هل يمكن الحديث عن أزمة دبلوماسية بين المغرب وفرنسا مرة أخرى ؟ كل المؤشرات تقود إلى تأكيد ذلك ،وهل بدأ العد العكسي لدبلوماسية جديدة مغربية تجاه فرنسا؟ ذلك ما سنحاول تحليله عبر هذا المقال ،فبالأمس القريب كانت فرنسا الحليف الاستراتيجي خاصة لما يكون في كرسي الرئاسة حزب التجمع من أجل الجمهورية ، أما لما يكون الحزب الاشتراكي ، فالعلاقة المغربية الفرنسية يشوبها نوع من الضبابية والغموض وتصاب بالبرودة لكن لا تصل إلى حد القطيعة ، لأن فرنسا بالنسبة للمغرب هي جسر لابد منه لقطع المسافة بين دولتين يجمعهما تاريخ مشترك ، وإن كان في حقب منه كانت فرنسا الدولة المستعمرة التي تركت أثارها في مخيلة الشعب المغربي وثقافته بل وحتى بعضا من نمط العيش ولقد أفرز التعليم المتبع المعتمد على اللغة الفرنسية تبعية النخب المغربية بشكل أو آخر للتوجه الفرنسي وإن كان في تحديد ملامح الهوية المغربية التي باتت تجعل من الفكر الفرنسي ونمط عيشه نموذجا يحتذي ،وهذا ما يسر لفرنسا للدخول في عمق الفكر المغربي وذلك ما كان ليكون لولا المصالح التي تربط فئة من المغاربة مع فرنسا اقتصاديا واجتماعيا وفكريا، فلوكان المغرب له استراتيجية تعليمية بعيدة المدى لما اتبع التدريس باللغة الفرنسية التي لا يتجاوز مداها الدول الفرنكوفونية والتي تعد على رؤوس الأصابع ، ومعلوم أن البحث العلمي والتعليم بصفة عامة يجب أن يكون باللغة الإنجليزية اللغة العلمية والعالمية كما أن المغرب ترك بصماته في تاريخ الشعب الفرنسي إبان الاحتلال النازي لفرنسا حيث سال الدم المغربي إلى جانب الدم الفرنسي من أجل قيم التحرير والحرية. واستمرت تلك العلاقة بتدفق اليد العاملة المغربية ومتابعة الطلاب للدراسة بفرنسا وتبادل التجاري لصالح الميزان التجاري الفرنسي طبعا، لأن المغرب يشكل سوقا رئيسيا لصناعتها واستمراريتها في ظل تنافس عالمي وسوق مفتوحة ظل المغرب الزبون الوفي للسلع الفرنسية وما سوق السيارات إلا واحدة منها .كما أن المغرب وبخاصة كبار فلاحيه يجدون في السوق الفرنسية وعبرها الأوربية منفذا لصادراتهم الفلاحية ضمن سياسة فلاحية مرتكزة على التصدير دون اتخاذ استراتيجية الاكتفاء الذاتي لتغذية الشعب المغربي الذي صار يشتري الخضر بثمن أغلى مما يشتريه الأوربي خاصة لما ننظر لذلك من زاوية دخل هذا الأخير اليومي. وهذه السياسة العامة التي نهجها المغرب في بنيته الاقتصادية وتوجهه نحو سياسة تصديرية دون مراعاة السوق الداخلي خلق بنية وعقلية تجارية لا استراتيجية لها في المدى البعيد من أجل تنمية البلد على أسس مستقلة يعتمد عليها في المستقبل كما تفعل الدول الصاعدة الأسيوية .لذا وجب العمل على تغيير أسس السياسة الفلاحية والعلاقات التجارية، وكذا كل السياسة التنموية والسياسة الخارجية انطلاقا من مبدأ الأولوية للجبهة الداخلية وتقويتها . . لذا ليس غريبا أن نرى العلاقة الدبلوماسية تتعثر بين البلدين خاصة لما نجد أن فرنسا تتعامل في علاقتها مع المغرب دون وضع سياسة خارجية خاصة بالمغرب وتحيينها وفق تطور المعطيات في بلد يشهد تغييرات سريعة إن على صعيد التنمية أو صعيد الذهنيات ونمط العيش ، كما أن المغرب ظل متشبثا بالتعامل مع فرنسا على أسس لا تتجدد بحيث تضع لكل مرحلة سياستها الخاصة مع تجديد المعطيات الخاصة بالنخب التي تعمل في العقل الدبلوماسي واللوبي المغربي في فرنسا وكذا اللوبي الفرنسي بالمغرب ، كما يجب اعتبار الفكري والعقائدي بين البلدين خاصة في مجال حقوق الإنسان المغربي ، كما أن فرنسا الرسمية تضغط على السلطات الفرنسية فيما يخص ملف محاربة المخدرات وحقوق الإنسان وهذا ما يعتبره المغرب تشويها لصورته الخارجية وعبارة عن معيقات للحد من تدفق الاستثمارات ، لهذا دوما نجد حملات صحافية من طرف جريدة "لومند "والصحفي المتخصص في السياسة المغاربية في المغرب والتدخل الفرنسي في السياسة الداخلية بشكل سافر في كثير من المحطات السياسية إذ نجد على طول العلاقة بين البلدين يسود نوع من الضباب السياسي في جوانب عديدة من تلك العلاقة ، لأسباب تاريخية وواقعية وثقافية جعلت من النخب السياسية المغربية تنظر لفرنسا كالراعية للمغرب والأم الحاضنة له ، أي أن روابط العلاقة بين الدولتين تحكمت فيها العواطف وليس العقل من جهة المغرب والمصالح والتخطيط العقلاني من جهة فرنسا ، وهذا ما لن يساعد الطرفين على البقاء على نفس الوتيرة للتواصل والتعاون والتفاهم الدائمين . . فهل هذا الوضع ناتج عن غياب "إرادة سياسية "أو إلى" انعدام الثقة " كما صرح وزير الخارجية المغربي مزوار لجون "أفريك"؟ في اعتقادي أن العلاقة المغربية الفرنسية لم تكن منذ الاستقلال مبنية على أسس سليمة ، لأن النخب السياسية الفرنسية كانت ومازالت تنظر للمغرب من زاوية الدونية كما تنظر للنخب المغربية التي في الغالب درست في مدارس فرنسية من زاوية الازدراء بل وفي أحيان كثيرة بعدم الاعتبار خاصة لما نعلم أن السياسة التعليمة المتبعة في فرنسا في تكوين تلك النخب الأجنبية وكيفية تضمينها مناهج وأساليب بسيكولوجية تجعل من بعض النخب المتعلمة هناك عبارة عن رجع الصدى لما يعودون للوطن فلا يستشهدون إلا بفرنسا متناسين أو متجاهلين أن لا الجغرافيا ولا الذهنية البشرية ولا التاريخ والعقيدة والحضارة ولا نمط التفكير يمكن أن يكون متطابقا لأن الهويات المغربية ليست هي التي في فرنسا بكل بساطة . ،وهذا ما يمكن ملاحظته على امتداد العلاقة المغربية الفرنسية بالإضافة إلى الروابط المصلحية الفكرية والاقتصادية بين شرائح اجتماعية تنتفع بتلك العلاقة وتعمل على حمايتها بالحفاظ على الوتيرة الدبلوماسية للجانب القوي وهو بالطبع فرنسا .كما أن الخلل يكمن في بنية السياسة الخارجية المغربية التي لا تطبق مبدأ المعاملة بالمثل بل تعتمد على ممارسات تجاوزها الزمن مثل الغلو في الكرم والاستقبالات المبالغ فيها إلى حد افتراش الساحات بالزرابي والحال أن إلى جوارها آلاف من العائلات تسكن القصدير وتتغطى بالسماء، وهذا التناقض في الممارسة يجعل الطرف الأخر يتصرف كذلك بنوع من اللامبالاة مع دبلوماسية مرنة إلى درجة يمكن قراءتها من طرف البعض بالمتواطئة لأنها كما توصف بأنها تابعة ولا تقف ندا للند. . ولكن الأن بدأ المغرب يستفيق من سباته في علاقته بفرنسا وأخذ يستقل في سياسته الخارجية مستثمرا الوضع الدولي الذي شرع في الدفع إلى التحرر من هيمنة الدول التي سبقت أن كانت مستعمرة ، ومازالت تتعامل معها على أساس تلك الوضعية الماضية السوداء ، ولم تفتح صفحة جديدة للتعاون الجدي والصادق ، بل علاقة تبعية ومساندة لأوضاع داخلية هي لا تقبلها عندها سواء في مجال حقوق الإنسان أو حرية التعبير أو من حيث احترام البيئة والحفاظ على صحة المواطنين من حيث التلوث وجعل المغرب كحقل للتجارب في عدة مجالات . فالأزمة الدبلوماسية توترت في عدد من المحطات بين البلدين لأسباب عديدة ولكنها تعود بالأساس إلى عدم التعامل بالمثل وعدم احترام خصوصية المغرب من حيث اختياراته السياسية ووحدته الترابية وعقيدته الإسلامية ، لأن فرنسا المتشبعة بمبادئ الديموقراطية وحرية التعبير واحترام حقوق الإنسان هي ليست فرنسا التي تتعامل مع المغرب لأنها تترك كل ذلك جانبا في عقر دارها بل حتى بالنسبة للمغاربة المهاجرين الذين يشكلون محرك الصناعة والاقتصاد الفرنسي لا يحضون بالرعاية والمعاملة التي تليق بمواطنيها الفرنسيين ، فالتعامل بعدة موازين هو الذي جعل المغرب يشعر بالحيف وذلك بعد طول المدة ، ولكن مهما كان فالوقت مازال ممكنا للنهوض بدبلوماسية مواطنة ترد الاعتبار للمغرب المستقل مغرب الغد الصاعد والمتمكن بثرواته الفكرية والاقتصادية من أجل توزيع عادل على شعبه ضمن سياسة اجتماعية تحد من الفوارق الشاسعة وتسمو بالمواطن لصف المواطن في بقاع العالم المتقدم وذلك ليس بعيدا على الإرادة المغربية القادرة على تحويل وتغيير مسارها إلى خدمة البلاد في محيط من الكرامة والعزة والاستقلال. . إن المغرب شديد التعلق بصورته مع فرنسا لذا نراه دوما يقوم بعمليات للعلاقات العامة تجاه الصحافيين وشخصيات مهنية من خلال المهدي القرطبي رئيس دائرة الصداقة المغربية الفرنسية التي أنشئت سنة 1992 ومن خلال تظاهرات كبرى كسنة المغرب التي نظمت سنة وجاءت لتحل محل تظاهرة زمن المغرب التي ألغيت إثر نشر كتاب " صديقي الملك" لجيل بيرو ،بالإضافة إلى خلق مجموعة الصداقة المغربية الفرنسية بين مجلس الشيوخ الفرنسي ومجلس المستشارين المغربي . وكما قال رئيس المجموعة السيد" كريستيان كامبون" في افتتاحية نشرت على البوابة الإليكتروني لمجموعة الصداقة المغربية الفرنسية" واحيانا عندما تأتي غيمة لتحجب العلاقة بين البلدين فأن مجموعتنا يمكنها أن تلعب جورا مفيدا من أجل التفاهم بين المسؤولين من أجل تقوية الروابط التاريخية بين البلدين ومؤسساتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية . فالمغرب لم يعد يقبل بعض التصرفات الدبلوماسية الفرنسية خاصة التي تضعه في موضع البلد الذي لا يحترم حقوق الإنسان كما وقع عندما داهمت الشرطة الفرنسية إقامة السفير المغربي للاستماع القضائي لرئيس المخابرات المضادة عبد اللطيف حموشي ، بناء على عدة شكايات من قبل منظمات غير حكومية مدافعة عن ضحايا التعذيب من بينها شخصين لهما جنسية مزدوجة فرنسية – مغربية . والحال أن كلمة حقوق الإنسان فضفاضة وبالتالي كل يمكن تأويلها وفق ما يخدم مصالحه غير أن المجتمع المدني الفعلي والمنظمات الحقوقية النزيهة على قلتها يمكنها أن تقوم بدوؤها في كشف الحقائق في كلا البلدين وتلعب دور الوسيط في رأب الصدع بين البلدين ، غير أن منطق الدولة في كلا الدولتين المغربية والفرنسية وكذا نظامهما المخابراتية لن يسمحا بتفحص الملفات التي تكون موضوع خلاف حقوق الإنسان ، وعدا ملف حقوق الإنسان هناك ملف الصحراء المغربية التي تعمل فرنسا الاشتراكية على العمل عليه كلما وصلت سدة الحكم وتميل لجهة الأطروحة الجزائرية وهذا ما يجانب الحقيقة ولا يأخذ على الأقل موقف الحياد ولم لا الوسيط واستثمار فرنسا العلاقة بين الجارتين بحكم أنها الدولة المستعمرة في الماضي والتي لها مصادر ووثائق قديمة يمكنها أن تكشف الحقيقة التي تربط المغرب بصحرائه وبجزيء من ترابه الذي هو تحت السيطرة الجزائرية بالحدود الشرقية . لكن فرنسا لا تريد مراجعة سياستها الخارجية تجاه دول المغرب العربي معتبرة أن الوضع السياسي وبنياته الفكرية مازالت كما القرن الماضي ولذلك مازالت تتعامل بنفس الأدوات المادية والذهنية القديمة دون تحيين الأهداف وتجديد النخب الإدارية والمقرر في تلك السياسة الخارجية التي تطبق على المغرب والجزائر ودول عديدة من إفريقيا والشرق الأوسط . . ، والمغرب عليه أن يضع خطة سياسية ودبلوماسية خاصة بفرنسا تتكون من عدة جوانب وعلى مراحل زمنية تهم الثقافة والعلاقة الثنائية والعلاقة مع الاتحاد الأوربي في كل المجالات مع العمل على تحديد معالم السياسة الخارجية الجديدة وتبيان ركائزها التي تقوم على احترام الهويات المغربية من ثقافة ولغات وتقاليد وعقيدة وطبيعة النظام السياسي وجعل المركز الأساسي لتلك العلاقة المواطن المغربي وكل مساس عنصري أو غير قانوني يجعل منه قضية دولة حتى لا يبقى المواطن في فرنسا أو دول الاتحاد الأوربي عرضة للاستفزازات والكراهية بسبب لون بشربه أو عقيدته . وكل تصعيد في توتر العلاقات بين البلدين سوف يوسع الهوة ويعمقها مما قد يحرم الشعبين من فضاءين نسجت حوله روابط الصداقة والتعامل الأخوي والتبادل الفكري والتجاري وتنقل البشر وربط علاقات إنسانية تتجاوز الحدود والخلفيات الفكرية والعقائدية وتسمو الى ما هو ارقى في الإنسان من نبل وقدرة للعطاء والمشاركة . وعليه من الملح في الوقت الراهن هو تكاثف الجهود بين المغرب وفرنسا للعمل على وضع معالم سياسة خارجية جديدة مبنية على الاحترام المتبادل والابتعاد عن الخلفيات ورواسب الماضي المبني على خلفيات تاريخية طواها الزمن ، وفتح صفحة جديدة لكتابة تاريخ حديث يسجل النيات الحسنة لتطوير شراكة سياسية واقتصادية وثقافية لأن ما بين البلدين مجالات عديدة لتطويرها للقضاء على العقبات التي تعترض سبيلهما .فالثقافة والتاريخ المشترك والمصالح الاقتصادية والعلاقات الاجتماعية والقرب الجغرافي كلها عوامل يجب الاشتغال عليها بعيدا عن الخلفيات ومعتمدين على الرؤية الموضوعية والعلمية في تناول القضايا الثنائية والدولية والإقليمية دون الدخول في بولميك سياسي لا ينفع بل يضر مسار البلدين