في خطاب اللائكيين أشكال شتى من المصطلحات و المفاهيم التي يوظفها العقل اللائكي في علاقته بالصراع حول طبيعة المشروع التغييري المنشود ، من هذه المصطلحات ما أصبح متداولا بشكل تقليدي والتي اكتست هالة من القداسة اللفظية عند أصحابها و صارت منحوتات تحيل مباشرة إلى عقل متمرد على الإسلام ،فهذا العقل أراد أن يجعل نفسهُ علميا لا يؤمن إلا بالجوانب المحسوسة العقلانية بعيدا عن الاعتبارات الدينية تأثرا بالنزعات المادية في العلوم الاجتماعية و الفيزيقية (نظريات أغست كونت بالأساس) ، و أراد أن يندس و يحشر نفسه في مواقف "التنويريين " الرافضين للتدخل الديني في رسم معالم طريق الحياة ،و لم يلحظ قط الخصوصيات و الأسس البنيوية التي حركت فكر هؤلاء في الغرب و كيف أنهم كانوا يعبرون عن وضع لحظي أشادوا أنفسهم بمفاصلة الإسلام عنه . أقحم اللائكيون أنفسهم في سياق ليسوا إلا هوامش حوله و صاروا يتحدثون كما لو أنهم نظراء الفكر "العلماني " الغربي يؤصلون و يجترون و يعيدون نسخ عقلية مادية كانت قد خاصمت رجالا حكموا باسم "الحق الإلهي " حينا من الدهر . فاللائكيون يحسبون أنفسهم دعاة عقل منفتح على السنن الاجتماعية الفاعلة و سياسيين يؤمنون بقدرة العقل وحده بصناعة غد مشرق كما هو منقوش في أدبيات اللوحة السياسية الغربية ، و لذلك يستعملون عن قصد مصطلح " العلمانية " في محاولة ماكرة لتدليس البضاعة الكاسدة و التغطية على طبيعة المجتمع المنحل الذي يؤطر هموم "العلماني " في تحليلاته و تنظيراته الآلية ، فبقدر ما يحرصون على جعل أنفسهم رواد فكر متحرر بقدر ما يخفون فلسفة "العلمانية " الاجتماعية و السياسية كما رُسمت في أدبيات الفكر الغربي ( انظر تعريفات معجم اللغة البريطانية، معجم أكسفورد، المعجم الدولي الثالث الجديد، دائرة المعارف البريطانية...) بعيدا عن لغة اللائكيين الجافة و ما يطبعها من غرابة و تكلف في تحليل الظواهر(عزيز العظمة، حامد نصر أبو زيد، محمد أركون، فؤاد زكريا، جلال العظم ، وجيه كوثراني،علي حرب،جورج طرابيشي ،محمودإسماعيل ...) سنحاول رصد بعض المفردات التي تشيع في أوساطهم و تتبع شكل الحوار الممارس تحت شعارات الحرية الفكرية و الحق في الاختلاف و سنكتفي برصد أحد المصطلحات المتداولة في متون الكتب اللائكية لنعرضها بالتحليل الممكن ، يتعلق الأمر ب: مصطلح "الإسلاموية " يُفضل العديد من اللائكيين وصف الحركات الإسلامية ب"الإسلاموية" كناية على استغلالهم للدين لأغراض سياسية ،و قد عرفت اللفظة انتشارا في الكتب اللائكية حتى صارت سنة عند طلاب الخصومة و مفهوما محبوبا عند أغلب الكتاب المعادين للفكر الإسلامي و المشروع الإسلامي ، فهم يصرون على اعتبار حملة الإسلام الحركي حركات ادعائية غرضها السطو على السلطة و اللعب على العواطف الدينية من أجل نفي قيم التعددية و ضرب المكتسبات " العلمانية " في مضمار السياسة و الإدارة و الاقتصاد و الحريات . و الملاحظ أنهم إذ يصفون الإسلاميين بذلك يضعون أنفسهم معياريين يحددون على ضوئه ما ينتمي للمجال الإسلامي و ما ينحشر في ميدان الإدعاء المكذوب فلم يسائلوا أنفسهم عن ثقافتهم الهجينة و أفكارهم المُعلبة و قيمهم المنخورة ، و إنما نصبوا أنفسهم "إسلاميين " أحاطوا بما لم يحط به الأولون . مصيبة اللائكيين أنهم جعلوا شعار " العلمانية مقياس كل شيء، مقياس وجود ما يوجد و مقياس وجود ما لا يوجد " فأصدروا صكوك الاتهام مفصلة على مقاسهم بشكل يوحي كما لو أننا إزاءعقليات تفتيش لا عقليات تمحيص . للأسف لم تُنحت الكلمة الغريبة لتفيد مفهوما سياقيا يتغيى الاختلاف و التعبير عن الرأي المخالف و إنما صار التوظيف "للمصطلح " يجري في سياق القدح و الذم ليكشف بذلك مرة أخرى عن إحدى تجليات العنف الفكري و الابتزاز السياسي الذي طبع عقل اللائكي منذ الغزوة البونابارتية لمصر. إن الميوعة اللفظية التي تميز كتابات اللائكيين من خلال تحريف المضامين يكشف بجلاء عن تناقضات داخلية فجة ، فهم يطالبون الإسلاميين بالكف عن نعتهم بالمتغربين العلمانيين في حين يسمحون لأنفسهم باستعمال أدوات التجربح اللفظي، و هم يدّعون امتلاك أساليب الحجاج في النقاش الحر مع المخالفين بعيدا عن تسمم الألفاظ التي تعيق الحوار الجاد في حين تمتلئ كتبهم بموجبات الفصام و التنافر ، و هم إذ يقدحون في مشاريع الإسلاميين و يصفون تياراتها بالإسلاموية يقررون بحزم شرعية منطلقاتهم الفكرية و أساساتهم الإديولوجية باعتبارها تفسيرات منسجمة مع التصور الإسلامي ، و الحال أن كل ناظر في أدبيات اللائكيين و نظرياتهم المستورَدة لن يجد عناء في وصفها بملحقات و هوامش مخلفات الفكر الغربي البائدة بحيث لم تستطع الانسجام مع مخزون الأمة. يبدو أن مصطلح " الإسلاموية " أصبح محببا لدى قطاع واسع من اللائكيين ، فجورج طرابيشي يتحدث في كتاب (المعجزة أو سبات العقل ص : 128 الهامش) عن "الايديولوجيا الإسلاموية" في وصف التيارات التي تؤمن بنظرية الإعجاز البياني للقرآن ، و محمود إسماعيل يفضل استعمال "الحركات الإسلاموية" بديلا عن الصحوة الإسلامية و الإسلام السياسي في كتابه (الإسلام المعاصر : قراءة في خطابات التأصيل ص :21) ، أما خليل عبد الكريم فيتحدث في الفصل الخامس من كتابه (الإسلام بين الدولة الدينية و الدولة المدنية ص:91 ) عن "الإسلامويين و القباب المقدسة " و يصفهم بأنهم هم : " الذين يستظلون بالقباب المقدسة و الذين يتعبدون النصوص و الذين يعتبرون النقل هو مرجعهم الأول و الأخير، منه يبدأون و إليه ينتهون و الذين لا تسمع لأحدهم خطبة أو حديثا و لا تقرأ مقالا أو بحثا إلا و تجد أنه قد ملأه ب (قال الله) و (قال الرسول) و (أفتى الصحابي) و (ذكر التابعي)..." ، و يستعمل مصطلح " الإسلاموية في تعقيبه على عادل حسين إبان مناظرته الشهيرة مع رفعت السعيد ( انظر كتاب المواجهة حول الاعتدال و التطرف في الإسلام ص : 100 ،101،102،110 ) ، و المفكر اللائكي عزيز العظمة يصف المنادين بالخصوصية و الأصالة بالإسلامويين في كتابه (التراث بين السلطان و التاريخ ص : 52 ) ، كما نجد برهان غليون في حواره مع سليم العوا في كتاب ( النظام السياسي في الإسلام ) المنشور في سلسلة "حوارات لقرن جديد" يستعمل "الإسلاموية " في حق التيارات التي تؤمن بتداخل السياسة بالإسلام ... من السهل جدا اللعب بالكلمات في مواضيع عامة تستهدف قلب المضامين و تحوير القضايا الأم التي تحتاج إلى صراحة فكرية و صدق مع الذات ، من السهل القيام بتصنيفات وهمية عبر الألفاظ الخادعة الموحية بالتجديد في الفكر فلن تفيد البتة الكلمات المؤدلجة في حجب حقيقة الصراع و ستظل الحقيقة ناصعة عند طلاب الحقيقة . و الغريب أن العديد من اللائكيين يتخبطون في كتاباتهم فتحس بسيل جارف من الألفاظ الاستهلاكية في وصفهم للتيارات التداولية في الكتاب الواحد ، يتحدثون عن إسلام سياسي و أصولي و إسلاموية ومتأسلمين كما لو أن الأمر يتعلق بفوضى في المضامين القصد منها التشويه النظري لخطاب الإسلاميين و اجتهاداتهم في قضايا السياسة و الاقتصاد و الاجتماع . عندما لا تجد إجماعا لدى هؤلاء على اختيار الكلمة المناسبة في التعاطي مع الإسلاميين فهذا يعني أن اللائكيين في حاجة إلى مراجعات جدية لنقد المخالفين . فلماذا يصرون على استخدام " الإسلاموية " إذن ؟ ربما يسعى البعض من خلال إضافة الواو إلى خدع مفضوحة تستهدف جر الإسلامي لساحة حرب المصطلحات فيبادر بدوره إلى فعل الشيء نفسه " للعلماني" فلا يجد حرجا بوصفه بالعلمانوي بشكل يُسقطهُ ضمنيا في فخ الاعتراف بشرعية العلمانية حيث ينسحب المعنى على طائفة تدعي الفكر العلماني و ليس على العلماني ذاته ، فخ تنبهَ إليهِ الإسلاميون فجعلوا اللائكية سلة واحدة لا تختلف إلا في درجات العداء للدين عامة . كما أن قطاعا واسعا من المراهقين الشباب المتأثرين بالاتجاهات اليسارية العنيفة و الحركات الليبرالية الغربية و الأمازيغية النخبوية لا تنطلق في مسعاها لنقد الإسلاميين إلا من خلال الانطباعات التي تشكلت إبان حقب زمنية خاصة فصارت إسارا شديدا يحكم منطق الألفاظ و يوجهها ، و لا تكاد تعثرعند هؤلاء اعتبارات وجيهة معقولة تبرر اختيار " الإسلاموية " إلا من قبيل محاكمة النوايا في وقت تتجلى عندهم مخاصمة حتى التدين/الشعبي في أشكال لا تُحصى . لنتجاوز إذن سجالات ولدت في معضمها في سياق الاحتراب الجامعي و ننفذ لعمق القضية فنسأل : إذا كانت هناك "حركات إسلاموية" فالمنطق يقتضي الحديث عن الحركات الإسلامية بأدب يسمح باعتبارها مكونا أساسيا في معادلة المشروع النهضوي لا أن تُضرب حركات باسم الإسلاموية ثم يقال "ليس في القنافذ أملس" ، إذا تقرر عند اللائكيين نعت الآخرين الحاملين لمشروع يستمد أسسه من الإسلام ذاته فهذا يفرض علينا التساؤل عن المعيار المعتمد في ذلك ، أتكون الأخطاء المرتكبة تاريخيا من طرف بعض أطرافها معيارا لإصدار أحكام الإدانة اللفظية أم طبيعة الأفكار المؤسسة لهذا التنظيم أو ذاك ؟ إذا كان اللائكي أصلا لا يؤمن بفرعية السياسة عن أصل الأسلام فلا تزيد عنده أكثر من كونها – تعريفا - أخلاط مصالح يخطط لها العقل "المجرد" لا "العقل المسدد" فلماذا اغتصب لنفسه حق إطلاق إسم " الحركة الإسلاموية " ، فلو كان هذا العقل يعترف بنسقية الإسلام في تدبير الجماعة البشرية لأمكن له من باب النقد البناء أن يتحدث عن المدَّعين "الإسلامويين" و لجاز لهُ كشف أساليب الإحتيال بناء على أدلة إسلامية تستنطق الشواهد القرآنية و المأثورات النبوية و الكم الهائل من التراث السياسي التاريخي ، أما و أنّ هذا العقل يتحرك من خارج الإسلام تنظيرا وتأصيلا فإن الأمر يتعلق هنا بنقد لا معنى له . لكن ، دعونا نرى في معادلة الصراع الفكري مَن يدَّعي الإسلامية فنصفه بالإسلاموي و مَن هو صادق في تبني مقاربة الطرح الإسلامي فنثبت له الصفة ،في اعتقادي لن يجد أي باحث عناء الجزم بغرابة تصور اللائكيين للتغيير المطلوب عن الوجهة الإسلامية ، فهم يطرحون بضاعة مزجاة تلتقط الغث و السمين و لا يبالون إطلاقا بمدى ملاءمتها للشرع الحنيف بل منهم من يعلنها حربا على قيم الإسلام فكيف يمكن لعاقل أن يثق بهم في اتهامهم للإسلاميين بالادعائية و الاستغلالية ؟ هل حينما يصف اللائكي اليساري مخالفيه بالإسلامويين يحسب نفسه مدافعا عن الدين حقيقة ؟ أي بلادة يمكن أن تصيب القارئ و هو يرصد نظرياتهم الخارجة عن أصول الإسلام و فروعه ؟ اللائكي يشعر في قرارة ذاته بمدى انفصامه السحيق عن المجال التداولي الإسلامي و لذلك تراهُ يُسارعُ لدفع تهمة العداء لذات الإسلام ، تراهُ يصرخ بصورة كاريكاتورية : كلنا إسلاميون ! تماما كما فعل كبير الماركسيين فؤاد زكريا إبان المناظرة الشهيرة عام 1413/1992 بينه و بين المفكر الإسلامي محمد عمارة تحت عنوان ( أزمة العقل العربي ) حيث أعاد الأسطوانة الخادعة لتدليس المشروع المعادي للدين ، أسطوانة أننا جميعا إسلاميون ، فالعبارة عنده لا تتجاوز كون المسلم تربى في ظل الإسلام و لا يودُّ أن يفهم من الإسلامية مشروعا للنهوض و الإقلاع التنموي يستوعب مجالات الحياة كلها و طبقات المسلمين كلهم ...فأي عقل يمكن أن نثق به ؟ عقل مسكون بنزعة استبعادية للدين -جزئيا أو كليا- أم عقل تداولي و إن أخطأ في مقاربة أسلوب التغيير فلا يصل لحد اتهامه بالادعائية ؟ .