عندما نلقي نظرة عابرة على فعاليات الذكرى المئوية للحرب العالمية الأولى بباريس ، والحضور الكبير لرؤساء وملوك مختلف دول العالم.وعندما نتمعن في البروتوكول الذي تميز به هذا الحضور الذي وضع ملك المغرب بصفته رئيسا للدولة ،وبحظور ولي عهده ،في الصفوف الامامية الى جانب كبار رؤساء دول العالم ومن ضمنهم رئيس الولاياتالمتحدةالأمريكيةالمتحدة، ورئيسة ألمانيا الفدرالية ،و رئيس الجمهورية الفرنسية ، الذي هندس لهذا الترتيب في جلوس وحضور المدعوون. إذن ومن خلال هذه المراسيم التي جعلت المغرب البلد الوحيد من بين دول العالم الثالث الذي يتصدر الحضور الى جانب الدول الكبرى ، يمكن للمتتبع العادي غير العارف بخبايا الاوضاع وما يعتصر المغرب من أزمة عميقة ان يخلص الى كون المغرب فعلا بلدا قويا يحظى بثقة واحترام الدول الصناعية المتقدمة ، وأن المغرب دولة قوية يحسب لها الف حساب في المنتظم الدولي وهو ما كان ليكون كذلك مفخرة لجميع المغاربة. لكن عندما نستحضر الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يمر بها المغرب وما تتسم به من ازمة بنيوية عميقة انعكست سلبا في تدني كل المؤشرات التي تعتمد في تصنيف تقدم ورقي الدول والشعوب ليتذيل بذلك الترتيب العام للدول على مستوى العالم .اضافة الى ما يترتب عن هذه الأوضاع من احتقان اجتماعي وسياسي قد يؤدي بالبلد الى أتون المجهول ،خاصة وأن المغرب قد اقر بشكل رسمي ، أن الدين الخارجي فقط ،وذلك دون احتساب الدين الداخلي، قد بلغ ما يقارب 92 %من حجم الدخل ا الوطني العام وهو ما يجعل المغرب رهينة للمؤسسات المالية الدولية وذلك بشكل شبه كلي.وهو ما يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن ما شاهدناه من برتوكول في فعاليات هذه الذكرى المئوية وما تخللها من ترتيب لجلوس الضيوف والمدعوين، لم تعد تعكس بالضرورة قوة الدول كما هو متعارف عليها ،بل يمكن ان يكون لمنطق الولاء والتبعية وقع محدد ومؤثر على هكذا علاقات. إذن وبعد كل هذا وذاك يمكن القول ان خللا ما قد أصاب منظومة القيم التي تبنى عليها العلاقات الدولية وان رفاهية الشعوب وسعادتها وما تتمتع به من حقوق وحريات ليست بالضرورة دائما معيارا في تحديد اهمية الدول ومكانتها بين شعوب العالم.بل ان هناك معايير اخرى تلعب دورا مهما في تحديد اهمية العلاقات بين الدول ومسؤوليها تنسجها لوبيات المال والأعمال في كل بلد من بلدان العالم الثالث ونظيراتها في الدول الرأسمالية الكبرى يعتمد مدخلها على مدى استعداد وتفاني هذه اللوبيات العالم ثالثية في خدمة الشركات المتعددة الجنسيات و الكارتيلات العالمية ،وذلك بما يؤمن نوعا من المصالح الخاصة والمتبادلة ،لكن الغير المتكافئة طبعا، وذلك على حساب تعاسة مجتمعاتها وتدهور اقتصاديات دولها. كما أن هذا النوع من القيم التي أصبحت تؤثث العلاقات الدولية لم تعد خافية على أحد خاصة خلال العقد الأخير ،الذي استقوت فيه بشكل مفضوح المصالح المالية والاقتصادية للدول الغربية على منظومة قيم حقوق الإنسان ،التي لم تعد تحتل مكانة تذكر في منظومة العلاقات الدولية. بل أن هذا التوجه المفضوح القائم على قوة المال والأعمال في تحديد العلاقات الدولية و الذي يذكرنا بعودة مرحلة الحرب الباردة في صيغتها الجديدة التي تجعل من الكثير من دول العالم محميات للشركات العالمية الكبرى ومصدرا لتراكم ثرواتها المالية، هو من دفع بالكثير من رؤساء وملوك دول العالم الى التصريح وبشكل علني ،بعلو قيم المصالح والمال والاعمال عن باقي القيم الانسانية ، وهو ما ينسجم كذلك وما صرح به ملك البلاد في خطاب العرش لسنة 2017 وذلك في عز الأزمة الاجتماعية و بعد بدء مسلسل الاعتقالات في صفوف نشطاء الحراك الشعبي ،والتي طالت المئات منهم في كل من زاكورة والحسيمة و جرادة الخ …مع كل ما صاحبها من خروقات جسيمة لحقوق الإنسان ، عندما قال أن المغرب يحظى بثقة شركائه الاقتصاديين كبوينغ ،والطاقات المتجددة ،و رونو، متجنبا بذلك الحديث عن الدول الراعية لهذه الشركات العالمية الكبرى،و متجنبا كذلك الحديث عن وكلاء وشركاء هذه الشركات في المغرب ،التي تضخ أرباحها على حساب اقتصادياتنا الوطنية. وهو ما يحمل كذلك رسائل مشفرة الى كل المحتجين والمعترضين على أن المغرب لازالت سياساته في تدبير الشأن العام الاقتصادي والسياسي والاجتماعي وحتى الأمني تحظى بدعم حلفائه من هذه الدول الرأسمالية الكبرى. وأن لا مجال لتاليب الراي العام الدولي ضده ،او الضغط عليه ،وذلك مهما حصل من احتجاجات ،وامتعاض الشعب من هذه السياسات وما يرافقها من انتهاكات للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. عندما اقول ما اقوله، فليس نكاية في وطني الذي طالما تمنيت أن يكون في مصاف الدول المتقدمة أو السائرة في طريق النمو ، وأن يكون محترما دولة وشعبا من طرف المنتظم الدولي .بل اقول هذا حسرة على ما نحن عليها من أوضاع . كما أقول هذا لكوني دارك كالكثير من المغاربة الغيورين على وطنهم أن حقيقة أوضاعنا ليس كما تريد أن تسوقها لنا بعض الدول الاستعمارية كفرنسا مثلا ، والتي تعرفها جيدا كما تعرفها الكثير من دول العالم الغربي ، وان ما تداوله الإعلام الفرنسي بشكل خاص والإعلام الدولي بشكل عام في السنتين الأخيرتين عن حقيقة الأوضاع في المغرب ، والنقد المباشر لنظامنا السياسي والاقتصادي من طرف اقطاب اعلامية تعد رسمية او شبه رسمية لهذه الدول والتي طالت حتى شخص الملك نفسه والكشف عن الثروات المتراكمة لبعض اللوبيات المالية في المغرب في مقابل عدم تواريها على إبراز مظاهر الفقر والهشاشة التي تنخر شرائح واسعة من الشعب المغربي ،وهو ما يدحض بشكل جلي تلك الصورة الزائفة المراد تسويقها لنا ، ويبقيها في نفس الآن وفية لسياساتها الاستعمارية القديمة القائمة على التعامل بمنطق العصا والجزرة ،مع مستعمراتها السابقة، والا كيف لنا ان نفهم هذا التناول النقدي المكثف مؤخرا لأوضاعنا الاقتصادية والاجتماعية ،و حتى لشخص الملك من طرف الإعلام الفرنسي المتقيد بتوجيهات الدولة الفرنسية العميقة ،وفي مقابل ذلك ما نراه من استقبال رسمي للملك ولولي عهده و تمكينهم من الصفوف الأمامية المخصصة لرئساء الدول الكبرى في العالم. . .كل هذا جعلني اشمئز لحالنا الذي تغيب فيه البدائل سواء من داخل المجتمع الذي يبدو ان نخبه السياسية والفكرية والثقافية أصبحت مترهلة وعاجزة عن طرح مشاريع مجتمعية جديدة وبديلة لإنقاذ ما يمكن انقاذه ، واستنهاض ما تبقى من مقومات ضرورية لاعادة البناء ، وإعطاء بعض الأمل للشعب في مستقبله . او من داخل الدولة التي استكانت لنهجها القديم ،والتي لا ترى بديلا عن إخضاع الشعب لسلطتها ولسياساتها حتى وان كانت عقيمة وكارثية ، والتمادي في التعامل بمنطق الوصي عليه، وهو ما جعلها في قطيعة تامة مع المجتمع الذي بدأ ينتج اشكاله الذاتية في الاحتجاج والمقاومة ، وذلك في غياب التاطير من طرف القوى السياسية والفكرية المؤهلة لقيادة عملية التغيير، التي تخلت عن مهامها التاريخية لأسباب يطول الحديث لذكرها ،وهو ما جعل هذه الدينامية الاجتماعية والاحتجاجية غير قادرة على تحقيق غاياتها وأهدافها المتمثلة في الكرامة والتنمية والحرية والعدالة الاجتماعية ، واصبحت تراوح مكانها رغم كل ما تقدمه من تضحيات. لكن كذلك ما هو اكيد في كل ما سبق ذكره هو أن الدولة الفرنسية تتصرف على أنها الراعي الرسمي للنظام السياسي المغربي، ووصية عليه ، وتؤكد على التزامها بحماية مؤسسة العرش وفق مقتضيات بنود معاهدة الحماية ، وكذلك وفق ما نصت عليه اوفاق اكس لبان من التزام للنظام السياسي المغربي بحماية وتأبيد للمصالح الاستراتيجية الفرنسية ،وعدم تعريضها للخطر، وان ما نشهده من نقد ،من طرف مؤسساتها الاعلامية مؤخرا للأوضاع و للنظام السياسي المغربي ،هو بمثابة تنبيه له لما وصلت اليه الاوضاع من حالة احتقان قد تعصف باستقرار البلد ،الذي بدونه لا يمكن أن تضمن استمرارية مصالحها الاستراتيجية ،واستمرارية قطارها الفائق السرعة الذي يشكل في نفس الآن عبئا إضافيا على اقتصادنا المتهالك ،و يفتقد بالنسبة للمغاربة لأي جدوى اقتصادية تذكر، اللهم اذا استثنينا التنفيس عن الازمة الخانقة التي كانت تمر بها الشركة الوطنية الفرنسية للسكك الحديدية . كما ان هذا يؤشر كذلك على ان الدولة الفرنسية و باستحضار ما سبق ذكره ،وبما تمتلكه من حقائق صادمة وخطيرة عن أوضاعنا ، ربما تكون بصدد الضغط في اتجاه إحداث إصلاحات من داخل النظام السياسي المغربي، وذلك ليس حبا في النظام ،ولا في البلد ،ولا في شعبه ،بل فقط من أجل خلق شروط أفضل لاستمرار وتنمية مصالحها في المغرب. وفي كل الحالات وفي غياب بدائل وطنية داخلية مبنية على تعاقدات اجتماعية جديدة تؤسس لمغرب اخر ممكن ، لمغرب يفرض احترامه على العالم بقوة اقتصادياته ،ورفاهية شعبه ،و عدالة انظمته، وليس بما يظهره من تبعية لغيره ، فإن تغيير موجه من الخارج لن يكون في مصلحة الشعب المغربي و سيبقى الوطن بكل مكوناته هو الخاسر الأكبر.