المغرب ، كما هو معروف ، أخذ منذ تنظيمه لأول انتخابات جماعية سنة 1960 بالنظام التطوعي متبعا في ذلك التقليد الفرنسي ، حيث يتقاضى المنتخبون تعويضات عن الانتداب المحلي وليس أجرا كما هو الحال في الانتداب الاحترافي الذي تأخذ به بعض البلدان أمثال هولندا وإسبانيا والدانمارك... غير أنه منذ سنة 2002 تاريخ صدور الميثاق الجماعي 78.00 بمرسوم حمل توقيع الوزير الأول السابق عبد الرحمان اليوسفي بدأت نوع من المراجعة السياسية للاختيار التطوعي على صعيد الانتداب المحلي دون القطيعة معه مع استحضار معطى أساسي أن المغرب يسير حتما ،إذا ما نجح المسلسل الذي ينهجه ، إلى إلغاءه واستبداله بالنظام الاحترافي . هناك مؤشرين أساسيين تشي بوجود هذه النية لدى الدولة دون التعبير عنها بوضوح لما لها من تأثير عميق على صعيد الاختيار السياسي لنمط من اللامركزية : المؤشر الأول هو أن الدولة سعت إلى رفع من تعويضات المنتدبين محليا منذ سنة 2002 وطرحت من جديدا مسألة رفع من سقفها بمناسبة التغييرات التي أدخلت على الميثاق الجماعي الجديد بموجب القانون رقم17.08 شملت بالإضافة لأعضاء الجهاز التنفيذي وكاتب المجلس ونائبه ،رؤساء اللجان ونوابهم ، والمؤشر الثاني يتمثل في سعي الدولة إلى بلورة مفهوم ذو نفحة مقاولاتية للجماعات المحلية ولو أن هذا التصور ما يزال مشوشا وغير واضح في مرجعيته السياسية والفلسفية فضلا عن كونه يحتاج لسنوات من التطبيق لكي تبرهن التجربة مدى ملائمته للواقع المغربي أو تنافره معه . وليس مصادفة أن يدشن هذا المسار مع نهاية ما سمي بالتناوب التوافقي الذي أعتبره الكثيرون بمثابة نهاية للصراع على السلطة السياسية من قبل البرجوازية المتوسطة ولا سيما الفئة القليلة منها التي التحقت بطبقة الأثرياء جراء انتفاعها بالريع السياسي المخزني نظير القيادات السياسية للقوى الديمقراطية ، غير أن أهم ما في هذا المسار هو إلغاء التناوب على صعيد الجماعات المحلية من خلال إعدام الفصل السابع من الميثاق الجماعي لسنة 1976 الذي كان يتضمن إمكانية إقالة الجهاز التنفيذي للمجلس الجماعي بعد انصرام السنتين على تنصيبه أو تغييره بالكامل. لقد شكلت الخلفية الأساسية التي توخاها المشرع من خلال متوالية الرفع من سقف تعويضات المنتدبين المحليين أهم معالم أزمة الاختيار : اختيار نظام التطوع من أجل المصلحة العامة والذي أدى في المغرب إلى نتائج عكسية،مع أنه يعتبر من الناحية النظرية من أسمى الاختيارات ، فلم يفرز نخب محلية متفانية في خدمة الصالح العام بل أنتج ، على النقيض من ذلك ، ظواهر الفساد السياسي والمالي والإثراء بلا سبب جعلت الجماعات المحلية بالمغرب تحتل الدرجة الأولى في الفساد وسوء التسيير المالي والإداري ولو أن هذه الأزمة هي امتداد للمعضلة السياسية والدستورية المتجلية في نظام الحكم الفردي الاستبدادي الذي كان مسئولا أساسيا في إفساد مسلسلات الاستحقاقات السياسية التي تشكل فيه النخب المرتشية ، وهي صنيعته ، جزءا من معادلة الأزمة . ولعل الجواب الذي تقدمه الدولة لتجاوز واقع سوء التسيير في الأجهزة المنتخبة من خلال الرفع من سقف التعويضات الممنوحة لهم يثير العديد من التساؤلات أبرزها هل يمكن للمنتدب المحلي الذي يعتبر الانتخابات وسيلة للترقية الاجتماعية بطرق غير مشروعة أن يتوقف على الترامي على المال العام من خلال رفع سقف التعويض المالي المخول له ؟ فبالنظر لطبيعة التعويض الذي يمنح لرؤساء الجماعات المحلية يتبين مدى سخافة هذا الطرح وفشل معادلة رفع السقف للحد من الرشوة. فمثلا رئيس المجلس الجهوي يتقاضى شهريا كتعويض عن الأتعاب :7000 درهم ورئيس المجلس الإقليمي أو العمالة 6000 درهم، رؤساء الجماعات القروية 1400 درهم ، الجماعات الحضرية البالغ عدد سكانها 25 ألف نسمة فما دون 2100 درهم .. إلى أن نصل إلى أعلى تعويض يتقاضاه رؤساء الجماعات الحضرية التي يتجاوز عدد سكانها مليون نسمة أي 6000 درهم . لقد استشعرت الدولة من خلال التجربة الجماعية التي نودعها أن قيمة هذه التعويضات لم تعط أدنى مؤشر إيجابي على تراجع الفساد لذلك تطرح من جديد رفع سقف التعويضات خلال التجربة المقبلة وهي في الواقع تسير نحو إلغاء نظام التطوع برمته نحو نوع من الاحترافية مما سيدخل المغرب في تخبط جديد ستكون له مضاعفات سياسية أبرزها تكريس العزوف السياسي ليس فقط وسط الناخبين بل سيشمل المنتخبين بدورهم بعد أن ألغى الميثاق الجديد أي سلطة رقابية للجهاز التداولي على الجهاز التنفيذي ووطد سلطة رئاسية مطلقة للرئيس الجماعي في مقابل استمرار الوصاية القبلية والبعدية للداخلية وسلطة الحلول والعزل والإقالة للرؤساء والنواب ، هذه الوضعية ستجعل رؤساء الجماعات المحلية ضعاف أمام سلطة موظفي الدولة والإدارة الترابية بشكل يلغي معنى وجود المعارضة والأغلبية على صعيد المجلس الجماعي وأحرى الحديث عن البرنامج الانتخابي الذي أصبح زائدا بعد أن رسمت وزارة الداخلية التوجهات الأساسية للجماعات المحلية في أفق 2015 ! بقلم: أبو علي بلمزيان