في محطة زمنية لا يكاد يفصلنا عنها الكثير من السنون المتوالية، نظمت المديرية الجهوية للثقافة تازةالحسيمةتاونات معرضها الأول للكتاب بالحسيمة سنة 2013، وذلك بتنسيق وتعاون مع مديريتها الإقليمية بالحسيمة ومع مصالح الولاية والجماعة الترابية للجهة والمجلس الجماعي المنتخب بالحسيمة، والحدث الهام يفصلنا عنه ست سنوات، إذ لا زلت أتذكر الجهود الثمينة والقيمة المفصحة عن إخلاصها في شخص السيد المدير الإقليمي للثقافة بالحسيمة آنذاك الأستاذ كمال بن الليمون، نظرا للعلاقة الأخوية والثقافية التي جمعتني به منذ تأسيس معلمة دار الثقافة الأمير مولاي الحسن بالحسيمة، وحتى قبلها بقليل، وكيف حاول أن يتدبر أمر المعرض مع رؤسائه في المديرية الجهوية، من أجل التغلب على كثير من التحديات والصعوبات، سواء تعلق الأمر بالمسألة التنظيمية أو بالتمويل أو بملف إعداد فقرات البرنامج العام، وقد شكل هذا الفعل التأسيسي لعملية أول معرض جهوي للكتاب تنظمه وزارة الثقافة بالمدينة حدثا عميق الدلالة، خلف أثره الإيجابي لدى شرائح واسعة من الساكنة وخاصة لدى المهتمين بعملية القراءة والشأن الثقافي على وجه العموم . من الملاحظ أن القاسم المشترك بين المعرض الأول والمعرض الثاني الذي ينظم هذه المرة أيضا بساحة محمد السادس بالحسيمة خلال الفترة الممتدة من 28 يونيو إلى غاية 04 يوليوز 2019، وفي أجواء مهيبة يطبعها أمل ثقافي كبير يؤسس لمنظومة جادة ومسترسلة في عالم القراءة، إنما تتفق في أساسها حول اعتبار القراءة أحد الآليات الأساسية المساهمة في تحقيق التنمية المجالية والبشرية المستديمة، ولا يقف الأمر عند هذا الحد فحسب، إذ القراءة من جانب آخر تفتح عوالم جديدة، فكلما أصبحت القراءة متأصلة في سلوك الناس وعاداتهم وتحولت إلى تقليد راسخ في طباعهم إلا وتغيرت رؤيتهم للعالم، الذي يعززه تحسن في أدائهم وقدراتهم، وتطور في بناء مؤهلاتهم، ما يؤدي بالطبع إلى الانعكاس إيجابا حتى على حركية المجتمع وأدائه، فإذا "كانت القراءة تصنع إنسانا كاملا، فإن الكتابة تصنع إنسانا دقيقا " على حد تعبير الكاتب الإنجليزي فرانسيس بيكون، وقد خصص تاريخ 23 أبريل يوما عالميا للكتاب والقراءة، نظرا لما بين العمليتين من تمفصل وطيد، فالقارئ النهم المثابر على القراءة يكون على الدوام ملهما ومبدعا، لذلك لن نصاب بالعجب إذا وجدنا كاتبا مغربيا من قيمة الأستاذ أحمد بوزفور يمتنع عن تسلم جائزة المغرب للكتاب سنة 2004 التي تمنحها الدولة المغربية للكتاب، وذلك احتجاجا منه على الوضع المتردي للمقروئية، حيث لم يقتني من عمله الإبداعي الذي كان قد أصدره حديثا إلا مئتي نسخة، رغم القاعدة العريضة لعدد المؤسسات التعليمية والجامعية بالمغرب . وإدراكا منا لمدى قيمة قراءة الكتاب، وما للثقافة والمعرفة من دور في حياة الأمم والشعوب القديمة منها والمعاصرة، فإنها كانت أيضا الطريق الأمثل نحو حماية الحق المقدس في الحياة، فبرجوعنا إلى جذور المخيال الشعبي وبعض الأساطير الواردة في قصص ألف ليلة وليلة ذات الأصل الحكائي والشفوي مما جادت به ثقافات متعددة خاصة منها العربية والفارسية خلال الفترة الزمنية التي تبدأ من القرن العاشر إلى غاية القرن السادس عشر الميلاديين، نلمس كيف أن " شهر زاد " ابنة وزير الملك القارئة والمتعلمة، أسعفتها ثقافتها في الإفلات من الموت على يد الملك شهريار الذي كان يزهق أرواح العديد من النساء في كل ليلة داخل مضجعه الزوجي، انتقاما من زوجته التي خانته مع عبيده في البلاط، إذ لم تكن شهر زاد الجميلة تعرف كيف تعد الدجاج المحمر أو كيف تخيط طرزا، بيد أنها كانت قارئة حاذقة متمرسة في الثقافة واسعة الاطلاع والإلمام بالعديد من المعارف، وهو الأمر الذي أهلها أن تحكي في كل ليلة قصة، لتستمر العملية مدة سنتين وتسعة أشهر" ألف ليلة وليلة "، وأسلوبها هذا أنقذها بالفعل من موت محقق كان ينتظرها على يد شهريار السفاك بعد أن أوقعته ثقافتها وسردها الحكائي في انبهار شديد جعلته يتيه ويذهل عن الإجهاز عليها ووضع حد لحياتها، والدرس الممكن استخلاصه من الواقعة كون قصة شهر زاد لا تزال معاصرة رغم قدمها في الزمن، لأنها تطرح مسألة المعرفة والثقافة من أجل الاستمرار والبقاء والتكيف مع معضلات الحياة الجديدة . إن موضوعا من الأهمية بمكان من قبيل محور وتيمة القراءة لا يمكن إثارته دون أن نقف بتمعن عند الكتاب الذائع الصيت " تاريخ القراءة " الذي ألفه الكاتب الأرجنتيني " ألبرتو مانغويل " سنة 1996، وترجم إلى العربية على يد الأستاذ سامي شمعون، كتاب يقع في أربعة أجزاء وأفضل ما خطته يداه في كتابه القيم ضمن خلاصاته الضرورية اعتباره قيمة القراءة، الطريق نحو المعرفة، فهو يتساءل ماذا يعني أن تكون قارئا ؟ بل مم يتكون فعل القراءة الغامض ؟ وقد حاول كتاب "تاريخ القراءة" الإجابة عن هذين السؤالين، عبر أخذنا في سياحة فكرية ممتعة، رحلة حقيقية في أعماق التاريخ الإنساني، ليكشف لنا "فعل القراءة"، و" القوة المعنوية للقارئ " فمن يقرأ لا يشعر أبدا بالعزلة، فهي إحدى أهم المفاتيح في طريقنا إلى فهم أعمق وأوضح للعالم . كما أننا لا نطمح نحو القراءة التي تستهدف تزجية الوقت، المتعة واللذة كما جاء في كتاب "لذة النص" للناقد الأدبي والفيلسوف الفرنسي رولان بارت، فنحن لا نرغب في القراءة المحكومة بهاجس "خدمة الذات" أو " تحقيق الذات"، بل نروم بالأساس تلك القراءة التي تساهم في إقامة صداقات تبني شروط العيش المشترك، والأهم القراءة الكامنة في النسيج المجتمعي والقائمة أساسا على تمتين هذا النسيج في لحمته الوطنية المتكتلة، رغم جسامة التحديات والإكراهات، وكذلك في صيرورته وجدليته الاجتماعية المتناغمة مع القراءة القائمة على المفاهيم التربوية لعلم السوسيولوجيا، ونؤكد تبعا لعبارة الأديب والروائي المصري الكبير نجيب محفوظ كوننا لا نريد أناسا لا يتوقفون ولا ينقطعون عن القراءة وفي جميع الاتجاهات، أو مهووسين بها حد الهيام، بل المطلوب ليس حتى إنتاج وعي نقدي أو علمي بالكتاب، رغم جمالية هذا الصنيع الأخير، بل المطلوب بالأساس هو إثارة فضول القارئ في عملية تفاعلية بينه وبين الكاتب وإنتاجه في نفس الوقت، مما يولد بعد ذلك نوعا من الاستجابة والتأثير الذي يمكن أن يخلفه إيجابا في أوساط المجتمع الذي يعيش فيه القارئ، سواء من خلال سلوكه أو في مواقفه التي يبديها إزاء مختلف القضايا والتجليات المجتمعية . لذلك نجد أن جميع المؤشرات والتحاليل، تلتقي حول كون العالم في كليته يسير راهنا بصدد التحول من مجتمع للإنتاج، سواء كان إنتاجا زراعيا أو بشكل أخص إنتاجا صناعيا، إلى مجتمع قائم على ثلاثية القراءة والمعرفة والإعلام، وبصريح العبارة إنه المجتمع ما بعد الصناعي، الذي أفرزته " الموجة الثالثة" من التحولات الدولية وفق تعبير المفكر الأمريكي ألفين توفلر، كما أن الجبهة الثقافية والمعرفية هي الأكثر تأهيلا لتمنح حقوق الإنسان في القرن الواحد والعشرين معناها الجديد، وأن مجالات تطبيقها وإعمالها لن تكون منحصرة بالأساس في الميادين السياسية والاجتماعية والاقتصادية أو في ما هو ذو طابع تضامني، ولكن أيضا، وهذا هو المهم حتى في المواضيع التي تكتسي بعدا أخلاقيا وقيميا، مرد ذلك إلى الارتباط الذي سيكون متينا ومتقدما بين حقوق الإنسان والمعرفة الثقافية كما يقول عالم الاجتماع الألماني المعاصر يورغن هابرماس . عود إلى بدء، ونحن نسجل مدى الأهمية القصوى لفكرة انعقاد المعارض الوطنية والجهوية في أفق الرهان مستقبلا على إنجاح الاستراتيجية الوطنية لوزارة الثقافة المغربية ومختلف القطاعات الحكومية ذات الصلة بالسياسات العمومية المتبعة في هذا المجال، وذلك بهدف تعميم الآليات السليمة المفضية إلى التنشئة على القراءة باعتبارها المدخل الأمكن والأكثر جرأة واقتدارا على بناء المنهج المعرفي المعاصر، ولن يتأتى ذلك بالطبع إلا بتظافر جهود جميع المؤسسات المدنية والسياسية المعنية بالحقل الثقافي، لذلك فإنه لابد من الوقوف عند شهادة شاعر العربية الكبير أبوطيب المتنبي الذي رحل بعد أن ملأ الدنيا وشغل الناس بحكمه الشعرية الخالدة، وهو يردد بتمهل في مفاضل الكتاب ومحاسن القراءة : أعز مكان في الدنا سرج سابح ..... وخير جليس في الزمان كتاب . وعلى مستوى تطور المناهج المعرفية في العالم راهنا، لو تساءلنا مثلا عن السمة الجوهرية والكبرى لهذا المجتمع المعرفي، لقلنا بدون مبالغة، إن سمته الأساس تتمثل في أن الحدود التي كانت في الماضي، قائمة بين ميادين المعرفة المختلفة قد انمحت أو شارفت على نهايتها، على اعتبار أن المعارف قد أصبحت متشابكة ولربما أيضا شبكية، ولم يعد هناك من جدران أو حدود دقيقة يمكنها أن تفصل بين العلوم الإنسانية وحقل العلوم البحتة وبين غيرها من العلوم الأخرى وقس على ذلك .