إن المتتبع للأحداث المتسارعة التي يشهدها الريف سيعي أن الاحتقان الذي يوجد بين المركز و هذه الرقعة الجغرافية الثائرة التي عانت التهميش و الإقصاء لسنوات طويلة قد بلغ ذروته بعد النقطة التي أفاضت الكأس عقب استشهاد "محسن فكري" طحنا في شاحنة لسحق النفايات أمام المقر المركزي للأمن الوطني بمدينة الحسيمة. بعد المظاهرات العارمة التي شهدتها مختلف مناطق الريف الكبير و ما تلاها من احتجاجات عبر عنها المحتجون بطرق راقية و رزينة في مختلف ميادين الاحتجاج و كان أكثرها زخما و تنظيما الأشكال النضالية الراقية التي احتضنتها ساحة الشهداء بمدينة الحسيمة و التي حاول المحتجون من خلالها نقل رسائلهم و همومهم للساهرين عن تدبير الشأن العام المحلي و الوطني بكل تجرد و مسؤولية ، كما أن الكثير من هذه الأشكال عرفت محاولات للتشويش عليها بشتى الطرق و التكتيكات حيث أن في واقعة آيث عبد الله سخر رجال السلطة بعض من أتباعهم لعرقلة السلمية التي استطاع نشطاء الحراك عليها لأيام طويلة، لكن حنكة اللجنة المؤقتة المشرفة عن الحراك بمعية بعض النشطاء بآيث عبد الله و الدروس المستفادة من نضالات حركة 20 فبراير حالوا دون الانجرار وراء الفخ الذي حاول المخزن أن يوقع فيه المسار السلمي للحركة الاحتجاجية بالريف. بعد هذا الأخذ و الجذب بين الحركة الاحتجاجية بالريف و المسؤولين عن تدبير الشأن المحلي و الوطني لم يظهر في الأفق أي تمظهر يوحي بأن المركز مستعد للجلوس لطاولة الحوار لمناقشة المطالب المشروعة التي رفعها نشطاء الحراك الشعبي في وجه كل من كان مسؤولا وراء التهميش و الحصار الاقتصادي الذي يشهدها إقليمالحسيمة و عموم الريف. و من خلال هذا المقال سنحاول تناول فيه الزاوية التي ينظر بها المخزن لبعض من هذه المطالب التي رفعتها الحركة الاحتجاجية بالريف، خاصة تناولها انطلاقا من المقاربة الأمنية التي لطالما استحضرها المركز عند أي احتكاك يجمعه بهذه الرقعة الجغرافية الصامدة. من بين المطالب الملحة و الاستعجالية التي عبر عنها المواطنين بالريف نجد : - ضرورة إقامة نواة جامعية بالإقليم : كما هو معلوم فإن الحركة الطلابية هي أكبر تجمع للفئة "الانتليجنسية" المثقفة بالمغرب و هذه الفئة دائما ما ينظر المخزن إليها بعين تتسم بالريبة و الشك... فالمخزن أخذ الدروس و العبر من الطلبة الريفيين المتواجدين بالموقع الجامعي لمدينة وجدة حيث أن هؤلاء هم الذين يمتلكون مفاتيح الاستقرار و اللاستقرار بهذه المؤسسة الجامعية و مدينة وجدة برمتها إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن جل الاحتجاجات التي تعرفها مدينة وجدة يكون سببها الحركة الطلابية و خاصة المنحدرين من الريف. و أمام هذه الحسابات و التكهنات التي يدرسها المخزن في مختبراته و دهاليزه قرر أن لا يدخل في مغامرة لا يعرف نتائجها و وصل لنتيجة مفادها أن لا موقع جامعي في الحسيمة على المدى القريب و المتوسط. - مطلب توجيه الاستثمارات الدالية و الخارجية لمنطقة الريف : المركز دائما ما ينظر إلى منطقة الريف على أنها تلك المنطقة المشاغبة و الغير المنصاعة التي يصعب التحكم فيها مقارنة بباقي المناطق المشكلة للمغرب، و منذ فجر الاستقلال الشكلي حاول المخزن تفريغ الريف من محتواه الحقيقي و انتهج عدة أساليب للوصول لهذا المبتغى، حيث بدأها بحرب طاحنة في سنتي 1958-1959 أسفرت عن الآلاف من الضحايا و المهجرين و لحد الآن لم تندمل هذه الجراح و بقي العديد ممن عايشوا تلك اللحظات العصيبة لم ينسوا تلك الأحداث المأساوية التي شهدتها سنوات الجمر و الرصاص و كثيرة هي الافلام الوثائقية التي تم تصويرها في هذا الجانب تحكي هذه المعاناة... نفس الشيء تكرر مع أحداث 1984 حيث شهدت منطقة الريف أكبر نسبة قمع و تهجير في تاريخها خاصة لدى الفئة المثقفة التي كانت تنشط في الجامعات و التي كان لها دراية تامة بالتاريخ الحقيقي للمركز في منطقة الريف...، و مع خروج حركة 20 فبراير للشارع لم يغير المركز نظرته اتجاه المنطقة رغم مرورنا بما يسمى ب " العهد الجديد و هيئة الإنصاف و المصالحة و المفهوم الجديد للسلطة " لاحظنا أن المخزن بقي وفيا لمنهجه الذي يتسم بالحديد و النار مع كل الحركات الاحتجاجية بالريف... و النتيجة كانت استشهاد خمسة من شبان مدينة الحسيمة حرقا في إحدى الوكالات البنكية بالمدينة و اعتقال العديد منهم و لحد الآن يؤدون ضريبة السجن بعدما قالوا لا للحكرة و التهميش في حق منطقة الريف. من خلال هذه الكرونولوجيا المختصرة يمكن أن نستنتج خلاصة مفادها أن المركز لا زال ينظر للمطلب المتعلق ببناء المعامل و المصانع في الريف بنفس النظرة السابقة، أي التشبت بمعادلة تهجير أبناء المنطقة للمدن الأخرى و تشتيتهم عن الأرض الأم حتى يتمكن من إحكام قبضته الأمنية على المنطقة دون أية قلاقل تذكر. و يتجلى لنا هذا الاستنتاج من خلال إطلاعنا على الامتيازات التي تقدم للمستثمر الذي يريد أن يستثمر في محور الدارالبيضاء- الجديدة- المحمدية... و الامتيازات التي تقدم لنفس المستثمر عندما يختار أن يستثمر في الريف، و بعبارة أخرى المستثمر عندما يوجه للمحور الأول (الدارالبيضاء- الجديدة- المحمدية...) فإنه دائما ما يجد أمامه امتيازات ضريبية مغرية و بنية تحتية مجهزة و بقع أرضية بأثمنة رمزية... بالمقابل نجد أن هذه الامتيازات منعدمة عندما يريد المستثمر الأجنبي أو الوطني الاستثمار بمنطقة الريف و الأخطر من ذلك هناك عراقيل جامة تضعها الإدارة أمام هؤلاء المستثمرين لثنيهم على عدم الاستثمار بالمنطقة، في اختراق سافر لقانون الإطار رقم 81.95 الصادر بتاريخ 8 نوفمبر 1995 بمثابة ميثاق الاستثمارات، الذي نص على مجموعات من الإجراءات التبسيطية لتسهيل الاستثمارات في كل ربوع المغرب و ليس لحساب منطقة على أخرى. - مطلب رفع العسكرة عن الريف : كما هو معلوم فإن إقليمالحسيمة لا زال لحد الآن ينظمه ظهير صدر سنة 1958 يعتبر هذا الاقليم بمثابة منطقة عسكرية... نشطاء الحراك و من ورائهم مختلف الشرائح التي تقطن في هذا الإقليم طالبوا بإزالة هذا الظهير و تعويضه بآخر سيعتبر منطقة الحسيمة منطقة منكوبة و إعطائها مجموعة من الإمتيازات الضريبية و الاقتصادية إسوة بمناطق الصحراء حتى يمكن لهذه المنطقة أن تنال نصيبها من التنمية لاستدراك ما فات في السنوات الأخرى التي استمت بالمقاربة الأمنية و الحصار الاقتصادي و السياسي... لكن الوقائع على الأرض توحي بأن المركز لا نية له في تغيير هذه المقاربة تجاه المنطقة، و هناك عند تمظهرات و إيحاءات تؤكد لنا هذا المعطى، و لعل أبلغها الزيادة الكبيرة في عدد المقرات الأمنية في مختلف المناطق المشكلة للريف الكبير، إضافة لنقاط التفتيش المنتشرة بنسبة كبيرة على الطرقات يوميا و 24س/س24، زيادة على ذلك الطريقة التي يتعامل بها المخزن مع كل الحركات الاحتجاجية بالمنطقة حيث أن أغلب هذه الاحتجاجات يتم فضها باستعمال القوة المفرطة...، و كان آخر فصول هذه المقاربة الحصار الذي تعرضت له مسيرة الناظور من طرف الأجهزة الامنية بمختلف تلاوينها، و الكل تابع كيف تم تسخير بعض البلطجية المحسوبين على السلطة للقيام بنفس المهمة... - مطلب بناء مستشفى لعلاج السرطان : موضوع السرطان يصيب المركز في مقتل و لديه حساسية مفرطة تجاهه، الاستجابة لهذه المطلب هو اعتراف ضمني من الدولة بأن سبب انتشار هذا المرض بنسب كبيرة في المنطقة يعود بالاساس للهجمات الكيماوية التي كان الريف مسرحا لها، و من شأن فتح هذا الموضوع أن يؤدي لظهور ملفات أخرى أكثر حساسية كمسألة تقديم اعتذار و تعويض من الدولة الاسبانية و شركائها في هذه الجريمة الشنيعة، و هناك عدة روايات تورط أيضا الدولة المغربية في هذه الجريمة... و درءا لكل هذه الشبهات فإن المغرب الرسمي دائما ما تجده يقبر أي نقاش يظهر في الأفق يناقش هذا الملف الحساس و الحارق، يبقى الخاسر الأكبر من كل هذه الحسابات المواطن الريفي البسيط الذي يدفع فاتورة الرحلات الماراطونية لفاس و الرباط من أجل تلقي العلاج لهذا المرض اللعين الذي ينخر أجسادنا يوما بعد يوم.