ملبدةً بدت السماءُ، والليلُ حزني الأكيد.. الطَرقاتُ تتوالى على بابٍ أردته اليوم مُغلقاً بوجهِ من يبغي زيارتي؛ ذلك أنَّ لي بعيداً يموتُ اللحظة. أرى تابوتَه الصاجي محمولاً على أكفِّ حفنةٍ من الأصدقاءِ بغية وضعه على عربةٍ تجرّها أحصنةٌ خُصصت لنقلِ الموتى إلى مقبرة (مون بارناس) وسط باريس فأنظمُّ إليهم. كان زارني بالأمس عندما كنتُ أحاور الصحراءَ التي أعجب بها ديلاكروا من شرفةِ بيتي المطلة على حركةِ الخارج إلى البادية من بدوٍ ومن حضرٍ أو القادم منها. دفعتُ إليه بصينيةٍ تحملُ دلّةً برونزية تحوي قهوةً عربيةً سوداء، وعدداً من الفناجين. وكنت أقرأ في كتابٍ استللته من مجموعةِ كتبٍ لأقرأ فيها قتلاً للجزع الذي هجم عليَّ ساعة عصر ولحظات أنبأتني بغروبٍ عتيم سيأتي محمَّلاً بخبرِ الحزن. قلت اشرب من قهوتنا العربية وابعد ذيول الخمرة المتقهقرة في دروب رأسِك المُحمَّل بالخدر. لم يمد كفّاً تلتقط الدلَّة، ولا رفع فنجاناً، إنما قال: - تركت خلفي باريس وجئتك إلى السماوة لأقول لك غداً أموت. - ما الذي تقوله، يا شارل؟ - الشلل أخذ مني الطاقةَ وأبعد قدرتي على الإمساك بقلمٍ يخط قصيدة نثر أردتها درباً حداثياً لشعر قادم يمتطي حصانَه الموهوبون فيقولون كان قائد العربة شارل بودلير ونحن ركابها السائحون في رياض الشعر.. أنت هنا تتمتع بهواء صحرائكم الرائق، وأنا سئمتُ باريس؟ كلماته الأخيرة جعلتني اقلب الكتاب الذي بيدي لأقرأ عنوانه، وأقول مندهشاً: - سأم باريس؟!. هذا عنوان كتابك الذي بيدي. - أعرف ذلك .. ولهذا تركتها خلفي بكل شوارعها الشاحبة ، وحواريها التي تجاهد في التخلي عن رتابتها، ونهرها الذي أعشقه ماءً وضفافاً وزوارق تلعب على صدره وآتيك أعلمك بموتي قبل أن أُتمم قصائدَ هذا الذي بين يديك. في قمّةِ يأسِه كان، وفي خضمِّ الأسى. طافت في رأسي سنواتُ تشردِه وامتعاضه من حياةٍ قست عليه كثيراً أو هو لم يُحسن عيشها، أو هو الإبداع الراهص في جوفه لم يُتح له العيشَ الرغيد والذي لا يريده مخلوقاً عادياً بل خلاّقاً يزلزل الواقع ويترك حَفراً في الذاكرات الإنسانية. قلت : إذا كان تنبؤك في محله سأحضرُ جنازتَك وإنْ لم احضر لحظات احتضارك حضرتُ تلك الساعة عصفت بهياجِ أمطارِها، والسماءُ أبت إلا أن تهدر قاذفةً بحمولةِ غيومِها من المطر. ونحن نتَّجه إلى المقبرة، أفراداً معدودين. أتخيله مغمض العينين يحلم بعالمٍ يخلو من السأم، ويتخلّى عن السوداوية.. أتخيَّلُه يدوِّن على صفحاتِ الفضاء المفتوح شلالاتٍ هادرةً من قصائدَ نثريةٍ لا تمُت إلى المألوف بشيء؛ فيقفز إلى ساحةِ شقائي جرحُ عزاء، وألمٌ راح يصرخُ في داخلي قولاً لنيتشه لا أدري أين قرأته، يقول: "النوابغُ يموتون شبّاناً لأنهم طيبون أكثر مما تستطيع الأرضُ تحمله".. فأضعُ على شاهدةِ قبرِه باقةً من اعجابٍ، وقصاصةَ ورق كتبتُ فيها: "نَم أيها الحي البهي، وسطَ الأحياءِ الأموات".