفال، الطفل أمام والده على المقود، والطفلتان معصورتان بين والديهما، الأب السائق والأم مدفوعة إلى الهامش على العجلة الخلفية، بدون حماية ولا أمان. إنها مدينة الغرائب والعجائب. المدينة الغول الجائع، يفترس الشجر والحجر والبشر. المدينة الأكول تبتلع نفسها. مدينة مائعة، مارقة، ماردة، متمردة. مدينة مقامرة، مغامرة، مسامرة، مراوغة. مدينة مرتبكة، مرتعدة، مرتعشة. الدارالبيضاء. تصبحون على وطن، من مدن هادئة جميلة، صديقة للبيئة وللإنسان. أهنئكم بالسلامة من العيش في مدينة، مرتعشة مرتعدة، مرتعبة مرعوبة. بتاريخ 25-09-17