أم الوزارات، وزارة الداخلية، نموذج متفرد في العالم لم يسبق له مثيل. ظهر للعالم بشكل واضح في أعقاب التصريحات "المسرحية" لممثلي الأغلبية الحكومية، التي اجتمعت بشكلها الحزبي برئاسة وزير الداخلية عبد الوافي الفتيت الذي قدم أمامهم عرضا مغلوطا لما يقع في الحسيمة والنواحي. إنها نكتة أضحكت علينا القاصي والداني، رئيس الحكومة يستمع بخضوع لتقرير وزير الداخلية رغم أن الاجتماع ليس حكوميا، والفتيت كما هو معروف بدون انتماء حزبي، السيد سعد الدين العثماني خرج بصحبة ممثلين عن الأحزاب المشكلة للأغلبية الحكومية، ليترجم إملاءات وزارة الداخلية، ويتهجموا على حراك الريف عن طريق ربطه بمزاعم الانفصال وخدمة أجندة خارجية وغير ذلك من التهم التي أكل عليها الدهر وشرب، والتي تستعملها الحكومة بإيعاز من الداخلية عند انسداد الآفاق في وجهها. إن ما يلفق الانتباه هنا وبعد بلاغ الأغلبية الحكومية الذي تراجعت فيه عن تصريحاتها السابقة ووصفت مطالب الحراك بالعادلة، هو تبعية رئيس الحكومة لوزير ينتمي إلى حكومته، إنه العبث بعينه، كيف للمواطن البسيط بعد أن شاهد هذه المسرحية أن يصدق بأن دستور 2011 عزز حقا من موقع رئيس الحكومة، ومنحه سلطات وصلاحيات تقوي من موقفه، كيف لنا أن نصدق بأن صناديق الاقتراع هي وسيلة ديمقراطية لاختيار ممثلينا الذين سيعبرون عن همومنا ويبذلون الجهد من أجل تحقيق مطالبنا، إن كان هؤلاء بدون صلاحيات تذكر، وبدون ضمائر أيضا، كيف لشخص لم يخض استحقاق الانتخابات رغم مسرحيتها، أن يمسك بوزارة ويتقلد المسؤولية، من أين يستمد هؤلاء مشروعيتهم ؟ عن أي عهد جديد يتحدث هؤلاء ومقتضيات الدستور تتعرض لأبشع التجاوزات رغم أن هذا الدستور أنزل ووضع بطرق معلومة ومنح لنا. إن هذا الدستور في فصله 47 ينص بصريح العبارة على أن الملك يعين أعضاء الحكومة باقتراح من رئيسها، فهل يصدق عاقل بأن سعد الدين العثماني اقترح اسم لفتيت أو أحمد التوفيق أو غيرهم من الوزراء التقنوقراط للاستوزار في حكومته ؟ كيف لهذه الدولة أن تتقدم في ظل بقاء عدد من الوزارات التي تعرف بوزارات السيادة بعيدة كل البعد عن سلطة رئيس الحكومة وغير خاضعة له ولا ترتبط به بأي نوع من علاقات الرئاسة أو المسؤولية، بل العكس، نجد رئيس الحكومة تابعا لوزير في حكومته، وموقعه وموقفه أدنى منه بدرجات. إن كل ما تقدم وأكثر لهو إجابة صريحة على أن دستور 31 يوليوز 2011 مجرد نسخة معدلة عن سابقيه، زخرفت بالكلام الفضفاض الذي يحتمل أكثر من تأويل وقدم للشعب على أنه وثيقة عهد جديد يقطع مع الماضي بشكل نهائي، والأصح، أنها وثيقة فارغة من أي مضمون ولا يعتد بها عندما تسوء الأوضاع وتتدحرج الكراسي ببطئ تحت أصحابها، لا الحكومة ولا البرلمان قادران على الوقوف في وجه وزارة الداخلية، إنها تثبت يوما بعد يوم أن زمن البصري لم ينتهي، وأنها حقا أم الوزارات وسيدة كل شيء وما على الآخرين غير وضع أرجلهم في الوحل، والتهام الكعكة بدون أن يهمسوا ببنت شفة، لأنها قادرة على محوهم من على وجه الأرض والمشهد السياسي إن فكروا للحظة في مقاومة إملاءاتها، وما طريقة الإطاحة ببنكيران ببعيدة ليعتبر من يشكك في ذلك، فرغم خدمته للمخزن بكل إخلاص، إلا أنه رمي في مزبلة التاريخ حتى بعد حشده للتأييد الشعبي من الكتلة الناخبة، بعد تعنته عن الانصياع لأولي الأمر وممسكي الموازين. ولذلك، فإن مطالبة حراك الريف بالتحاور مع لجنة ووفد من لدن الملك مباشرة، هو مطلب مشروع وله ما يبرره، لاختصار المسافة أولا، كي لا يضيع الملف المطلبي في دهاليز وزارة الداخلية، وثانيا لأن لا أحد اليوم يثق في قدرة أي كان على الاستجابة لمطالب الريفيين غير الملك، أما وزارة الداخلية فهمها الوحيد هو ترجمة مقاربتها الأمنية واحتواء الحراك، دون أي رغبة حقيقية للاستجابة، ستستجيب فقط إن هي أمرت بذلك، وليس من طرف رئيس الحكومة بالطبع.