عند استحضارنا لمبادئ وآليات العدالة الانتقالية الدولية في مسارها التاريخي، فإننا كما نأخذ بعين الاعتبار جوانبها الحقوقية والقانونية المتماهية مع المساطر المنتهجة من أجل الكشف عن حقيقة فظاعة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان المرتكبة في الماضي وكيفية تقديم الاعتذار كمدخل نحو المصالحة الشاملة التي تعززها إجراءات تتغيى وضع ضمانات تكفل عدم تكرار ما جرى مع عدم الإفلات من المحاسبة مستقبلا، فإننا في نفس الوقت نعمد إلى طرح أدبيات العدالة الانتقالية في الجانب المتعلق بالذاكرة وتاريخ الزمن الراهن والأرشيف، مما من شأنه أن يفضي إلى خلق حركية ذات دينامكية تجعل من بين أهدافها الأساسية العمل على إرساء تدابير جديدة لعمليتي قراءة وكتابة حيثيات وملابسات تاريخ المغرب المعاصر على وجه التحديد في هذا السياق، يشد انتباهنا مدى التحول الجدير بالاهتمام الحاصل على مستوى الكتابة التاريخية منذ مطلع هذه الألفية الثالثة الجديدة، بحيث يتعلق الأمر بمجمل التاريخ الوطني بكافة جهاته، وضمنها الجهة الشمالية من المغرب، الأمر الذي يستدعي منا هذه المرة الوقوف بنوع من التمعن الدقيق عند أهم الأبحاث والدراسات التاريخية التي ميزت هذه الآونة الأخيرة، وفي سياق من هذا القبيل يمكننا الارتكان إلى نماذج من بعض المخطوطات التي تنسحب على الفترة التاريخية ذات الصلة بتجربة المقاومة المغربية في منطقة الريف التي قادها الزعيم الوطني محمد بن عبد الكريم الخطابي ضد الاحتلال الإسباني خلال العقد الثالث من عشرينيات القرن الماضي السياقات الوطنية والدولية التي أحاطت بالإطار المجتمعي العام لصدور مذكرات لاريونيون : وقد كان من بين المواضيع التي تطرقت إلى أهم مضامينها تلك المخطوطات، الفضاءات التي تجد مرجعيتها في البناء المفاهيمي لميكانيزمات التربية والتكوين والتنظيم التربوي لبعض المؤسسات التعليمية التي تزامن إشعاعها المعرفي مع الفترة التي تولى فيها البطل المغربي محمد بن عبد الكريم الخطابي تدبير دفة أمور الشأن العام بمنطقته، ومنها كذلك تلك الوثائق أو المخطوطات التي تهم الإرث المشترك والجماعي للمنطقة من خلال تجربته الخاصة في قيادة عمله الوطني الذي كان يروم التصدي للأطماع الأجنبية التي كانت تستهدف احتلال هذه المنطقة المغربية، غير أن أهم ما وسم هذه الجهود المبذولة من قبل نخبة من الباحثين المختصين والمهتمين بعلم التاريخ، صدور مخطوط خلال الأشهر القليلة الماضية إن هذا المخطوط عبارة عن مذكرات تسلط الضوء عن فترة المنفى التي عاشها الزعيم بجزيرة "لاريونيون"، قام بالتقديم له وتحقيقه والتعليق عليه كلا من الأساتذة : محمد أونيا، عبد المجيد عزوزي، عبد الحميد الرايس، جمال أمزيان، وتكلف الصحفي محمد أحداد بتغطية أهم محتوياته من خلال أحد الأعداد المنشورة بجريدة المساء في شهر نونبر من سنة 2017 المنصرمة، كما أن هذه المذكرات تأتي متزامنة مع سياق وطني تميز بحدثين بارزين طبعا مسار سياسة الشأن الثقافي والبحث التاريخي الأكاديمي في بلادنا. من الناحية الأولى، فقد سبق للجمعية المغربية للبحث التاريخي أن نظمت لقاء علميا باشتراك مع مؤسسة أرشيف المغرب ومركز محمد بنسعيد أيت يدر للأبحاث والدراسات، يوم 22 أبريل 2014 ، مع تخصيصه لتقديم قراءات في بعض أعمال المرحوم الأستاذ محمد العربي المساري المرتبطة بالتاريخ، ساهم في هذه القراءة نخبة من الأساتذة المتخصصين في تاريخ المغرب المعاصر والراهن، وتم التداول في هذا اللقاء العلمي في أربعة فقط من إصدارات الفقيد المتعددة، وهي: محمد بن عبد الكريم الخطابي، من القبيلة إلى الوطن، الذي قرأه المرحوم الأستاذ عثمان بناني المتخصص في تاريخ محمد بن عبد الكريم الخطابي، وكتاب محمد الخامس، من سلطان إلى ملك، الذي قرأه الأستاذ جامع بيضا، مدير مؤسسة أرشيف المغرب المستضيفة للقاء، والمتخصص في تاريخ المغرب المعاصر والراهن، ثم كتاب علال الفاسي، حضور وعطاء ودور، الذي قرأه الأستاذ محمد المعروف الدفالي، باعتباره متخصصا في تاريخ الحركة الوطنية قبل وبعد الاستقلال، وكتاب ثقوب في الذاكرة، أربع وثائق وطنية، - ضمنها ميثاق لجنة تحرير المغرب العربي التي سبق للخطابي أن ترأسها بالقاهرة- والذي قرأه الأستاذ عبد الحميد احساين، كمتخصص في تاريخ المغرب المعاصر والراهن، وخاصة في عهد الحماية من جهة أخرى، فإن الحدث الثاني الأبرز هو استقبال العاهل المغربي الملك محمد السادس صيف سنة 2017 بمناسبة الذكرى الثامن عشرة لعيد العرش مواطنا أجنبيا في المغرب،يسمى" تيري مالبير" وهو أستاذ للتعليم العالي متخصص في الأنتروبولوجيا وعلم التاريخ تنحدر أصوله الانتمائية من جزيرة "لاريونيون"، تابع دراسته بفرنسا وانصبت اهتماماته أيضا على البحث في الأسرة والتربية والمدرسة، وقد أهدى الملك كتابا يحمل عنوان" منفى عبد الكريم الخطابي، بلاريونيون 1926 – 1947 "، وفي نفس الوقت فقد اعتنى بمنفى جلالة الملك محمد الخامس طيب الله ثراه بجزيرة مدغشقر وأقام من أجل ذلك معرضا خاصا يؤرخ بالصور لهذا الحدث بجزيرة مدغشقر في شهر نونبر من سنة 2016 وتزامن ذلك مع الزيارة الملكية للجزيرة ، وقدم بالمناسبة جميع صور المعرض للمندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير بالمغرب، وحسب تعبيره فقد غمره وأسرة عبد الكريم كلها الفرح بعد أن تقبل الملك الكتاب عن عبد الكريم، ويدل هذا الاستقبال على عناية الملك بتاريخ البلد، ورجالاته ورموزه الوطنية بدون استثناء، خاصة وأن المغرب كان في أوج احتفالاته بمناسبة اعتلاء عاهل بلادنا عرش المملكة المغربية دور الاشتراكيين المغاربة في التأسيس لمفاهيم وقيم تاريخ الزمن المعاصر : عودة إلى البدء لنسجل أن مذكرات " لاريونيون " تقع في 48 صفحة وهي نسخة عن المخطوط الأصلي المحرر بالعربية علي يد محمد بن عبد الكريم الخطابي وخضعت في جوهرها وكما يبدو منذ البداية لآلية سؤال/ جواب، التي تولى عملية تنفيذها الضابط الفرنسي " موريس صاني " الذي كلف من طرف رؤسائه الفرنسيين بمرافقة الخطابي وأسرته في رحلته الطويلة إلى المنفى، وهو من مواليد الجزائر وقد تابع دراسته الثانوية والجامعية بأحد الكليات الجزائرية في بداية القرن العشرين، وتمكن من تعلم اللغة العربية وإتقانها، فوجدها هذا الأخير فرصة سانحة لمجادلة الخطابي ومساءلته حول تجربته التحريرية بالمغرب خلال الرحلة والبدايات الأولى لنزوله في الجزيرة، خاصة وأن مهمة تدوين المخطوط استغرقت شهرا كاملا، وبعد أن حصل السيد " صاني " على هذا الأصل من المخطوط قفل راجعا إلى بلده وفي حوزته هذه الوثيقة التاريخية نظرا لانتهاء المهمة التي أسندت إليه بشأن إجراءات مرافقة الخطابي واستقراره بمنفاه في جزيرة " لاريونيون " وفي خطوة ثانية، تأتي الحلقة الأهم بناء على الإفادات المعرفية التي استقيناها من مجهودات الأساتذة المحققين للمخطوط، وهكذا فقد تظافرت المساعي الجادة والاجتهادات بدءا من الباحث محمد أمزيان، ومرورا بكل من الأساتذة والوطنيين الغيورين عثمان بناني والتهامي الأزموري وعبد الفتاح سباطة ومحمد البارودي على أساس النجاح في الحفاظ على المخطوط التاريخي وبعدها الارتقاء نحو صياغته بأسلوب يضفي عليه طابعا من عمق التاريخ الأكاديمي الذي من شأنه أن يكفل له الانخراط عن جدارة ضمن دائرة الأبحاث والدراسات المنشورة التي يعتد بها مستقبلا كأحد المرجعيات المصدرية التي تثري محتوى مكتباتنا وربائد خزاناتنا الوطنية، وقد تحقق هذا المبتغى بالفعل، ولكن لا بد من الالتفات في هذا الإطار بالخصوص إلى الترجمة التي قام بها للمخطوط من العربية إلى الفرنسية الأستاذ التهامي الأزموري والتي تم اعتمادها في هذه الدراسة المنشورة على شكل مذكرات، دون أن ننسى بالطبع مساهمات كلا من المستشرق والسوسيولوجي الفرنسي " جاك بيرك " والمؤرخة الإسبانية " ماريا روسا ذي مادرياغا " التي لجأت إلى التعليق على الترجمة الفرنسية التي وضع مقدمتها المؤرخ الفرنسي الكبير " روني غاليسو" جدير بالذكر أن كلا من البناني والأزموري وسباطة والبارودي، كانوا من قدماء مناضلي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، إلى جانب أنشطتهم السابقة في نقابة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، إضافة إلى انتساب البعض منهم إلى خلايا الفدائيين ووحدات جيش التحرير المغربي إبان عهد الاستعمار، وقد عانقوا كتحصيل حاصل لمواقفهم ونضالاتهم الديمقراطية ضريبة مرارة المنفى وآلام الاغتراب منذ بداية الستينيات من القرن الماضي، ولولا هذه الثلة من الاشتراكيين الذين كانوا يغترفون من منهل الإيديولوجيات والأفكار اليسارية لما عرف هذا المخطوط طريقه إلى الصدور نظرا لحرصهم الكبير على تاريخ بلدهم في وحدته الشاملة وبغناه الجهوي والمناطقي الذي يعضد من لحمته وأواصره الوطنية المتماسكة، يحدوهم في ذلك الأمل والنهم المعرفي، باعتباره المدخل المكين نحو الوحدة الموضوعية لتاريخ البلد، والتأسيس لمنهج تاريخي ينشد خدمة الموضوعية ويعمل في الوقت ذاته على تنوير المغاربة بمحتويات تاريخهم المشترك بما يحفل به من العلائم المشرقة التي تستوجب الافتخار، وكذلك بما يعتور مسيرته من البؤر المعتمة التي تقتضي التحولات الوقوف عندها من أجل الاستفادة من تحديات المستقبل وتجاوز عوامل الفشل ومثبطات أزمنة الماضي، وإلا كيف نفسر انغمار محمد البارودي وانكبابه على استنساخ المخطوط التاريخي الذي توصل به بأم يديه، نظرا لارتفاع التكلفة المالية لعملية النسخ الآلي في فرنسا آنذاك وضعف الإمكانات التي تسعفه في طبعه عبر الطرق السريعة والمتداولة، وقد عرف عنه أيضا بقاؤه في فرنسا إلى حين مماته، وحتى بعد الخطاب التاريخي للملك الراحل في 1994 الذي قضا بإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين وعودة المنفيين والمغتربين إلى أرض الوطن، وفي ذات السياق أشار الأساتذة الذين قاموا بتحقيق المخطوط والتعليق عليه إلى المصير المأساوي للتهامي الأزموري أستاذ التاريخ بالجامعة الفرنسية، هذا الأخير الذي انتابته بعد اختطاف وتصفية صديقه الحميم المهدي بنبركة اضطرابات نفسية مستفحلة لم يتمكن من مغالبتها، مما اضطره إلى وضع حد لفصول هذه المعاناة، وتم نقل جثمانه ليوارى الثرى في مسقط رأسه الأصلي بمدينة وزان المغربية بالنسبة للمرحوم الأستاذ عثمان بناني فهو أخ زوجة الشهيد المهدي بنبركة السيدة غيثة البناني، رجع من منفاه في فرنسا الذي عاش فيه ابتداء من 1958، إلى بلده المغرب سنة 1981، ومن يومها فقد أسندت إليه مهمة تدريس التاريخ في جامعة محمد الخامس بالرباط، وتمكن من إجراء لقاء مع محمد بن عبد الكريم الخطابي في القاهرة، كما نجح في إنجاز أطروحة دكتوراه جامعية غير منشورة حول المقاومة بالريف المغربي، معنونا إياها ب : " الاستعمار الإسباني والمقاومة الوطنية في شمال المغرب 1921 – 1926 " وساهم إلى جانب مجموعة من الشخصيات الوطنية والفعاليات الأكاديمية في تنظيم ندوة باريس الدولية سنة 1971 حول الريف وتاريخه الوطني ، وقد زار قبل وفاته في شهر يونيو 2016، شمال المغرب عدة مرات في إطار رحلات علمية تزامنت في بعض المناسبات كما حدث في 2011 مع قوافل علمية نظمتها شعب التاريخ من مختلف الجامعات الوطنية إلى العديد من المدن المغربية حول موضوع التاريخ المعاصر والراهن للمغرب مناقشة تاريخية في أبرز محتويات المخطوط : إن مذكرات " لاريونيون " موضوع مقالنا هذا، قد تطرقت في أصل مخطوطها إلى العديد من الوقائع التي حاولت الإحاطة فيها بأهم الأحداث التي عرفتها هذه المنطقة المغربية خلال العشرينيات من القرن الماضي، بما فيها عائلة الخطابي ونسبه والمسار المتدرج لحياته الشخصية، وبداية هجوم الإسبان على الريف، وكذلك مقتل الشريف سيدي محمد أمزيان، والمعارك التي خاضتها الساكنة ضد الاحتلال، ومعاملة الأسرى، وسوء الفهم الذي حصل بينه وبين فرسا، وأسر الشريف مولاي أحمد الريسوني وغيرها من الأحداث، إلا شيئين إثنين فقد آثر عدم إثارتهما، يتعلق الأمر بكل من كونفدرالية اتحاد القبائل الريفية التي عرفت في تاريخنا الوطني بالجمهورية الريفية، وثانيهما ملف الغازات السامة خلال حرب الريف وذلك لإدراكه أن مسألة التنظيم في النقطة الأولى المتعلقة بتجربة تدبيره لشؤون الساكنة لا تعدو أن تكون مجرد تخطيط أو تكتيك مرحلي مؤقت استوجبته مجمل الظروف العامة، أو الأوضاع التاريخية لهذه الفترة المحدودة التي كانت تفرض الدفاع عن وحدة البلاد عبر سعيه نحو استجماع همم وعزائم المواطنين في هذه المنطقة القصية من التراب المغربي بقصد حماية ثغورهم الداخلية من خطر الغزو الأجنبي، وبالتالي فإن الوضع لم يعد يسمح بالتداول في موضوع من هذا القبيل خاصة بعد انتهاء الحرب وعودة الأمور ليمسكها بشكل طبيعي وكما هو مألوف عبر تاريخنا الوطني السلطان المغربي باعتباره صاحب السلطة الشرعية الكبرى في البلاد وممثلها الأسمى، لاسيما وهو المأثور عنه في هذا المجال قولته الشهيرة : " لا أريدها سلطنة ولا إمارة ولا جمهورية ولا محمية .. أريدها عدالة اجتماعية ونظاما عادلا يستمد روحه من تراثنا "، وهو الأمر الواقع الذي عكسه أيضا بكل صدق وشفافية متناهية لا مواربة فيها الدكتور عبد الهادي بوطالب ضمن صفحة 95 في الطبعة الثانية من كتابه القيم " نصف قرن في السياسة " . بالنسبة للغازات السامة، فقد كان الزعيم على إلمام كامل بمدى التعقيدات الدولية الكبرى التي تطبع هذا الملف بحمولته الحقوقية والسياسية، وأن الأوفاق والمعاهدات الدولية التي شكلت البدايات الأولى لنشأة القانون الدولي الإنساني قد كانت واضحة في هذا المجال منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين (1899 – 1907 ) والتي تؤرخ بالخصوص لتبلور ما يسمى بقانون"لاهاي"، وحماية ليس المدنيين فقط بل حتى العسكريين ومحاولة أنسنة منطق الحروب والتقليل من منحاها الواسع، وذلك قبل اتفاقيات جنيف الأربع وبروتوكوليها الإضافيين المكملين لها خلال 1977 ، مما جعل بعض الدول الأوروبية والغربية الكبرى تتورط في عدم احترام هذه الآليات الحمائية من القانون الدولي وتمس بأهم مقتضياتها ومن بينها إسبانيا وفرنسا، فكيف له والحالة هذه وهو أسير حرب في يد فرنسا وتحت رحمتها، وفي الآن ذاته، فقد كانت هذه الدولة تتولى ترحيله رفقة أسرته واقتياده صوب مجاهل منفاه السحيق، أن يتمكن أو يقوم بإثارة موضوع قد يجلب له ولأفراد عائلته بالخصوص الكثير من الأهوال والتبعات ذات التكلفة الخطيرة، وهو الأمر الذي جعله يؤثر السكوت في مذكرات "لاريونيون" عن ملف الغازات السامة، نظرا لكون وضعه كأسير لا يسمح له بذلك وقد يكون من الأهمية بمكان أن نسجل كون السيدة الفاضلة عائشة الخطابي نجلة محمد بن عبد الكريم الخطابي أحرزت بدورها على نسخة من هذا المخطوط عن مذكرات والدها، وإن كانت في أحد تصريحاتها الصحفية التي أدلت بها لأول مرة في جريدة المساء سنة 2012 أشارت أن مذكرات والدها توجد بحوزة أحد المصريين المسمى حسن محمد حسن البدوي، لننتظر حتى سنة 2017 ونحن نتابع صدور طبعة الكتاب الأولى في الأكشاك والمكتبات وهي تنشر على شكل أبحاث ودراسات متخصصة تعتمد مذكرات الخطابي وتستند إليها خلال السرد والتحليل التاريخي فقط، آخذة منحى دراسة وثائقية ذات طابع أكاديمي أكثر مما هي مذكرات، وعمد المؤلف إلى إصدار كتابه هذا تحت عنوان " محمد بن عبد الكريم الخطابي ودوره في تحرير شمال إفريقيا 1920 - 1963" (وثائق ومذكرات) . مطارحات فكرية حول الغايات الفضلى من فلسفة التاريخ : وقبل هذا التاريخ كانت السيدة الكريمة عائشة الخطابي ذكرت في استجواب صحفي أجري معها أن المذكرات موجودة بالقاهرة، وهي بحوزة أنجال المرحوم سعيد الخطابي على شكل أوراق مكتوبة بخط اليد والأخرى بالآلة الكاتبة، وأبدت نوعا من الحسرة والتأسف البالغ حول التلكؤ غير المقصود الذي يشوب عملية تعميمها من أجل الاستفادة منها من قبل الباحثين والمهتمين وعموم المواطنات والمواطنين المغاربة، لأنها لا تندرج في حوزة الأملاك الخاصة بعائلة الخطابي وحدها، بقدر ما هي ملك في متناول عموم المغاربة ومن حق الجميع أن يطلع على مضامينها في مختلف أرجاء العالم، وذكرت في هذا السياق أن عائلة الخطابي قد رفضت العرض السخي الذي تقدمت به شخصيات أمريكية من عالم التأليف والتاريخ والسينما بقصد شراء مذكرات الزعيم وتحويلها إلى عمل سينمائي في المستقبل، وبلغ المقدار المالي المحدد كقيمة للمذكرات 500 ألف دولار أمريكي، فضلا عن عائدات حقوق التأليف لمدة أربعين سنة، وهو مبلغ ضخم حسب ظروف العيش خلال الخمسينيات وبداية الستينيات من القرن الماضي، إلا أن العائلة حسب تصريح السيدة المحترمة عائشة كان موقفها الحاسم هو الرفض، بل الاستنكاف عن خوض أية مغامرة من هذا القبيل ، على الرغم من أن العائلة الخطابية كانت قد بدأت تعيش آنذاك بوادر تداعيات ضائقة مالية كبيرة اختصارا، ومهما يكن الأمر فإن موضوع المذكرات يبقى من اختصاص العائلة بالأساس، وما أحوجنا إلى مذكرات أخرى تشمل جميع رموزنا في البلاد وشخصياتنا الوطنية سواء أكانت سياسية، فكرية أو ثقافية، خاصة ما يرتبط منها بتاريخ الزمن الراهن والمعاصر الذي بدأت تظهر فعاليته القصوى ابتداء من حدث انهيار جدار برلين وانتهاء الحرب الباردة، وما رافق ذلك من انتصار لقيم الحرية والتسامح والحق في العيش المشترك، إذ يبقى لأسلوب كتابة المذكرات ميسمه الخاص وقيمته التي تميزه عن تنظيم الأيام الدراسية والندوات الفكرية أو إقامة مهرجانات تخلد ذكرى هذه الشخصيات سنويا، على الرغم من الأهمية الكبرى التي تكتسيها هذه الأشكال الثقافية الأخيرة وكأني بمذكرات الخطابي هذه بما تتضمنه من تدقيقات، ومن تمعن في بعض المفاهيم وتصحيحات لمسار تاريخنا الوطني، تجيب عن بعض التشويش الفكري الذي يصاحب اليوم المسألة الريفية برمتها كما عيشت تجربتها خلال العقد الثالث من القرن العشرين، ففي زمن الوسوسة بالنعرات يجب أن نستمع إلى صوت الخطابي وهو يدعو بقوة إلى الارتقاء بفكرنا السياسي من نطاق الجزء إلى مستوى الكل، من الإقليمية الانعزالية إلى أفق الوطن الذي يستوعب الجميع، والذي لا غنى فيه عن أحد، ولكون الخطابي من بين الشخصيات الوطنية التي كافحت من أجل استقلال المغرب، وساهمت نتائج حركته التحريرية في إيقاظ الوعي الوطني لدى المغاربة، وإعادة الثقة بالنفس لديهم من خلال شعورهم بواجبهم في العمل على تحرير بلادهم أسجل هذا، وفي نفس الوقت متمنيا أن لا تقودنا المغالاة نحو أسطرة شخص الخطابي وإضفاء هالة التقديس على سيرته ونضاله الوطني، مع وجوب التأكيد في هذا المضمار على أهمية الوقوف عند نظرية المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي (1889 – 1975 ) التي تحيل فكرتها الجوهرية على أن التاريخ ليس من صنع الأشخاص، بل إن الأشخاص أنفسهم من صنع المجتمع، وبالتالي فإن الظروف المتشابكة هي التي تصنعهم، وقد وجه توينبي بفكرته الواضحة هذه ضربة موجعة لأنصار نظرية التعصب، ولا شك أنه قد يكون من المستفيدين من التراكمات الفكرية السابقة التي أبدعها كارل ماركس في هذا المجال . وجاءت دراسات الأستاذ والمؤرخ المغربي جرمان عياش حول تاريخ المغرب لترسخ عن عمق حقيقي، ووعي تاريخي كبير من مدى أهمية هذا الطرح الفكري الأخير، وذلك في خضم أبحاثه العلمية التي ركز فيها كباحث مقتدر على موضوع الوطنية والوعي الوطني والعلاقات المغربية الأجنبية وكذلك التدخل الاستعماري في المغرب والأقلية اليهودية المغربية، كما أولى " جرمان عياش" اهتماما خاصا بموضوع المجتمع الريفي وحرب الريف، بحيث عد انطلاقا من بعض الدراسات القيمة، أول من أخرج المعركة الريفية من هالة الأساطير إلى ميدان التاريخ والبحث المنهجي الدقيق القائم على أسس من التوثيق والموضوعية، لتعكس القراءة المتمعنة لمتنه في الكتابة التاريخية عدم سعيه نحو تحقيقه لغاية إبراز زعامة الخطابي وبطولته، وإنما توجهه بالأساس نحو التأسيس لعلمية التاريخ بناء على المستجدات المتراكمة والتناقضات الجدلية التي تم تحقيقها في الموضوع .