تعتبر المنظمات الدولية الحكومية التي تندرج ضمن المؤسسات التي يتشكل منها المجتمع الدولي إحدى أهم أشكال التعاون والاندماج والتكامل، في العلاقات الدولية المعاصرة، فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية شهد العالم قيام العديد من المنظمات الدولية بهدف التعبير عن إرادة الجماعة الدولية وتحقيق الأهداف المصالح المشتركة، وتستند المنظمة الدولية في قيامها إلي اتفاق دولي اختياري بين الدول الإطراف ذات السيادة فيها، ويعد هذا الاتفاق بمثابة الوثيقة المنشئة للمنظمة الدولية الذي يحدد كافة الجوانب القانونية الخاصة بها. وتنقسم المنظمات الدولية حسب معيار العضوية إلى منظمات دولية عالمية ومنظمات دولية إقليمية، وتشكل منظمة الاتحاد الأوروبي نموذجا متميزا للمنظمات الاقليمية، ومنطق التكتلات الاقتصادية والاعتماد المتبادل، وتجسيدا عمليا لنظرية الاندماج والتكامل الجهوي. وبعد مضى نحو نصف قرن على معاهدة روما لسنة 1957 التي أنشئت بموجبها المجموعة الاقتصادية الأوروبية التي ضمت ستة دول رئيسية شكلت النواة الأولى للتكتل الاقتصادي الأوروبي، ومرورا بالقانون الأوروبي الموحد (1986)، ومعاهدة ماستريخت (1992) المؤسسة للاتحاد الأوروبي، ومعاهدة امستردام ،(1997)، وقد تجاوزت منظمة الاتحاد الأوروبي خلال كل هذه المراحل والمحطات الكبرى، الكثير من العقبات والحواجز لتصل إلى معاهدة لشبونة لسنة 2007 التي دخلت حيز التنفيذ سنة 2009 والتي وفرت لها الآليات والأجهزة لقيامها بالدور الفاعل والنشط، من اجل أن تكون نموذجا متطورا ورائدا مكونة من 28 بلدا، يضم سوقا مشتركة ونقدا موحدا، وطرفا فاعلا على المستوى العالمي، بتعزيز سياستها المشتركة في حقلي الخارجية والدفاع. لقد أدخلت معاهدة لشبونة تعديلات عديدة على النصوص التي تتيح للاتحاد العمل و التحرك بفعالية وبسهولة أكثر، وأصبحت مؤسسات الاتحاد الرئيسية لصنع القرار الأوروبي تتشكل من المجلس الأوروبي، الذي يعتبر السلطة السياسية الرئيسية والذي يضم رؤساء دول وحكومات الدول الأعضاء، كما أتاحت معاهدة لشبونة أيضا فرصة جديدة لتعزيز صلاحيات البرلمان الأوروبي، باعتباره المؤسسة المنتخبة من قبل مواطني كل بلد، خصوصا في النواحي الرقابية والتشريعية كالسياسة الزراعية المشتركة وقضايا الموازنة، ومن أهم مهامه أيضا، انتخاب رئيس المفوضية بناء على اقتراح المجلس الأوروبي، كما عززت كذلك سلطة المفوضية الأوروبية وخصوصا الممثل الأعلى للسياسة الخارجية والأمن المشترك. بالإضافة إلى مؤسسة مجلس الاتحاد الأوروبي، الذي يتكون من وزراء من الحكومات الوطنية للدول الأعضاء والذي يعتبر الجهة الرئيسية لاتخاذ القرار داخل الاتحاد، ويشارك البرلمان الأوروبي مسؤولية إصدار قوانين الاتحاد الأوروبي، وأفسحت المجال أيضا أمام "المواطن الأوروبي" للمشاركة في عمل الاتحاد، بحيث تمت الموافقة على إدخال آلية لتدخل "المواطن الأوروبي" لتحقيق ذلك، تعتمد على توقيع مليون مواطن أوروبي لدعوة المفوضية لتقديم ملتمس أو اقتراح في مجال التشريع للبرلمان حول قضية محددة، كما تضم أيضا البنية المؤسسية للاتحاد، هيأت ثانوية رقابية واستشارية لا تقل أهمية عن المؤسسات الرئيسية، كمحكمة العدل الأوروبية والبنك المركزي للاستثمار وغيرها. وبالرغم من النجاح والتقدم الذي حققته الدول الأعضاء في الاتحاد على المستوى الداخلي في كل مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية، فإنها تحاول في اغلب الأحيان التعامل مع الأطراف الخارجية بصيغة منفردة مرجحة لكفة لمصلحة الوطنية علي المصلحة الأوروبية المشتركة، كما أن جل ما حققته أوروبا على طريق التنمية الاقتصادية، والوحدة الجغرافية الأوروبية، إنما يعود إلى حد بعيد للدعم الأميركي مع نهاية الحرب العالمية الثانية الذي انطلق مع مشروع مرشال، للبناء والإعمار كما تجدر الإشارة إلى نقطة ضعف أخرى تتعلق بالقدرات العسكرية الأوروبية، حيث لا تتجاوز مخصصات النفقات العسكرية لمصلحة الدفاع الأوروبي نسبة 02 بالمائة، فبالرغم من سعي أوروبا إلى إنشاء قوة وسياسة دفاعية موحدة بهدف تنفيذ مهمات وعمليات دقيقة وسريعة وفعالة، مثل منع نشوب الحروب وفرض السلام وحفظه والمهمات الإنسانية، أو التدخل في المناطق الواقعة في محيطه الخاص لتأمين حفظ النظام، على غرار مشاركة غالبية دوله الأعضاء في يوغوسلافيا السابقة، وذلك بدون مشاركة الولاياتالمتحدة مباشرة، غير أن المسألة الشائكة أكثر من غيرها هي مسألة التوفيق بين الاستقلالية العسكرية الأوروبية وبين الحلف الأطلسي (الناتو) وهو المنظمة العسكرية التي تدمج أوروبا وما وراء الأطلسي بهيمنة أمريكية مطلقة. هناك عدة مؤشرات أخرى توحي إلى عدم وجود تماسك صلب في العلاقات البينية بين دول الاتحاد وان هناك عدة مظاهر للانشقاق الداخلي، تعمقت مع الأزمة المالية لسنة 2008 التي ألقت بضلالها على اغلب اقتصاديات الدول الأوروبية، بل وصلت إلى حد انهيار متسارع ورهيب لبعضها (اليونان اسبانيا)... فانهيار اقتصاد اليونان يعني انهيار جزء من حلم الاتحاد الأوروبي وعدم صموده في وجه الفوارق الاقتصادية بين الدول الأعضاء، مما دفع بحكومات هذه الدول إلى تبني سياسات تقشفية صارمة انعكست سلبا على "للمواطن الأوروبي" وأثقلت كاهل حياته المعيشية، بالإضافة إلى أزمة الهوية التي بدأت تبرز مع عودة الحركات القومية وصعود أحزاب اليمين المتطرف في العديد من الأقطار الأوروبية، والتي استغلت أزمة المهاجرين غير الأوروبيين التي زادت حدة الانقسامات داخل البيت الأوروبي كما تم ربطها بأحداث التفجيرات الإرهابية الأخيرة، لرفع أسهمها الانتخابية واقترابها من المواطنين، وقد تعمقت ألازمات الأوروبية مع مطالب الحركات الانفصالية التي أصبحت تهدد وحدة الدولة الوطنية لبعض الدول الأوروبية بحيث أخذت فيها مطالب الاستقلال والانفصال منحى تصاعديا، خلال السنوات الأخيرة، فمن قبل كانت البداية من اسبانيا مع إقليمي كتالونيا والباسك، و ايطاليا مع أقاليم صقيلية والبندقية، ثم بلجيكا التي تعالت فيها أصوات الفلاندر الأثرياء، بشمال البلد، غير الراغبين في مواصلة تقاسم الأعباء المالية مع سكان الإقليم الوالوني الجنوبي، بالإضافة إلى اسكتلندا التي تطالب بالانفصال عن المملكة المتحدة. لقد بدأت بوادر أزمة الوحدة الأوروبية سنة 2005 بعد فشل الاتحاد في تبني الدستور الأوروبي الموحد الذي رفضه المواطنون الفرنسيون والهلنديون عبر استفتاء شعبي، مما يعبر عن تشبثهم بالدولة الوطنية القومية على حساب التكامل الأوروبي، غير أن اكبر انتكاسة عرفها مسار الوحدة الأوروبية تتمثل في حدث تصويت المواطنين البريطانيين بناء على استفتاء شعبي بتاريخ 23 يونيو 2016 على خيار الخروج من الاتحاد الأوروبي، الذي شكل صدمة كبرى لدى القادة الأوروبيين، خاصة بعد بروز أصوات سياسية في كل من فرنسا وهولندا تنادي بإجراء استفتاء مماثل، وبالتالي فمن المحتمل أن يؤدي هذا القرار، إلى إحداث تأثير تساقط أحجار الدومينو في دول الاتحاد الأوروبي، الذي قد يتسبب بخروج دول أخرى خلال المرحلة القادمة، كما ان خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيدفع اسكتلندا إلى طلب إجراء استفتاء جديد على استقلالها عن بريطانيا، لأن الشعب الاسكتلندي يريد بلاده ان تبقى دائما جزءا من الاتحاد الأوروبي. فبالرغم من إمكانية أي دولة ترك الاتحاد إذا ما رغبت في ذلك، وعليها فقط التفاوض على شروط خروجها مع شركائها في المجلس الأوروبي، إلا أن هذا لا يعني خروج بريطانيا الفوري والتلقائي، إنما سيترتب عليه على المستوى القانوني بدء عملية تفاوض طويلة مع الاتحاد لتنفيذ قرار الانسحاب، فحسب المادة 50 من معاهدة لشبونة التي تنص على آلية الانسحاب الطوعية للدول من جانب واحد في الاتحاد الأوروبي، بحيث يجب على الدولة العضو التي ترغب في الانسحاب بإخطار المجلس الأوروبي عن عزمها مغادرة الاتحاد، لأنه المسؤول عن بدء المفاوضات، وهو الذي يقرر نوع العلاقة بين الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء السابقة، كما يجب على المجلس بعد تقديم التوجيه إلى إبرام اتفاق بشأن طرق وترتيبات الانسحاب، بعد التصويت بالأغلبية، و الحصول على المصادقة من طرف البرلمان الأوروبي. كما أن وقف معاهدات الاتحاد الأوروبي تنطبق على البلد المعني من تاريخ دخول اتفاق الانسحاب حيز التنفيذ، أو خلال سنتين من تاريخ إخطار الانسحاب إذا لم يتوصل الطرفان إلى أي اتفاق في هذه الأثناء، ويجوز للمجلس أن يقرر تمديد هذه المهلة بالتوافق بينهما. ويبدو أن قرار انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ستكون له تداعيات سلبية على كيان الاتحاد وعلى بريطانيا على حد سواء، وفي جميع المستويات، فرغم صمود الاتحاد الأوروبي للازمات والتحديات الكبرى التي عرفها خاصة منذ الأزمة المالية العالمية لسنة 2008 فإن الأعوام القليلة المقبلة سوف تكون عسيرة علي الاتحاد، حسب توقعات المراقبين التي تتراوح بشأن مستقبل الاتحاد الأوروبي واستمراريته ما بين التوقع بالتفكك والانهيار الكامل، خلال السنوات القادمة، أو احتمال الاستمرار مع المعاناة في الحفاظ علي الأوضاع القائمة الحالية التي تعرف ضياعا مؤسساتيا، وتباطئا اقتصاديا وانخفاضا في قيمة عملة اليورو تجاه باقي العملات الرئيسية الأخرى، وتراجع أوروبا الموحدة، وفقدان قوتها على المسرح العالمي، في ظل نظام دولي انتقالي يعرف تغيرا ملحوظا في هيكله وتفاعلاته، والذي تراجعت فيه هيمنة الغرب الأمريكي الأوروبي مقابل اتساع دائرة القوى الدولية المؤثرة في السياسة الدولية. محمد ابركان/ باحث في العلاقات الدولية