انضمام المغرب إلى الاتحاد الإفريقي و"طرد البوليساريو".. مسارات وتعقيدات    بايتاس يُشيد بالتحكم في المديونية    محنة النازحين في عاصمة لبنان واحدة    هل تغيّر سياسة الاغتيالات الإسرائيلية من معادلة الصراع في الشرق الأوسط؟    هاريس وترامب يراهنان على المترددين    مشفى القرب بدمنات يواجه أزمة حادة    طرائف وحوادث الإحصاء    "النملة الانتحارية".. آلية الدفاع الكيميائية في مواجهة خطر الأعداء    بايتاس: الحكومة تتابع عن كثب أوضاع الجالية المغربية المقيمة بلبنان    بذل عمل جديدة لعناصر الجمارك "توضح تراتبية القيادة" شبه العسكرية    الشرطة توقف مروج كوكايين في طنجة    فاتح شهر ربيع الآخر 1446 ه يوم السبت 5 أكتوبر 2024    غارات إسرائيلية عنيفة على ضاحية بيروت وتقارير إعلامية تتحدث عن استهداف هاشم صفي الدين    المياه المعدنية "عين أطلس" لا تحترم معايير الجودة المعمول بها    رسميا: فيفا يعلن عن موعد انطلاق مونديال كرة القدم سيدات تحت 17 في المغرب    الحسيمة.. عائلة من افراد الجالية تتعرض لحادثة سير خطيرة على طريق شقران    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    إسبانيا على وشك خسارة استضافة مونديال 2030 بعد تحذيرات الفيفا    المنظمة العالمية للملاكمة تقرر إيقاف الملاكمة الجزائرية إيمان خليف مدى الحياة    الملك يهنئ رئيس الحكومة اليابانية الجديدة    أسعار النفط العالمية ترتفع ب 5 في المائة    "مجموعة العمل من أجل فلسطين": الحكومة لم تحترم الدستور بهروبها من عريضة "إسقاط التطبيع" ومسيرة الأحد تؤكد الموقف الشعبي    مومن: قائمة المنتخب المغربي منطقية        بايتاس: الحكومة تتابع عن كثب أوضاع الجالية المغربية المقيمة بلبنان    مشروع هام لإعادة تهيئة مركز جماعة "قابوياوا"    "درونات" مزودة بتقنية الذكاء الاصطناعي لمراقبة جودة البناء    الركراكي: الانتظام في الأداء أهم المعايير للتواجد في لائحة المنتخب المغربي    فتح باب الترشيح لجائزة المغرب للكتاب 2024    الركراكي يساند النصيري ويكشف هوية قائد المنتخب        أخبار الساحة    أعترف بأن هوايَ لبناني: الحديقة الخلفية للشهداء!    مهرجان سيدي عثمان السينمائي يكرم الممثل الشعبي إبراهيم خاي    قراصنة على اليابسة    مقاطع فيديو قديمة تورط جاستن بيبر مع "ديدي" المتهم باعتداءات جنسية    عبد اللطيف حموشي يستقبل المستشار العسكري الرئيسي البريطاني للشرق الأوسط وشمال إفريقيا    استدعاء وزراء المالية والداخلية والتجهيز للبرلمان لمناقشة تأهيل المناطق المتضررة من الفيضانات    "جريمة سياسية" .. مطالب بمحاسبة ميراوي بعد ضياع سنة دراسية بكليات الطب    بسبب الحروب .. هل نشهد "سنة بيضاء" في تاريخ جوائز نوبل 2024؟    جائزة نوبل للسلام.. بين الأونروا وغوتيريس واحتمال الإلغاء    إطلاق مركز للعلاج الجيني في المملكة المتحدة برئاسة أستاذ من الناظور    مؤتمر علمي في طنجة يقارب دور المدن الذكية في تطوير المجتمعات الحضرية    الذكاء الاصطناعي والحركات السياسية .. قضايا حيوية بفعاليات موسم أصيلة    القطب الرقمي للفلاحة.. نحو بروز منظومة فلاحية رقمية فعالة        وقفة أمام البرلمان في الرباط للتضامن مع لبنان وغزة ضد عدوان إسرائيل    مندوبية طنجة تعلن عن منع صيد سمك بوسيف بمياه البحر الأبيض المتوسط    المغرب يشرع في فرض ضريبة "الكاربون" اعتبارا من 2025    مستقبل الصناعات الثقافية والإبداعية يشغل القطاعين العام والخاص بالمغرب    مغربي يقود مركزاً بريطانياً للعلاج الجيني    الرياضة .. ركيزة أساسية لعلاج الاكتئاب    الزاوية الكركرية تواصل مبادراتها الإنسانية تجاه سكان غزة    دراسة: التلوث الضوئي الليلي يزيد من مخاطر الإصابة بالزهايمر    القاضية مليكة العمري.. هل أخطأت عنوان العدالة..؟    "خزائن الأرض"    موسوعة تفكيك خطاب التطرف.. الإيسيسكو والرابطة المحمدية للعلماء تطلقان الجزئين الثاني والثالث    اَلْمُحَايِدُونَ..!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الكتاب الإبداعي المغربي : سؤال القراءة وسياقاتها 2/3
نشر في تازا سيتي يوم 02 - 12 - 2012


الكتاب الإبداعي المغربي : سؤال القراءة وسياقاتها
ج 2: سياقات القراءة \ السياق السوسيولوجي
عبد الحق عبودة

أ‌- السياق السوسيولوجي:

تقترن عادة القراءة في المجتمعات بمدى وعيها الجماعي بالانخراط في حركية التاريخ، ورغبتها في ولوج العصر وامتلاك أسباب السيطرة على مجريات الحاضر و المستقبل ،لذلك فإن الأمم التي تقرأ لا تموت ،حتى وإن ضعفت في فترات ما فإنها تعود لتحيى من جديد ، لأنها متمسكة بأنجع وسيلة من وسائل الحياة ،هي القراءة.

إن القراءة حين تصبح ممارسة اجتماعية شاملة، وسلوكا متأصلا في الناس وفي عاداتهم و تقليدا راسخا في طباعهم وقاسما مشتركا يوحد جميع شرائح المجتمع وفئاته فإنه من السهل التكلم عن قيمة التواصل وسرعة الاندماج ،كما أنه من الطبيعي جدا أن تتصاعد ثقافة الإنصات والاعتراف بين الناس على اختلاف مذاهبهم وتوجهاتهم، وأن يختفي التعصب ومنطق الإقصاء ،لأن ذلك من طبع غير القارئين الذين لا يملكون ثروة ثقافية تمكنهم من توسيع آفاقهم المعرفية المؤدية بالضرورة إلى الوسطية و الاعتدال وترجيح النقاش الهادئ للوصول إلى التصور الصحيح في مختلف القضايا التي تشغلهم كأفراد ،وكجزء من نسق اجتماعي يتطلب فن التأقلم و التعايش بعيدا عن الفوضى المدمرة ،لذلك من الضروري أن يسعى أي مجتمع قوي ومتماسك لامتلاك ثروة ثقافية تقويه وتحصن هويته، ولن يتأتى له هذا إلا بإتقان الأدوات المساعدة على امتلاك هذه الثروة ،التي تعتبر القراءة مفتاحا لها، وحافزا على صنع ثورة ثقافية ناجحة ،(لأن المجتمعات التي لم تعرف "ثورات ثقافية " في تاريخنا الحديث، أو تحولات حقيقية على مستوى القيم الثقافية غير مهيأة لاستقبال ما يزخر به العصر ،أو لتفهمه حق الفهم).[1]


و تأسيسا على ما سبق ،- وفي علاقة القراءة بطبيعة المجتمع المغربي و نسبة حضورها في عاداته و سلوكه- ،فإن أسئلة كثيرة تواجه كل مهتم بهذه الظاهرة ،لعل أكثرها إثارة للجدل والملح في الإجابة هو: هل المغاربة شعب قارئ ؟ وهو السؤال الذي يحمل في طياته أسئلة فرعية أخرى قد تصبح عقبات في وجه الباحث نظرا لكونها تفتح أبواب المشكل دون أن تسعف في إغلاقها ،و بالتالي من الممكن أن يجد الباحث عن الأجوبة نفسه أمام جبهات إشكالية كثيرة و أسئلة معلقة تزيد من ضبابية الوضع بدل إضاءته . وسيكون من المجحف أن ننزع صفة " القارئ " عن المغاربة ،خاصة إذا تكلمنا عن خاصية القراءة في عموميتها بعيدا عن المقاربات التجزيئية ،بمعنى أن المجتمع المغربي يبدو في الظاهر مجتمعا قارئا ،و القراءة هنا بمعناها الوظيفي المتمثل في البحث عن المعلومة ،و هو الأمر الذي لا يختلف اثنان في كون الإنسان المغربي يعتبر بارعا فيه إلى حد كبير ،و القراءة بهذا المعنى تجعلنا نجزم أن لا وجود لشخص أمي في المجتمع المغربي ،لأن وسائط البحث عن المعلومة متعددة بتعدد المستويات المعرفية للأشخاص بمن فيهم أولئك الذين لم يلجوا المدارس و لم يحظوا بنصيبهم من التعليم ،وإلا كيف نفسر قدرة أشخاص لا يعرفون الكتابة و القراءة على مناقشة قضايا سياسية واجتماعية واقتصادية يعجز الكثير من المتعلمين على مناقشتها تحليلها وإبداء الرأي فيها.

إن القراءة التي يعنيها البحث هي المتعلقة بالكتاب الورقي ،وتحديدا الكتاب الإبداعي المكتوب باللغة العربية ،وقد كان التركيز على اللغة العربية من منطلق أنها لغة المغاربة الإبداعية الأولى من جهة ،ومن جهة أخرى لتفادي مبرر عدم إتقان اللغات الأجنبية كذريعة لعدم القراءة ،فالمؤمل -فقط - هو أن يخصص القارئ المغربي جزءا من وقته لقراءة ديوان شعر أو قصة أو رواية أو مسرحية بلغته التي يفهمها.



أول ما يمكن إثارته من أسئلة فرعية هو : هل يمكن القول إن الشخصية المغربية شخصية مبدعة لها استعداد نفسي لتقبل الأعمال الإبداعية ؟و في المقابل هل يتوفر الكتاب الإبداعي المغربي على عناصر الإبداعية التي تجعله قابلا للتداول و القراءة ؟بمعنى آخر - و نحن نتحدث عن أزمة قراءة الكتاب الإبداعي في المجتمع المغربي -هل نحن أمام أزمة قارئ أم مقروء ؟.



إن الحوار الموجود بين القارئ والمقروء الإبداعي هو الذي يضفي الصبغة الاجتماعية على مسألة القراءة ،فالمجتمع الذي يحتكم إلى معايير معينة في إقباله على الكتاب أقوى من المجتمع الذي يقرأ كيفما اتفق، لأن الأول فاعل ،يستطيع أن يفرض شروطه على الكاتب ويلزمه باحترام الذوق العام ،ومن تم يصبح زمام القراءة في يد هذا المجتمع الناقد، و يصبح الكتاب جزءا من ثقافة قرائية عامة يحددها نزوع المجتمع نحو تكريس حق الاختيار، وسلطة التوجيه . قد يرفض البعض هذا التوجيه ويجعله مرادفا للرقابة أو وجها من وجوه التضييق على حرية التعبير الكتابة ،و المقصود خلاف ذلك، فسلطة المجتمع على الكاتب لها بعد إبداعي ،تقتضي أن يكون العمل المكتوب متوفرا على خصائص فنية و جمالية و أن يحمل مواقف من القضايا المعالجة تخز القارئ في أعماقه و تدفعه إلى التساؤل و البحث عن مخارج ناجعة لما يعترضه من إشكالات و تحديات. فماذا - ذن- عن الشخصية المغربية في ارتباطها بقراءة الإبداع ؟ وهل يمكن الحديث عن معايير مشتركة يرتكز عليها القارئ المغربي - على ندرته - في إقباله على الكتاب الإبداعي ؟.

تقتضي الإجابة عن هذه الأسئلة أن نحدد طبيعة القارئ الذي نقصده ، هل القارئ العادي الذي يكتفي بالقراءة السطحية للكتاب ؟ أم القارئ الناقد المتفحص الذي يقرأ و يغوص و يفكك ويحلل و يعيد التشكيل من جديد ،ليخلص إلى نتائج قرائية تتحول إلى قواعد أساسية لابد للكاتب أن يلتزم بها وبذلك تصبح القراءة بهذا الشكل جزءا من الكتابة وفاعلا فيها. إن كلا القارئين مهم في عملية إنتاج الكتاب الإبداعي ،وكلاهما يمكن أن يكون حافزا في تطويره و تحسين جودته ،فالقارئ الأول باقتنائه للكتاب يضمن للمؤلف سوقا استهلاكية تجعله مطمئنا على مستقبله المادي وتمده بنفس التأليف و الإنتاج ، و القارئ الثاني \ الناقد يلعب دورا أساسيا في صناعة الذوق و خلق جو للمنافسة الشريفة بين أصحاب القلم ليحسنوا من مستوياتهم الإبداعية.هذا الوعي الجماعي بضرورة توفر الكتاب الإبداعي على مقاييس الجودة هو الذي يجعل من القراءة عرفا من الأعراف السوسيولوجية في المجتمعات القارئة ،وهو الأمر الذي يبدو منتفيا في المجتمع المغربي في علاقته بالمقروء ،يشهد على ذلك واقع الحال الذي يعيشه الكتاب الإبداعي ،وهو واقع صعب ،تعود صعوبته إلى عدة أسباب وتراكمات تاريخية ،أهمها إن الإنسان المغربي لم يعرف فنونا إبداعية كثيرة كان من شأنها أن تسعفه في تطوير صفة الإبداعية في شخصيته ،وتجعله يمتلك تراكما حسيا و نقديا يسعفه في فرض شروطه و إيقاعاته في مجال الثقافة و الإبداع ومقارنة مع دول عربية عديدة فإن هذه الفنون وصلت إلى المغرب متأخرة ،حيث تأسست أول فرقة مسرحية بفاس في عشرينيات القرن العشرين وهي فرقة ،أما بخصوص قطاع السينما فلم ينتج أول فيلم سينمائي إلا في أواخر الخمسينيات من القرن نفسه و تحديدا سنة 1958 في فيلم " الإبن العاق " للمخرج محمد عصفور ،هذا بخلاف دول عربية أخرى التي شهدت نهضة فنية مبكرة.

و على مدى أكثر من مائة عام قدمت السينما المصرية أكثر من أربعة آلاف فيلم تمثل في مجموعها الرصيد الباقى للسينما العربية والذي تعتمد عليه الآن جميع الفضائيات العربية تقريبا [2].


وفي ضوء ذلك ،يمكن الوقوف على بعض المعيقات التي تتعارض وثقافة الإبداع في المجتمع المغربي . وفي مقدمة هذه المعيقات نجد ثقافة التلقين التي ينشأ عليها الفرد ، ابتداء من أسلوب التربية في البيت إلى مناهج التعليم "، كما أن الإبداع يزدهر في مناخ الحرية ؛ثم إنه -أي الإبداع يحتاج لفكر وخيال وثقافة عالية حرة قيد أو شرط "، ونهج وأسلوب متميز في التعليم يكرس ثقافة التحرر هذه ،وهو الأمر الغائب في حالة المجتمع المغربي بسبب انشغال المواطن بمشاكل الحياة اليومية عكس مواطني البلدان المتقدمة الذين تفرغوا للإبداع ،مما أدى لاتساع الهوة بيننا وبينهم ؛ حيث بات لا مجال للمقارنة .

هذا التأخر في وصول المد الإبداعي إلى المغرب كان له أثر كبير في تشكيل الشخصية المغربية التي ظلت تتحكم فيها المرجعية الدينية وتحدد طبيعة ثقافتها ،وارتباطا بذلك تأخر ظهور مفهوم الكاتب ،بتجليه "الحديث"،المختلِف عن مفهوم العالم أو الفقيه ،إلى أربعينيات القرن الماضي ،مع ظهور حدود جديدة لمجال "الأدب" ومع تكرس الحدود الفاصلة بين الأدبي وغيره ،وهو ما جرى خصوصا مع ظهور أجناس أدبية جديدة ،تجلت في الرواية والكتابة القصصية والكتابة المسرحية. وعرف مفهوم الكاتب تكرسه مع عقدي الستينيات والسبعينيات بفضل إسهام الجامعة.

تاريخيا ظل المجتمع المغربي مجتمعا مشدودا للمرجعية الدينية التي كانت تنظر إلى كل جديد على أنه بدعة ،وترفض كل فعل يحمل صفة الحداثة ،ويسائل القيم ويدفع الوعي إلى الانقلاب على ما ترسخ من قوانين صارت مع مرور الزمن مسلمات لا يصح الاقتراب منها أو محاولة زحزحتها ،وكانت القراءة من بين أهم القضايا التي تمت نمذجتها وتنميطها ،وفق روابط وإكراهات تقليدية متوارثة ،وكان من الكفر الاجتماعي و ربما العقدي أن يقبل الفرد على قراءة كتاب لا يسبح في فلك الفكر الديني السائد ،مما شكل عائقا أمام تحرر العقل واختياراته المعرفية ،ولم يكن من السهل - مثلا- إقناع أسرة من الأسر المغربية المحافظة أن تسمح لأبنائها بولوج المجال الفني لأن ذلك كان يعتبر ضربا من ضروب الخروج عن الملة ،و عقوقا للوالدين ،وكان يزكي هذا نزوع الدولة الرسمي نحو تكريس هيمنة المقدس الذي لم يعترف بأية ممارسة أو كتابة إبداعية أو فنية منفلتة عن شرع الله .


عامل آخر يضاف إلى تحكم المرجعية الدينية في التفكير الشعبي المغربي ،الذي جمد نزوع المغاربة إلى القراءة عموما ،هو عامل الأمية التي تطورت مع مرور الزمن واتخذت أشكالا مغايرة لما كانت عليه في السابق ،فقد كانت إلى حد قريب تعني عدم إجادة القراءة و الكتابة ،ثم أصبحت مرادفة لمن لا يتكلم إلا لغة واحدة ،واليوم اقترنت بعدم معرفة استعمال الحاسوب وبرامج المعلوميات والولوج إلى الإنترنيت ،وهو ما جعل الفجوة تتسع بين الفئات الاجتماعية و الجهات و حتى الأسرة الواحدة .وقد نجد مثقفين كبارا لهم إلمام كبير بمختلف ميادين المعرفة و على درجة عالية من الإلمام بالثقافة العامة و القضايا الراهنة ،غير أنهم لا يستعملون الحاسوب ولا يلجون إلى الإنترنيت إما لأنهم جاهلون بقواعد الاستعمال ،أو لأنهم يرفضون أن يتخلوا عن وسيلة التثقيف التقليدية المتمثلة في الكتاب الورقي تحت مبرر أن الحاسوب سيقتل تلك العلاقة الحميمية التي ربطت الإنسان بالورق ،أو لأن البحث العلمي اعتمادا على الإنترنيت لا مصداقية له .إن هذه النظرة المحافظة لوسائل المعرفة الحديثة تدخل في إطار التركيبة الاجتماعية والنفسية لفئة معينة من المجتمع المغربي الإنسان المغربي ،وهي الفئة المتعلمة التي من المفروض أن تؤمن بتطور المعرفة ووسائلها وتعمل على نشرها وترويجها و تحبيبها للأجيال الناشئة.


من الصعب جدا رصد المسار التاريخي لقراءة الكتاب المغربي عموما و الإبداعي خاصة في علاقتها بالشروط الاجتماعية التي واكبت تحولات المجتمع – على الأقل منذ الاستقلال السياسي - ،لأن منعطفات هذه التحولات جد متشعبة ،ومفتوحة على عدة واجهات مرتبطة بطبيعة النسق الاجتماعي المغربي ،وهو النسق الذي يتقاطع فيه الديني بالسياسي بالاقتصادي ،كما أن الأسرة المغربية كوحدة اجتماعية ظلت عبر التاريخ متماسكة تحتكم إلى أعراف و عادات وتعتبرها في " حكم المقدس" ،وهو الأمر الذي استعصى معه أي اختراق ثقافي ومعرفي يعكر صفو هذه الوحدة ويؤثر في البنية التربوية للأسرة ،فالمجتمع المغربي كان على استعداد لاحتضان الحكايات والخرافات التي كانت الجدات و الأمهات تتفنن في نسجها و سردها ،لكنه بالمقابل كان محتاطا بشكل كبير من قراءة عمل إبداعي خارج عن الأعراف و القواعد التي تسمح بها تواطؤات هذا المجتمع المحافظ ،وزاد من حدة هذه النظرة الاحترازية سياسة الدولة الرسمية التي كانت مهمتها هي إنتاج المفاهيم التي تخدم سلطتها وإشاعتها في أوساط المجتمع بشتى السبل ،إضافة إلى أن النظرة المخزنية للبحث السوسيولوجي كان يحكمها هاجس انعدام الثقة بسبب خوفها من الإحراج الذي قد تثيره المعطيات و النتائج المتوصل إليها ،خاصة أن الدولة بقنواتها و أجهزتها المختلفة نجحت في صناعة رأي عام يصدق كل ما يصدر عنها بشكل أعمى ،وبالتالي يؤمن بواقعه و يتقبل حتمية قدره ،ففي بيئة اجتماعية كهذه كان من الصعب على شخص أن ينجز بحثا ميدانيا حول القراءة ،في مجتمع يكاد لا يقرأ ،وبالتالي لا يوجد لديه استعداد للتواصل و التعاون في قضية معرفية و ثقافية كالقراءة.

هذه النظرة الاحترازية ستبدأ في التلاشي- نسبيا- مع مرور الوقت ،بسبب التغيرات التي طرأت على المجتمع المغربي ،ومست بنياته وقيمه ،وصار ما كان محترزا منه يجد مكانه في ثقافة المجتمع المغربي ولو بشكل محتشم ومحدود جغرافيا ؛حيث اقتصرت البحوث الميدانية القليلة جدا والمتعلقة بالقراءة على المناطق الحضرية فقط ،وكانت البداية في نهاية السبعينات و بداية الثمانينيات من القرن العشرين[3] ،وهي الفترة التي راج فيها الكتاب و شهد المجتمع المغربي موجة من التنوع الثقافي و الصراع الفكري الذي بلغ أوجه مع صعود المد الاشتراكي وانتشاره في أوساط النخبة المثقفة ،مما خلق نوعا من التوازن مع المرجعية الدينية التي أحكمت قبضتها على الإنسان المغربي لعصور طويلة ،هذا التوازن كان من نتائجه تحرر القارئ المغربي من فوبيا الكتاب الذي يتم إنتاجه خارج القواعد الرسمية والذوق العام الذي صنعته الآلة الرسمية للدولة ،وأصبح الإقبال على قراءة الشعر و الرواية و القصة و المسرح من صميم هذا التوازن.
في خضم هذه التحولات الاجتماعية المفصلية وجد الكتاب الإبداعي متنفسا له ،وحيزا في اهتمامات المجتمع المغربي الجديد ،باعتباره عنصرا من عناصر التمرد على القوالب الجاهزة ،ومرآة تعكس أسئلة الراهن و تحدياته ،وأصبح المجتمع المغربي مستعدا - ولو نسبيا- على إعطاء الأجوبة بدون حرج و دون خوف ،وهو ما شجع المهتمين على دخول غمار البحث في سوسيولوجيا القراءة.


هوامش

[1] يقطين سعيد ، مرجع سابق ،ص:6.
[2] ويكبيديا ، الموسوعة الحرة
[3] نشر عبد العالي الأزمي بحثا ميدانيا في مجلة " يصدر في المغرب " العدد 1 مارس 1977،مبينا من خلاله ، كيف يتفاعل القارئ المغربي بالكتاب إيجابا أو سلبا ،وخلص إلى أن القراء يقرأون من أجل المتعة والضرورة ،وليس باعتبار القراءة عادة متأصلة في طبعهم ،كما أن معظم القراء لا يتوفرون على مكتبة منزلية، ويشتكون من رداءة الخدمات المكتبية.
أنجز أحمد الرضواني ومحمد بنيس دراسة بعنوان " القراء و القراة في المغرب " نشرت في العدد الحادي عشر لمجلة الكرمل سنة 1984 ،استندت إلى استمارات تم توزيعها في مدن مغربية مختلفة ( الناظور ،وجدة ،أكادير ،ورزازات و مراكش) ومن مستويات ثقافية و اجتماعية و تعليمية مختلفة ،كما تطرقت الدراسة إلى المفارقة الناجمة عن تنامي الاستهلاك الثقافي بالرغم من ضعف القدرة الشرائية ،كما استجلت القراءة بالمغرب و دوافعها و عادات القراء وميولهم وكيفية الحصول على الكتاب ،وألمت بالملابسات والظروف المحيطة بالقراءة و المصاحبة لها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.