«ذلك لأن الحب؛ في حين تضطهدنا الحياة؛ ليس سوى موجة عالية بين جميع الأمواج ولكن ...، وأسفاه، حين يأتي الموت ليدق الباب». بابلوا نيرودا ديوان مائة قصيدة حب القصيدة التسعون هناك في الاستراحة المعطوبة لخطوي، نظرت إلى الدمع الساكن في عيني، حتى عميت، تساءلت عمن يعيد لجثتي المتهالكة قسماتها البهية، عمن يعيد إليها سريرة، تفقس أحلامها المشتهاة كاليقظة. قلت؛ سأقفل باب فرحي المخبأ في جيوب الليل، فأنا لم أزل أنزف في القبو، وسألبس ثيابي، أحلامي المرقعة بخيوط الوهم، أنا النحيل من أجل معشوقة سمعت انهيار اسمي بين يديها، رأيت سقوطي في حضنها، في ليل يحرسني بلا مصباح. امتلأت كفي بالدموع، وحتى عيني، بدهشة تطوف بي مذهولا بين خصرها، جفت أحشائي لما أومأ لها، هجر ونام. ولأني في الرعب أجهل أن أبقى، أن أكون، وأن أعود، عاودت مزارها متنقلة بين شراييني؛ بين رئتي، وبين قصائدي المحمولة فوق ظهر التعب: ............................................. وحتى الدروب التي نسيت عليها دموعي لم تزل شاهدة، لما تدحرجت كالمطر تحت جفونها لما سرت مشلول الخطى في ضياعي ! ............................................. إنها صور تسيل في الكلمات، يتسع انتفاخها في صدري تماما كثقب في الجدار، كيف لم أصغ إلى الألم، يحادث بياض الورقة السهرانة، ولم أجد بياضا آخر، أفرغ فيه تعبي الذي رأيته يطل من عيني الأخرى، كآبة وقصيدة. سأترك الشعر يكسو رأسي، كأشجار مورقة، وأحسن معاشرة الليل لأرى بقايا وجهي، لا يحمل جرحا وأترك عقلي لكلمات، تستجلي مسالكه! تصالحه لمرة أخيرة، تسوقه بدمها وحنجرتها، يبني له معبدا للذاكرة، وأبدا لن أترك الشرود واليأس ثابثين فيه كرمح، ولن أترك الألم فيه يدفن مجدي في الكلمات، وتسوقني الانكسارات معصوب العنين أو ليستوقفني مسنودا إلى جذع فرح راشية ذاكرته كالهواء. للذاكرة / شوق لو يبدأ بعد... للذاكرة/ جرح ينمو فيها كالغاية... للذاكرة / صراخ منفي فيها صوته كالحق والذاكرة /جسد يلم احتضاري كي أبدل بالجرح جرحا، ويحملني دما مورقا بين شفتين وعلمتني إن تكن جمرة الشوق... أكن جسدها الذائب في بحيرة أحلامها. هي امرأة نحيلة... ! ؟ ... وكلما أطلت، تتسارع خيول شهوتها الناعمة في مد أعناقها، لتبقي أجراس الليل ... في يقظة دائمة ! ألا هل غادرتني سريعا أيها الفرح؟! وتركت الفراغ يملؤني، وتركت دموعي، شلالا من الجمر يتساقط مطفئا، وما تركت لي ضفة أحلام أشتهي العبور إليها، وأطيع الغرق في جوفها.هل أنا ارتطام على صخرة نام فيها نداء الروح متهالكا؟ وكيف أكون الانهمار الضئيل الذي يلم أوجاعه، ويجيء إليك دفقا متجددا، لأصير خطوك الذي يبني لك في أقاصي الجرح شرفات للإقامة المرحة..؟ ولماذا تحولت القصائد في فمي إلى عويل، هو شكل شفتي وقد تيبست من رحيقها، إذ تكسر صداك فيها مثل كثيب من الرمل، ينثره عاصف من الألم، في فمي...؟ و........................ من حزن أحاوره ولا يبرحني هو ذا الغياب ذبول وأجفان نائمة، له شكل نحيبي... والهواء المريض... والسقطة التي تكسر في يقظتها وجهي ! إنها شهيتي للفرح في حضن جسد تتلكأ الحياة بين خطواته، وها هي المواعيد تجيء بوحوشها، لكن كيف أروضها؟ وهل أقدر أن أتمرأى فيها كحدود ضوئي التي تخطها كمحراث؟ وهاهي حركاتنا أسيرة للزمن الذي لا يذبل في حضنها، تنام على عتبة الكلمات كمثل أعضاء جنسية! ولأن سقوطي في مشاغل الحزن والغضب، أكبر مما تستوعب الهاوية، قلت: جاء وجهك ينهض من جسدك ويشعل ناره الباطنة... ! جاء نهداك يمارسان لهوهما الجميل في سرير مهجور... ! جاءت قبلاتك تلم شتاتي في إغماءة تتدفأ بنارها... ! وجئت، تغمريني والشمس بنورك، نغما للأذن... لونا للعين... والهيئة للعري كله! قالت: تمالك أيها الصدف الحاضن للجرح، والشعر، يا سقوطك المتعدد في أعماقي... ! أجلس أطراف جسدي بين يديك لئلا تتلاشى فيه حدود العمر، وقدم له دفئك المخبأ في حنجرة الريح، كي يسطع بوحه في ظلماتي فامض نحوي تجد كلامك.. قلب، لا يختنق من الحزن ... يتنزه بلا تعب ... وينام مؤتلفا ... على عتبة أشواقي. الذاكرة المفجوعة، بالدمار الذي يتجدد في رأسها، وبالهذيان الذي يستضيء به شخير الليل، لم تكن تعلم أنها ستختلط به لدرجة التوحد، والأعماق التي تناديني أن أعيدها إليها باسمة، والحزن يتصاعد فيها تصاعد اللهب.. والورود التي سرت وراء عطرها، وجدتها بذرا يموت، والذبول يمتصها كما يمتص الشجر التراب، والحياة التي أتمسك بها كالفضيحة، تبدو كذراعين يتدليان من نافذة مليئة بالوداع، خالية من الإغماضات الساخنة لوجهين لا يصلان إدمانهما في أسرة لا تجد من يعتني بها، غير الغبار والريح. لمن فوضت الحبيبة أمرها، عجبا للعشق إذ ينتصر مهزوما، ولم يبق منه غير ما استطاعت رئة القصائد، أن تحضنه من الأعماق التي يعبر الحزن إليها باكرا، والهواء فيها يتصبب عرقا... ربما... سيتوقف خفقان صدر الفرح، ولن يعرف الولادة من جديد فهو كنهر طويل... يمحو الضفاف التي ينتجها جريانه، إنه مأهول بهواء راعش تحدودب فيه قسمات الألم، مسفوحة في غيمة آتية من بعيد! ما أبهى هذا الغامض، الذي فتح فيه الحزن أنفاقا تعيسة! ما أبهاه يعبر من الضوء الوعر، إلى المساحات الرحبة لشمس الظلمات. وما أعمق قلبه الذي لا رغبة لديه، سوى أن تسع نبضاته لليل عتيق يركض عبر الدماء الرقيقة لعاشقين، لئلا تعارضه الانكسارات بنظارتها؛ لئلا يعيش مدمرا في هندسة منا فيه، كما يعيش الحجر تحت الماء: دوما... وأنا في الفقد الكئيب، أعيد دماء اليقين إلى عروق المسرات الهاربة، حتى يصبح للخصب قوة الجذور في الماء، ولطمأنينة القلب؛ قوة النشوة كالطلقة... وللشفتين أروع الألحان في ليل مهيب ! وأي صدر يستوعب هذه الروح التي تتمدد على جراحها وترى: الفراغ المتلألئ..، السعي الشقي..؛ التعب الغامر..؛ يباس الرحيق في الشفاه..؛ عبور السنين في الجسد..؛ الإنهمار الكثيف للغياب..؛ الدموع المثقلة بالأنين..؛ المواعيد التي لا تعرف القرب..؛ ارتطام الذاكرة..؛ الكينونة المرصعة بالألم..؛ الفقد النازح في العروق..؛ هبوب رياح الموت على كاهلي..؛ خرس الكلمات التي أسكنها السواد عقر داره..؛ هيكل الجنائز في نعش شاعر.. الأحلام الملبدة بالخوف..؛ صمت العزلة في الليل كجذر ميت..؛ ... والذاكرة تكسر جوز أيامها، لم تجد في الضوء إلا نظرات وجوهها الشاحبة ترتد نحوها، ولأن الألم يقيم فيها كرجل مقعد؛ كعينين تنامان على بكائهما:لم تعد كما هي؛ لم يرشها طائر الشوق لتكتب بجناحه المبتل بداياتها المستعادة في دم الأرض..؛ والدم؟ شريان ماء الفرح، في سرير ضيق تماما كالعروق، ... مجهدة هذه الذاكرة من الحزن والبكاء، والدموع في مآقيها كالماء الآسن في الخندق، وأشد احتداما من رائحة الألم... أعمق من الخوف... وكالصخرة لا تأبه بنشيد الفرح، وتدفن صوت الكلمات في الخرير الحزين للمياه. لم تستطع أن تقصر عمر الطريق، تهز الغصون لتصغي إلى نبض هواء، يداعب طقوس المسير، تبقي خطاها مليئة بالعواطف كي تقاوم تعبها، تتحد بيقظة العناد لتسكر بانخطافه الضامر. لكن؛ من يجمع أشلاءها تحت أنقاض قسوتها؟ لماذا يزداد شغفها بعذاب يتجدد ويستنير...؟ والغموض الساكن فيها، يفرغ ولائمه ولا يرتاح. ..................... يا إلهي... ؟ في ترابها الشاهد على مشاغل الحزن احتضنت بسمو رقتها... المذنب الذي صار وصيا على عرش براءتها، ولما جعلت كينونتها ضائعة في ظلام يوم ماطر . ..................... نمنا كالربيع على جناح فراشة جذلى وأروع ما في الحب انشداده راجفا كراية جريح إلى الأعلى ..................... نمنا غريقين. (2) هل يستحق البهجاوي الشنق لمجرد أنه حاول زجر زوجته التي خانته مع قاض آخر، فدفعها بيده و سقطت على حافة صندوق حديدي أصابها بجرح أدى بها سريعا إلى الموت؟ أم أنه كما قال القاضي الشرس لم يذنب و حسب في حق امرأة ، بل أذنب أيضا في حق خليلها الذي ما أن علم بما وقع حتى فقد عقله في الحين و نقل إلى المشفى أملا في أن يعود إليه صوابه. لذا كان واقفا مثل خطيب ينتفض و يلوح بيديه و هو يقرأ حكمه. لكنني، و إن كنت تأثرت، لم أفكر أبدا أن هذا الحكم سينفذ. كنت دائما أتخيل لو أن ندى المغدورة حقا (و أنا أعرفها) عادت إلى الحياة لندمت، و بكت، و اعتذرت لزوجها عما فعلت، ثم لعنت الدنيا و سخرت ممن أصدر في حقه حكما بالإعدام. كان عليه أن يتريث و يتروى قبل أن يقوم و يخطب في الناس مثل معتوه لا يعي ما يقول. (3) دخلت المقهى متوترا. لاحظ النادل أن وجهي شاحب لا تجري فيه قطرة دم. ثم سألني بعدما أحضر لي كأس شاي أسود عما جعلني أكون في هذا الوقت متعكر المزاج. أخبرته بصوت حزين أن البهجاوي صاحب صيدلية الأهرام سيعدموه بعد منتصف النهار. إهتز بقوة حتى بدت لي قامته النحيفة تميل يمنة و يسرة مثل قصبة تحركها الريح. هرع إلى داخل المقهى و غير ملابسه. لاح لي هو أيضا متوترا مصفر الوجه. هرب الدم من وجهه و وقف شعر رأسه. سألته بعفوية عما جعله يتغير بسرعة مذهلة، فنبهني متألما إلى أنني أخبرته بأن البهجاوي الذي قتل زوجته بالخطأ سيعدمونه. هل نسيت؟ كلا ، غير أنني صرت أتصرف بشكل أبدو معه أنني فقدت السيطرة على نفسي. كنت أتألم. آخر مرة رأيته يضحك، و هو نادرا ما يميز بين الجد و اللعب، فقلت له: -صوتك وحده و أنت تضحك يدخل البهجة إلى القلوب حتى في أقصى حالات الحزن. فرد علي: - ربما لأنني أعرف ماذا يجب علي أن أفعل في الأوقات الحرجة. قلت له صادقا: -أنت لا تفعل سوى الخير. فابتسم ابتسامة غامضة و قال: -لا أحد منا ينجو من الأخطاء، لهذا، علينا أن نطلب من الله دائما أن يجنبنا أي سوء. ثم صمت.
(4) هل كان يفكر في تدبير جريمة لم يخبر بها أحدا؟ لم تمض سوى أيام قليلة حتى جاء الخبر الذي هد كياني مثل زلزال. صاعقة ضربت أصدقاءه و أقاربه و حتى أعداءه. لم يصدق أحد و كأن الأمر يتعلق بأكذوبة تافهة . سألني النادل و نجن في الطريق إلى قاعة الاعدام: -في أي ساعة سيقتلونه؟ لم أقدر على الرد، فقد كنت أحس أنني أنا نفسي سيعدمونني معه، لكنني بذلت جهدي و نطقت بصعوبة: - قلت لك في منتصف النهار. قال بإلحاح: - أريد أن أعرف الساعة بالضبط. قلت له: - بعد وقت قصير. علينا أن نسرع كي نلقي على وجهه نظرة أخيرة. (5) وقفنا أمام دكان الإسكافي الذي يبعد عن المقهى دقائق قليلة. ألفيناه منهمكا في تقطيع جلود تفوح منها رائحة كريهة. سلمت عليه و سألته إن كان أصلح حذائي. لم يجبني و قام ليبحث وسط أحذية منشورة حوله و أخرى معلقة على الجدار حتى وجده فسحبه بهدوء و مده لي ضاحكا. لبسته بسرعة و طلبت منه إصلاح الحذاء الذي كان بقدمي. سألني متى أحتاجه فقلت له بعد إعدام البهجاوي. حسبني أمزح، لكنه فجأة نهض مذعورا بعدما أخبره النادل أنه سيعدم حقا بعد منتصف النهار. إبيضت عيناه من الحزن، و بخفة قفز خارج الدكان و أغلق بابه. ثم استدار نحو جاره بائع الخضر و أخبره. سمعنا صراخه و نحن على بعد خطوات. قال لي النادل إنه تألم كثيرا، فهو يعرفه تمام المعرفة كما يعرف زوجته، و هو الذي شهد بأنها تخونه و قدم للقاضي ألف دليل ليثبت أنها خائنة، و راح يكيل الشتائم حتى التحق بنا الإسكافي و الخضار. (6) شاع الخبر في كل أرجاء الحي، فعلت الأصوات وخرج الناس إلى الأزقة مهللين. توقفت حركة المرور و امتلأت الطرق بالراجلين الذين يتدافعون مثل جنود حتى وصلوا إلى قاعة الإعدام. بناية ضخمة مبنية بالاسمنت و مغطاة بألواح مقوسة من القصدير السميك، شاسعة و مرتفعة تماما مثل مجزرة تذبح فيها البهائم. أوقفنا الحراس أمام الباب و علا صوت أحدهم يخبرنا أن إعدام الطيب البهجاوي تأجل إلى وقت لاحق. سمعت أنفاس الحاضرين تنطلق دفعة واحدة، لكنني أمسكت أنفاسي و تساءلت إن كانوا حقا أجلوا إعدامه، أم أعدموه و أخفوه عنا حتى لا نعلم شيئا عنه. لم يفارقني الارتياب و أنا أزحف ببطء في اتجاه شقتي .