يُحكَى أنّ أحد الرهبان علّق لافتة على كنيسته، كتب فيها: هنا تجد الجواب! وذات مرة مرّ طفل من هناك، ولما قرأ اللافتة، أخذ الطباشير وكتب على باب الكنيسة: ولكن أين هو السؤال!؟ رغم ما يبدو في ظاهر القصة من بساطة وبراءة، إلا أن في مضمونها يكمن جوهر الإشكال الفلسفي ومدى إمكانية الوصول إلى حلّه. لذلك يمكن أن أزعم أن المشكلة لا تكمن في غياب الجواب، بقدر ما أنها تكمن في أننا لم نفلح بعد في طرح السؤال. بيد أن السؤال نفسه أحيانا يُطرَح بخلفية وزاوية مؤدلجة، لذلك يقول العقلاء: قبل تقديم الجواب، لابد من التنبه إلى نوعية السؤال الذي طُرح، وفي أي سياق ورد وأي مساق؟ فلما يأتي - مثلا- أحدهم ويواجهك بسؤال، من قبيل: هل أنت مع الحداثة أم مع التراث؟ هل أنت مع العقل أم مع الغيب؟ هل أنت مع الإبداع أم مع التقليد؟ إلى غيرها من الأسئلة الملغومة. فالأمر ليس كما طُرِح، لأن القبول بالحداثة مثلا، لا يقتضي بالضرورة رفض التراث. ولأن القبول بالعقل لا يعني ذلك بالضرورة رفض الغيب... وحقيقة الأمر، أن طبيعة ونوعية مثل هذه الأسئلة كثيرا ما يجترها ويكررها بعض مثقفينا عن جهل منهم أو تعمد... لست أدري! دون أن يتنبهوا إلى أنها طُرِحت في بيئة غير بيئتنا وفي بيئة عرف علماؤها صراعا مريرا مع رجال الكنيسة، لأنها كانت تحارب العقل والعلم والإبداع... فجاءت النظريات الغربية على اختلاف منازعها الفلسفية، تتحدد فيها العلاقة بين ثنائية الحداثة والتراث وبين ثنائية العلم والدين في كونها علاقة تقابل وتضاد... أما إذا نظرنا إلى المشكلة في طرحها الإسلامي، فإننا نجد علماء الإسلام يقولون: أن الفكرة التي لا تستند إلى العلم، أي إلى الدليل والبرهان، عرضة للتشكيك، وقد كرّس علماء الإسلام حياتهم العلمية لإبراز هذا الترابط وهذا التلازم، وفي هذا السياق يمكن ذكر "درء تعارض العقل والنقل" أو "موافقة صحيح المنقول لصريح العقل" وكذا "القول الفصل في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من اتصال"وغيرها كثير. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن هؤلاء الذين ينقلون مثل هذه الأسئلة التي طرحها غيرنا لظروف مختلفة عن ظروفنا والتي غالبا لا تُنْتِج فكرا موضوعه الرئيس واقعنا الخاص، هم أنفسهم يسقطون في الفكرة ونقيضها، فإذا كانوا يؤاخذون على "التراثيين" حالة التقليد. فإنهم هم أيضا يقلدون. كيف ذلك؟ الجواب نجده عند الفيلسوف المغربي الكبير الدكتور طه عبد الرحمن، حيث يقول في كتابه "روح الحداثة": إذا كان التقليديون يُقلّدون المتقدمين، فإن الحداثيين يقلدون المتأخرين، بل إن تقليد الحداثيين يبدو أشنع من تقليد التراثيين، لأن الحداثة والتقليد، حسب تعريفهم، ضدان لا يجتمعان، في حين أن التراث والتقليد بموجب تقريرهم صنوان لا يفترقان. بكلمة، إن الأسئلة التي يثيرها "المقلدون الجدد" أسئلة ملغومة ومغلوطة ومضللة في كثير من الأحيان. لذلك تساءل البعض حول مشروعية طرح مثل هذه الأسئلة، وهم مُحقّون في إثارة مثل هذا التساؤل. لأن تصحيح الخطأ يتوقف على تصحيح المنهج. وإذا كانت المقدمة خاطئة فإن النتيجة بالتأكيد ستكون هي أيضا خاطئة، وإلا ستصبح أفكارنا خليطا من قوى عمياء يصدم بعضها بعضا ويحطم بعضها بعضا، بل إن الحياة نفسها قد تقفر وتجدب ويصعب تقبلها، وربما تنتهي بصاحبها إلى نوع من أنواع الانتحار الفكري...، فلِنَنعم إذن بالحداثة والتراث معا. ولا نطرح المسألة بصيغة الثنائية التي توحي إلى التقابل والتضاد... [email protected]