هل ترك الأمير محمد عبد الكريم الخطابي مذكرات؟ يبدو هذا السؤل بريئا في شكله، لأنه لا يهدف إلا إلى معرفة ما دوَّنه الخطابي شخصيا عن حرب المقاومة الريفية ضد الإسبان والفرنسيين، وعن تجربته السياسية حينما أسس نواة جمهورية حديثة، حتى قبل أن يؤسس مصطفى كمال أتاتورك جمهوريته؛ فالرجل، على كل حال، كان وراء تجربة فريدة، متقدمة وواعدة وسط محيط عربي وإسلامي مغلق وشبه جامد، وواقع يوجد، في مجمله، تحت السيطرة الأجنبية. ومن شأن الكشف عن هذه المذكرات ونشرها وإشاعتها بين الناس أن تستكمل حلقات كتابة تاريخ المقاومة، في الريف بخاصة وفي المغرب بعامة. وعن هذا السؤال تتفرع أسئلة أخرى، مقلقة أحيانا ومستفزة أحيانا أخرى للذاكرة الجماعية ولتاريخ المقاومة ضد الاستعمار. لنفترض أن هناك مذكرات "حقيقية" و"أصلية" يمكن نسبتها إلى الخطابي، فهل سجل فيها صاحبها كل شيء؟ هل ما ورد فيها من مواقف سياسية من السلطة المركزية وسلطات الاستعمار يتوافق مع أفكاره وآرائه الصريحة التي أدلى بها للصحافة العربية والدولية بعد نزوله في القاهرة عام 1947؟ لماذا لم تنشر هذه المذكرات حتى الآن؟ وما الذي يمنع صدورها؟ هل للمخزن يد في منع نشرها؟ وفي الجهة المقابلة، هل تستحق مذكرات الخطابي كل هذه الهالة "التقديسية" التي يضفيها عليها البعض؟ ومن له المصلحة في "تقديسها" ورفعها إلى مصاف "القول الفصل" في تاريخ المقاومة الريفية؟ وبصيغة أخرى، هل يمكن اعتبار مذكرات الخطابي بمثابة "الحقيقة الغائبة" في تاريخ المغرب المعاصر؟ هذا الموضوع هو محاولة للإجابة عن السؤال الرئيسي الأول "البريء"، وهو أيضا قراءة أولية في مضامين "مذكرات" يمكن الاطمئنان إلى "مصداقيتها" ونسبتها، بيقين أكبر، إلى الأمير عبد الكريم الخطابي. وبذلك تأمل هذه القراءة السريعة أن توفر عناصر أجوبة عن الأسئلة الأخرى المتفرعة عن السؤال الأول. سأتطرق إلى نوعين من المذكرات التي لم يسبق للجمهور العريض أن تعرف عليها، باستثناء شذرات منثورة في ثنايا عدد محدود من الدراسات الأكاديمية المنجزة عن الخطابي وحرب الريف التحريرية. هذان الصنفان هما: "مخطوط سانييس" أو "مذكرات لاريونيون" و"مخطوط أمزيان". عن المخطوط الأول وردت إشارات مهمة لدى الباحث المغربي الدكتور جرمان عياش في أطروحته المعروفة عن "جذور حرب الريف"، ووردت كذلك عند من اعتمد لاحقا على دراسات عياش مثل الدكتورة ماريا روثا دي مادارياغا. أما "مخطوط أمزيان" فلا يكاد يعرف عنه إلا النزر القليل. وكنت أول من اعتمد عليه في دراسة جامعية تحت عنوان "عبد الكريم الخطابي ودوره في تأسيس لجنة تحرير المغرب العربي"، كانت قد نوقشت في كلية الآداب بجامعة بغداد عام 1988. وفي عام 2008، أنجز الباحث المصري حسن البدوي بحثا جامعيا حول الخطابي تحت عنوان: "الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي: صفحة مشرقة في تاريخ المغاربة"، معتمدا على "مخطوط أمزيان" اعتمادا كبيرا، كما سنأتي على توضيحه لاحقا. شكوك قديمة خلال الندوة الدولية الأولى التي عقدت في باريس عام 1973، وشارك فيها ألمع الباحثين المختصين في تاريخ المغرب المعاصر وتاريخ المنطقة العربية والإسلامية، أثير موضوع وجود مذكرات الخطابي من عدمه؛ وتطرق بعض المتدخلين آنذاك، على هامش جلسات المناقشة، إلى "نوع" من المذكرات يمكن نسبته إلى الخطابي كان معروفا تحت عنوان: ما الذي كانت ثورتنا تريد تحقيقه؟ لم يوفق المشاركون في تلك الندوة الدولية في تحديد مضمون المذكرات المزعومة، ولا من قد يكون كاتبها الحقيقي. أما الباحث المصري أحمد أنيس، المشارك بدوره في الندوة المذكورة، فأوضح ما قام به من "جهود" شخصية لدى أفراد من أسرة الخطابي، المقيمة في القاهرة، من أجل الاطلاع على مذكرات الأمير، ومحاولاته المتكررة لإقناع ورثته بضرورة طبعها ونشرها. وبعد "فشل" تلك الجهود، خلص أحمد أنيس إلى نتيجة زرعت مزيدا من الشك دون تقديم إجابات؛ يقول: "لست أحتاج أن أذكر أن عبد الكريم قد مات في القاهرة في سنة 1963. ويقول أبناؤه إنه ترك مذكرات تتعلق بحياته وكفاحه لم تنشر بعد. لم أتمكن من الاطلاع عليها، وأعتقد أنها تحوي انتقادات لعبد الناصر بسبب السياسة التي سلكها تجاه المغرب العربي. ويقال إن هذه المذكرات تحوي انتقادات أخرى موجهة لمحمد الخامس وبورقيبة وبن بلة. وتؤكد عائلة عبد الكريم أنه لا يمكنها السماح بنشر هذه المذكرات منقوصة. وقد حاولت طيلة سنة كاملة إقناعها بأهمية نشر هذه المذكرات، سواء في القاهرة أو بيروت أو سواهما. وقد حصلت على وعود ولم ينفذ منها شيء. لذلك توصلت إلى هذه النتيجة: إما أن ورثة عبد الكريم لهم مصالح في المغرب، وأنهم لا يريدون إقلاق الملكية هناك بنشر ما يحويه عبد الكريم من انتقادات وما كشف عنه من أسرار، أو أن عبد الكريم لم يترك أبدا مذكرات". (الخطابي وجمهورية الريف، ط. ع، ص. 317). مخطوط سانييس أو "مذكرات لارينيون" كان الدكتور جرمان عياش أول من أشار إلى وجود ما أسماه ب"مذكرات لاريونيون"، نسبة إلى الجزيرة التي نفي إليها الخطابي وأسرته في أعقاب انتهاء الحرب الريفية عام 1926. وقد أوضح جرمان عياش، في سياق بحثه عن "جذور" حرب الريف في إطار دراسته الموثقة لنيل درجة الدكتوراه في التاريخ، أنه اعتمد على الترجمة الفرنسية للمذكرات المذكورة، مبديا أسفه على ضياع النسخة العربية الأصلية. كما تساءل عن كيفية وصول تلك المذكرات إلى الشخص الذي قام بترجمتها، وهو المرحوم التهامي الزموري؛ يقول عياش: "في جزيرة لارينيون، قبل 1929، كتب محمد بن عبد الكريم "مذكرات لارينيون" كما نسميها نحن، والمعروفة أيضا بمخطوط سانييس Manuscript Sagnes، على اسم الضابط الترجمان الذي رافقه في منفاه، كما تدل على ذلك الإشارة الوحيدة التي عثر عليها فيه. إننا نجهل كيف وصل هذا (المخطوط) إلى يد مالكه الحالي، بل لم نعلم -نحن أيضا- بوجوده إلا من الترجمة التي قام بها المرحوم التهامي الزموري لهذا المخطوط من العربية إلى الفرنسية؛ فكفاءة المترجم التي لا يشوبها شك تضمن لنا مطابقة النص الفرنسي للنص العربي، عدا بعض الأخطاء الناتجة عن جهله بالإطار التاريخي، والتي يسهل ضبطها وتصحيحها حالما نلم بهذا الإطار. أما في ما يخص صحة مضمون الوثيقة، فإنها تبدو مؤكدة. صحيح أن الأخطاء الناتجة عن عدم الدقة متعددة فيها، لكنها ترجع إما إلى خيانة الذاكرة التي لا يمكن تفاديها وإما إلى أفكار جاهزة. إلا أن الوثيقة تحمل في ثناياها، على العكس من ذلك، عدة حقائق تجهلها العامة، بيد أنها تطابق معطيات الوثائق، كما تنطوي على مجموعة مصطلحات محلية معاصرة لتلك الفترة، حيث لم يتمكن أحد سوى السي محمد بن عبد الكريم من ذكرها أو استعمالها. إن هذه الوثيقة، بصفحاتها الستين المرقونة على الآلة الكاتبة، أعطتنا، على الخصوص، قاعدة ننطلق منها لتحليل قادتنا إليه وثائق الأرشيف". (جذور حرب الريف، ط. ع. صص. 356 -357). يظهر من هذا النص، أن الدكتور جرمان عياش لم يشك في "مصداقية" مضمون "مذكرات لاريونيون"، باستثناء بعض الأخطاء التي أمكن تصويبها اعتمادا على ما توفر لديه من مستندات. وحتى الآن لم يُعرف ما إذا كانت النسخة العربية لمخطوط "سانييس" متوفرة أم لا، ولا من يحتفظ بها ولا أين توجد؟ محمد أمزيان