غيوم أسقطت السكينة من السماء على فنجاني الغجري، وقهوتهُ سالت على بياضه بشراهة. إنه يوم الأحد. يوم رحلتي جمعت حقيبتي وملابسي وأخذت حافلة نقلتني من مدينة "الكرط"، الوادي المتمرد الذي تتنفس من خلاله عاصمة الإقليم المحدث سنة 2008، إلى "العروي"، المدينة التاريخية التي يعرفها القاصي والداني، حتى "الاسبان" وكيف لا وهي التي وسموها بعار الحرب وفيها قدموا تعازي جنازة الخيانة التي وسموا بها مجاهدي الأمير الخطابي وأنا أتساءل عن أي خيانة نتحدث في ارض أنت تريد أن تغتصبها بمقامات الشرف، فبأي جريمة سنأخذ إذن هل الاغتصاب أم الخيانة، قد يقول قائل : هي الحرب وللشرف فيها تاريخ، قصة، شجاعة، مبدأ، لكني أقول انها ليست الحرب، بل هي مغتصب ارض، فلا شرف فيها ومتى كان الشرف في الجريمة، الشرفاء ماتوا مع الساموراي، حينما اعدم السيف مقابل البندقية في The last Samurai هكذا نقلتني الحافلة وان استجدي بذكريات الماضي بين مدينتي عاصمة الكرط ومدينة التاريخ الموسومة "برعهد اوعروي"، وانا في الطريق انظر من النافذة وزهور "بنعمان" تنساب برياح شرقية والسنين تقول: منذ متى لم تفرح أراضي "ابذرسان" بهذا الاخضرار والأسطورة تصفُ أن هؤلاء القوم ممن تهرب منهم الغيوم كلما قاربت تماس أراضيهم التاريخية، فملامحهم الجافة وشواربهم الكثيفة تحي بالقحولة التي تستكين نفوس هؤلاء و"موليراس" الرحالة الفرنسي سبق آن وصف هؤلاء بوحوش "صحراء الغاريت" بعدما اخبره القبايلي "دريوش" في كتابه " المغرب المجهول" بكل الرحلة. تقترب الحافلة شيئا فشيئا وأنا أمُرّ على "ركمبو" أراضي الأجداد، حيث شجرة "التزخاث" أرمُقها من بعيد تتكايسُ كتفاح صغير، لكن أوراقها من شوك مكسيكي يُهلكُكَ قبل أن تتذوق حلاوة تلك الفاكهة الصغيرة التي يرفض هُيامها أن تمر دون أن تُقبل على اقتطاف ولا حبة منها، أما عندما تُقبل الحافلة على "طزطوطين" هذه القرية ذات الاسم الغريب فلعنة أصابتها والزمن يشهد أنها لم تتغير منذ أن استقر بعض الرُحل على هوامش تلك الطريق المبتذلة المحفورة التي تربط الناظور البحري الحضاري أو النافع بالناظور غير النافع القروي كما يحاول أن يصنف ممن تهوى أنفسهم أنهم أهل الحضارة ويا حضارة متى كنتٍ لهذه الأرض؟ وأنت هجينة جاؤوا بك في تابوت سفينة وضعت رفاثه في ميناء "بني نصار" ، أما حافلتي فكاد ينفد بنزينها لتقف عند قارورات على الطريق وملأت محركها الذي يزأر في كل إقلاع لها ، لم تكن المسافة كبيرة بين ارض القرية العجيبة "طزطوطين" وأهل "رعهد اوعروي"، فأخرجتُ حقيبتي بشق الأنفس من ذلك الازدحام الذي يوقفوا الأوكسجين على أن ينتج. وكيف واليوم هو الأحد، إنه سوق المدينة حيث الفوضى تعم الطريق والطماطم تُزركش الأرصفة، وكأني بذلك المهرجان الذي شاهدته على الجزيرة الوثائقية، حيث الاسبان يتارشقون بها كأنها لعبة، وهبت ليبتسموا وهم يضربون بها بعضهم بعض، فأي ثقافة هذه، ألا يتذكرون إثيوبيا لما كانت تعاني الجوع، الم يطلعوا على تقارير منظمة الفاو حول المجاعة في أقاصي كثيرة من أفريقيا، الأرض التي اغتصبوها يوما قبل أن يقدموها قربان لكنيسة روما، هكذا خرجتُ وفي كل لمحة وحركة، ذكرى حدث من التاريخ المهمش والمنسي ورمز حكاية وسياسة لا ندركها إلا بالعودة للكتب، أمثال موليراس أو تراث "ازران" أو جرائد الاسبان أو حتى قنوات التوثيق، وأنا اتجه من بعد هذه الرحلة بحقيبتي البالية تلك وكتبٍ الرثة الممزقة، لم يكون لي اختيار آخر سوى أن انتظر حافلة أخرى خضراء كحشرة " الابزيز" : حشرة خضراء تعيش في حقول القمح والشعير تصدر أصوات غريبة، تتناقل قبائل الريف الشرقي على أنها تنضجُ الحقول، فاخترت ذلك المقهى المتطرف الذي يصدح منه صوت الهدوء ليترامى إلى مقلتي كسكن لا يدركه من يحب الضجيج وضربات " البرتشي" و"الدما". لقد كان صوفيا وأن أرمقه بين تلك المقاهي التي يملئها الضوضاء، فلم أجد إلا هو، ليكون مجلسي لقهوتي الغجرية التي سقط عليها ندى الغيوم يترنح على الفنجان حتى امتزجت مرارة قهوتي بالبرودة التي لم تزيد بذلك إلا جمالا ولذة، ونسيم عطر قديم كان يتمايل مع الريح لينفد.