الجزء الأول- متابعة حوار فكري مع محمود بلجاج لايمكن أن تكون العملية العقلية فكرا إلا بوجود ذات مفكرة وموضوعا يفكر فيه . وكل فكر يعيش بمعزل عن موضوع واضح يستحق أن يعمل فيه العقل هو فكر طوباوي . والعلاقة بين الذات المفكرة والموضوع المفكر فيه ,و التي هي هي العلاقة بين الذات والموضوع ,لايمكن إلا أن تكون علاقة تلازمية , بمعنى أن وجود أولاهما يستلزم وجوبا وجود الثانية , والعكس صحيح , وفي إلغاء أحدهما إفقار للمعرفة وإفلات للواقع منها , حيث يقطع موضوع التفكير عن مجال نشاطه , و" المثقف المقطوع من نشاطه لايعود .....إلا إرادة قوة لم تحض بإشباع فعلي " , (1) ويمكن أن يكون للذات المفكرة عدة مواضيع تبحث فيها , كما يمكن أن يكون للموضوع الواحد عدة ذوات تعمل فيه بالفكر , وبدون هذه العلاقة بين الفكر وموضوعه أومواضيعه يعيش العقل حبيس ذاته وينغلق . والفكر ذاك إذن , قد يحبس ذاته إذا التزم بموضوع واحد ( = مجال واحد ) ,ويحرم صاحبه على نفسه حرية البحث وتنوعه , وبالتالي يعيش حالة من الانغلاق الفكري يولد عنده , حتما , العجز على الحوار المنطقي , وبالتالي يتم الالتجاء إلى مقارعة الخصم بالاستعانة بقوى غير فكرية , وغير معقولة , الشيء الذي يولد حتما ظاهرة التطرف الفكري (= التطرف السياسي الديني العسكري ... إلخ ) , ومن ثم ينزلق المفكر , ويموت عنده الابداع المشبع بالقيم الانسانية , ويحدث هناك شرخ بين ماهو قيمي وما هو إبداعي , حيث أن " الإبداع العلمي يقرر ما هو موجود , على حين أن الابداع القيمي يضيف إلى الوجود ويكمله ويضع فيه ما ليس فيه , ولهذا كانت القيمة هي ما يدل عى إنسانية الانسان " (2) , فغياب القيم عند الذات المفكرة يعني غياب الذات المفكرة نفسها ,ومن ثم ضياعها في متاهات التطرف غير المجدي . وموضوع البحث كذلك , إذا عمل فيه أكثر من باحث ازداد فيه التطور , وكثرت فيه التدخلات , وكلما اختص فيه فكر واحد ,واحتكره لنفسه وحاول حجبه على الذوات الأخرىات, ولدت عنده ظاهرة التطرف العلمي ( = نموذج السلاح الذري ) , وهكذا فإن المعرفة نسق من الرموز الموضوعية تنسب إلى نظام جبار عام وشامل ومتماسك يربط إبداعات الانسان بإنسانيته ويطلق عليه إصطلاح " الفكر" . علاقة الفكر بالوجدان : لاينكر أحد أن شخصية الانسان ليست فكرا وحده , ولا جسدا وحده , ولا وجدانا وحده , وإنما هي كيان من بنيات مختلفة هي بالإظافة إللى العقل : بنية وجدانية , وبنية حسية /حركية (= الجسم) , وهذه التشكيلة تتفاعل مع موضوع ما , فيتكون انطباع معين , تجاه هذالموضوع , هوا ما نطلق عليه " الرأي" الذي يجب ألا ننكره على صاحبه مهما خالفنا فيه , وإليه ترجع مسؤوليته . لكن يمكن أن نناقش أي تناقض بين عقل الشخص وبين وجدانه لأن فساد العلاقة بين العقل والجدان , يعني فساد الرؤية السليمة في ذات ما, لكون الثقافة هي مجموعة من معارف وقيم وميولات واتجاهات تتعلقة بالأفراد , فكل فصل بين القيم التي مجالها الوجدان والمعرفة التي مجالها العقل هو فصل بين الذات المفكرة كحامل للفكر وبين الفكر نفسه ,ويبدو كأن هذا الفكر عارض أتت به المصلحة وليس جوهرا , ويموت هذا العارض مع موت المصلحة التي يحتضنها , وهذا ما يطلق عليه الأيديولوجيا , أو الفكر الأيديولوجي . قلت سابقا أن الإنسان , في المجال الفكري , لايناقش ويساءل كشخص , بل يساءل كذات مفكرة تجاه موضوع ما, ونعني بالمساءلة تلك المحاكمة الموضوعية لفكر معين , وهي ما يصطلح عليها ب" النقد " , وهذا النقد له شروطه وطرقه ومدارسه . وأهم شروط النقد: المعرفة الكافية بطبيعة وميولات الفكر المراد نقده , ثم رؤية نقيضة لهذا الفكر يحملها الناقد, ثم التزام الموضوعية والحيادية في النقد , ثم الاستدلال بالمنطق السليم على عدم صلاحية الفكر المراد نقده , وأخيرا طرح البديل والاستدلال له . في فكر محمود بلحاج يحتار المرء في محاولة تمييزه بين بين ما معرفي صرف(= عقلي ) وبين ما هو نفسي وجداني (= العقدي ) فهل يعيش بالعقل أم بالوجدان ؟ وماذا يفعل قارئه أيتفق معه على مستوى العقل , وينكر عليه ما هو وجداني أم العكس ؟ . إننا إذا انتقلنا من صعيد النص التجريدي المفهومي إلى واقع المعاينة والمقارنة , ندرك أن فكر بلحاج يحكمه وافع فكري منقسم إلى شطرين : الشطر الأول أو النصف الأول هو لذاته ووجدانه وتراثه وخلفياته المستبطنة والعميقة , ويتمثل في الدين الاسلامي , فهو إنسان مسلم مؤمن بالدين (كما يقول في مقاله الذي بين أيدينا ) يفقه في الدين ما يفقه ويجهل فيه ما يجهل , فهو في ذلك يصرح (( العلمانية لاتنفي الدين )) , ولكنه ينفي أن لهذا الدين وجود واقعي تمت معايشته في زمن ما من تاريخ الاسلام, فلا أحد عاش فترة الازدهار للدين الاسلامي حتى في عهد عمر بن الخطاب , في نظره , والذي يقول فيه :إنه كا ن ينهج ((سياسة التمييز والتهجير الجماعي ضد فئات واسعة من المواطنيين )) , بل و ينفي إية علاقة للدين بالفكر والعقلنة, فنسب الدين كله إلى النقل , والعلمانية إلى العقل , يقول (( الخلاف القائم بين الاسلاميين والعلمانيين يصوغ نفسه أيديولوجيا في الخلاف القائم بين منهجة العقل ومنهجية النقل )) , ولا أدري كيف يفهم صاحبنا مسألة العقل والعقلانية , ومسألة النقل , ولا حتى الأيديولوجيا ؟ وإنني لأرى أن أي عاقل يقرأ عن الاسلام يجد فسحة عظيمة لإعمال الفكر والتدبر , حتى أن هناك إتجاه فلسفي إسمه الفكر الاسلامي , بل إن النصوص التشريعية (= القرءان والحديث النبوي) تعتمد العقلنة في توضيح الأمور وفي القرآن الكريم : " وفي أنفسكم ألا تبصرون " ٌ (3) , وهذه العقلنة في فهم الأمور أخذ بها ا المفكرون المسلمون وأشهرهم ابن خلدون المعروف بالمنهج العقلاني " كان يقدم دائما المعقول عن المنقول فيما يخص المسائل المحجوبة عن الادراك " (4) . ويذهب الكاتب إلى أني أرفض الديمقراطية لأني قلت أن دين اللاسلام هو دين الشورى والتشاور انطلاقا من قوله تعالى " وأمرهم شورى بينهم " , ولست هنا لأطرح مبدأ المقارنة بين الديمقراطية , ومسألة الشورى , لأن ذلك ربما يحتاج موضوع مستقل , ربما لن يكون في متناولي , ولكن بوسعي أن أقول , لو أن كل من خالف رأينا اتهمناه بالظلم وبأنه غير ديمقراطي لسقطنا من جديد في مأزق الفرق الكلامية حيث يكفر كل فريق الفرق المختلفة معه . إتهمني صاحبي بأني غير ديمقراطي لأني أرى أن الشورى بين المسلمين إذا أخذ بها , ستكون مساعدة على حل مشكل اختيار القائمين عل الدولة , وهذا يعني أنني فضلت ما يراه الله على ما يراه البشر , قال تعالى " وأمرهم شورى بينهم " . لقد حاولت أن أبين في مقالي السابق ,وذلك في حوار فكري صريح , أن : 1 إن الاسلام لم يتبلور تطبيقه بجدية في الدولة الحديثة وما قبلها إلى حدود الدولة الأموية , , لذلك فالحكم على فشل مبدأ الاسلام في السياسة والحكم, هو حكم مسبق , فلا يمكن الحكم بمرارة ثمرة , وهي لاتزال في أيدينا لم نتذوقها بالتجربة بعد , أي ليس من المنطقي رفض نظرية ما,ورميها بعدم الصلاحية وهي لم تتبلور في الواقع بعد , وأشرت إلى أن التجربة الاسلامية الصحوية قد كانت موجودة في العصر الراشدي , وصاحبي يرفض ذلك , وهو حر في ذلك ولكن لن أوافقه مطلقا. 2 قلت إن الحركات الاسلامية التي تطفوا حاليا على الساحة السياسية والدينية والفكرية , هي حركات ذات نزعات : إما توفيقية أو تلفيقية أو أو تحييدية أو عدمية , ووضحت بعض الجوانب في كل منها , وقلت إن مجمل فحواها , هو أنها تعمل على أن يستيقظ الاسلام , وأهملت يقظة المسلمين , فأغلب تركيزها منصب على العقدي قبل المعاملاتي , (راجع المقال تحت عنوان : الاسلام بين العلمانية والحكم المسبق ....... على نفس الموقع ) , إن الدعوة إلى اليقضة الاسلامية اليوم هي دعوة لاتضع مسؤولية التغيير على عاتق المسلمين , إنما تنادي بمسؤولية الإئمة ورجال الدين على الناس , فهي بذلك تبعد المسلمين كجماعة ,عن اتخاذ القرارات , حيث ذلك من أعمال الأئمة , و لأن , أيضا , يقظة المسلمين الهدف منها مواكبة العصر واحتواء كل الثقافات والعلوم مع الاعتزاز بالمرجعية الاسلامية , حفاظا على الهوية الاسلامية , وكسب القدرة على امتصاص الصدمات , وليست يقظة المسلمين في المظاهر , وليس اعتباطا أن يكون مجال القصد هنا الدين السليم وليست مظاهره , حتى يتم سيادة المنضومة المعرفية القيمية , ويتم اعتماد منطق الاستبطان , "وعلم الكليات مع إهمال للاستقراء وعلم الأعراض" وتحويل الدين كله إلى الالهيات وإهمال الطبيعة والعلم المدني الحديث . 3 قلت إن أخطاء بعض المسلمين لايجب أن ننسبها إلى الإسلام بسبب أ ن مصادر الأخطاء هم بعض المسلمين وليس جميع المسلمين . هل العقل للغرب والقلب للشرق ؟ (5) يقول محمود بلحاج (( وبهذ المعنى والمنطق )) , وأنا أراى أن : المنطق عند الفلاسفة هو البرهان وعند اللغويين والفقهاءهو القياس وعند الأدباء والشعراء : المجاز , وأعذب الشعر أكذبه كما يقولون, وعند الطبيعيين هو الاستنتاج بالجريب , وعند الرياضيين هو الإدراك بالعقل, ولا أدري بأي معنى يستعمل صاحبنا كلمة المنطق بعد أن أفتى (( إن العلمانية في مفهومها العام , ومعناها الشامل هي فصل الدين عن السياسة ........ العلمانية لاتتناقض مع جوهر ومبادئ الاسلام الذي يقر صراحة حق الاختلاف والتنوع من جهة , ويدعو بشكل صريح وواضح إلى الحرية والعدالة والمساواة ........ وعلاوة على هذا لانجد أدنى تناقض وتعارض بين العلمانية وسياسة الخلفاء الراشدين والأمويين إذا ما دققنا النظر في التاريخ الاسلامي بشكل عقلاني )). يؤمن بلحاج بالعلمانية, ومن وحقه أن يقترحها كحل للمشكل والأزمات السياسية الجاثمة على صدر الوطن العربي , ويؤمن بعدم وجود أي تعارض بين الاسلام في العهد الراشدي والأموي وبين العلمانية , فهو مرة يرى أن هذا العصر عصر ظلم و غياب للعدل كما جاء في قوله ((سياسة التمييز والتهجير الجماعي ضد فئات واسعة من المواطنين )) , ومرة أخرى يرى أن لاتعارض بين العصرالراشدي وبين العلمانية , فبأي منطق يتكلم ؟ أرى أن الاسلام الذي يجري عليه الكلام في أقوال بلحاج , ليس الاسلام نفسه , بل الاسلام الذي ينتجه فكره , والعلمانية التي يقصدها ليست العلمانية نفسها بل العلمانية التي ينسجها فكره أيضا , وهذا التناقض في المفاهيم يلائم أهواء الثقافة الغربية المغرضة , ولا أقصد عموم الفكر الغربي , بل الثقافة الغربية التي لاتريد من الاسلام إلا إسمه , والعلمانية التي تريدها للشرق وأهل الشرق , هي علمانية ساذجة , علمانية/ دينية تعلوها الغرابة, والعمانيون / المسلمون إن صح التعبير هم علمانيون لايسخرون معرفتهم من أجل التطور العلمي بل من أجل المجادلة داخل النظام الداخلي للمنظومة الإسلامبة نفسها . فثقافة البعض من أهل الغرب تطمح إلى إلغاء كل ما ليس هي , ويطمح أتبا عها في العالم العربي إلى أن تكون الثقافة الغربية هي الثقافة بالمطلق أو يوهمون أنفسهم بذلك , ويمكن لهذه الثقافة المطلقة أن تعيش في الشرق مع إعادة إنتاجها كثقافة هجينة بمقدورها أن تخترق , كما يتوهمون , الفكر الاسلامي وتنتج منه خلطة عجيبة تجمع بين الدين ونقيضه , والدفاع عن هذه التركيبة عجيب أيضا , فالراشدون فيه مستبدون إذا أسعفتهم المصلحة في ذلك , وعلمانيون إذا أسعفتهم أيديولوجيتهم , ونفس الشيء فيما يتعلق بمن بعدهم من الأمويين . ومحمود بلحاج أراه يذهب هذا المذهب , فهو يلعب بورقتين , أو قل بوجهين , وجه من الشرق ويتمثل في الدين , ووجه من الغرب ويتمثل في في العلمانية , فالقلب(= الدين والنقل ) عنده للشرق , والعقل ( = العلمانية والعقل ) عنده للغرب , واختلاف المشربين بين العقل والوجدان , وحسب المقدمة المنهجية السابقة , لاينتج إلا الأيديولوجيا , خاصة وبلحاج صديقنا يروم الكشف عن مواطن فكره وميدئه بتوظيف فكر نقيض للدين وهو العلمانية , ولابد لهذا الفكر, حتى يصيرمعقولا , أن يكون مستقلا من جهة , ومرتبطا بقطبي الشخصية (= العقل والوجدان ) من جهة أخرى, وإلا فهو أفرب إلى عملبة الأدلجة منه إلى النقد السليم . مشكلة هذه الفئة من المثقفين الجنوبين أوالشرقيين الذين يعيشون في الغرب , هي أنها توجد في عالم العولمة وغير قادرة على احتوائه أو إعادة تنظيره وسبكه ليصبح عملة تجد لها سوقا في الجنوب والشرق وخاصة المجتمع الاسلامي . يضيف بلحاج معلقا على كلامي " المشروع السياسي والحداثي دون العلمانية أمر ممكن = كلام م ,ح " يقول صاحبي إن هذا الكلام غامض , ووجده كذلك حيث قرأه بخلفيات سابقة لاتؤمن بأي اجتهاد أو كلام آخر ليس من كلامه ,في الحداثة أوالعلمانية , فالعلمانية عنده للغرب والحداثة كذلك ,وكل كلام غير هذا يراه غامضا وغير واضح , إذ ينظر بمنظار الغرب الذي لايمكن أن يرضى عن الاسلام إلا إذا ما ل إلى ما يميل هو " ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم"(6) ثم يستطرد صاحبنا (( إننا نختلف من أجل تكريس الجمود )) , وهذا عنده ,هو أن يقترح الآخر رؤية لا توجد في ذهنه هو , فالتطور عند هذه العقلية هو الغرب الغرب فقط ليس إلا , وكل فكر غير ذلك ولو كان من عند الله فهو جمود , وبمثل هذا يعمل الغرب , حتى أن عبارة (المجتمع الدولي ) لايدخل ضمنها إلا من كان غربيا , فهي المركز والغير هم الأطراف , وعلى الأطراف أن تدور حول المركز الذي هو الغرب . يتتبع في الجزء الثاني الهوامش (1) سيومون دي بوبوار / واقع الفكر اليميني / تعريب جورج طرابيشي / ط 1 / ص : 131 الهامش (2) سامي خرطبيل / الوجود والقيمة / ص 110 (3) قرآن كريم (4) عبد الله العروي / مفهوم العقل / ط 1 / ص : 173 (5) العبارة مستعارة من كتاب المفكر العربي الراحل : مهدي عامل / ماركس في استشراق إدوارد سعيد هل العقل للغرب والقلب للشرق (6) آية قرآنية .