أعلن أنا المواطن أحمد، (ولست العبد ولا المعبود ولا المعْبد)، المتصالح مع الذات والدولة (ولو من جانب واحد)، وما عدت – وما كنت – معنيا بفتات مزابل الحاكم ... وقريبا من اللغة ذاتها، حين خاطبتُ الدولة، في شخص السيدة حليمة ورزازي، ممثلة الغرب، في المؤتمر الدولي لحقوق الإنسان بجنيف، بداية التسعينات من القرن الماضي، من داخل زنزانتي بسجن عكاشة ... وبعيدا عن لغة الخشب، أو غثاء الحيوان على سُنّة بنكيران، أو مفردات "شناقة" المناسبات (وما أكثرهم في مشهدنا الوطني الرديء)، أعلن بعد التذكير بما يلي: نقلت في الخطاب الممهور، من داخل السجن المذكور، آهات وأنّات وزفرات وعذابات، ما يحصل داخل البلد، واستعرضت كل أسماء الجلادين ... طبعا لم تكن أسباب نزول الخطاب هي "الخيانة الوطنية"، أو المزايدة على الموقف الحقوقي للدولة المغربية، ولم تكن "الغرائز البدائية" هي التي من إستدعت "الغلظة" في القول، والصراحة في التعبير ... بل إن مؤثرات من قبيل (وطني أنت أب لي)، ودروس أحمد بوكماخ (الله يرانا)، والعمق الأخلاقي والديني للإسلام الشعبي (تغيير المنكر ولو باللسان)، مع خلطة لا بأس بها من التربية الريفية والمغربية الخالصتين ... هي الحافز على تسجيل الموقف المبدئي، ولو "بالنيابة" عن أصدقائي ورفاقي (رجالا ونساء)، في الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، صاحبة مشروع الرسالة/ الخطاب ... أجل، كانت الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، هي الإطار "الطليعي" ولربما الوحيد – آنذاك- من استطاع التعبير عن "الحقيقة الحقوقية الوطنية"، وذلك بحكم طبيعة مكوناته اليسارية والجذرية والممانعة، وبحكم خلفية ترسانته البشرية، المُدمّغة جلود وذاكرة أطره وقواعده – محليا ووطنيا – بسياط جلادي المرحلة (سنوات الرصاص) ... أستحضر هذه الذكرى، وهذا الخطاب اليوم، والمغرب الحقوقي (رسميا وشعبيا بالتأكيد) يستعد لتنظيم المنتدى العالمي لحقوق الانسان بمراكش خلال الشهر المقبل. وهي مناسبة للمغرب، وللحركة الحقوقية المغربية، لتقديم وكشف الانجازات، ووضع الذات أمام مِرْآة المجهر الدولي، الغير بريء تماما من رجس الأغراض السياسوية والمصالحية، في إطار حسابات "لعبة الأمم" والمنظمات العابرة للقارات!! الأكيد أن مغرب اليوم، ليس هو مغرب الأمس، حيث نفى (بكل وقاحة)، وزير حقوق الإنسان (ومحامي الحكومة في محاكمة نوبير الأموي)، وجود معتقلين سياسيين بالمغرب! بل استكثر على نزلاء "تازمامارت" حقهم في شمس بلادهم!!! أقول بأن كثيرا من المياه قد جرت في قنوات المجرى الحقوقي للبلد، وأن منسوب العدالة الانتقالية المغربية (الإنصاف والمصالحة)، وانتقال الحكم إلى ملك "جديد" (لا زال مُصرّاً على مقولته: "أنا هو هو والحسن الثاني هو هو")، واستثنائية المقاربة المغربية، حيال ما سمي ب"الربيع العربي"، المزهرة أشواكه، وفوضاه الغير الخلاقة، في أكثر من بلد، من شرقنا المتوسط! هي مجرد ملامح، على أن، يومَ الناس هذا، أفضل بكثير من أيام سنوات الجمر والرصاص، مغرب القمع المُعَمّمِ، والفساد والاستبداد (بالجملة والتقسيط) ... لكن، ونحن نتعبأ (أو هكذا ينبغي أم يكون الأمر) لاستقبال استحقاقات المنتدى العالمي بمراكش (مدينة "جامع الفنا" و"سبعة رجال")، ألا ينبغي أن ندُقّ الخزّان (على طريقة رواية غسان كنفاني)، ونعلن نهاراً جِهاراً، عن الصورة الحقيقية للوضع الملتبس بالمغرب!! أليس من مصلحة المغرب (شعبا وحكومة وملكا)، كنس باب داره، وترتيب بيته الداخلي، ولو من أجل (وقبل) الحدث المنتظر؟! أجل، وبعد تأثيث الخطاب، أخاطب من يهمهم الأمر بالكتاب التالي: يعرف المشهد الوطني، ردّة وتراجعا على مستوى حقوق الإنسان، ويعرف نكوصا على مستوى "الارتياح"، الذي ساد فترة ما بعد منتوج الإنصاف والمصالحة، والذي كان أمل "النخبة" مُعلّقاً على تنفيذ وتفعيل توصيات التقرير الختامي للهيأة المذكورة، بَلَه رفع سقف "العدالة الانتقالية"، لتشمل آلاف الضحايا الذين "فاتهم القطار"! لسبب من إكراهات الوقت، أو ترددات أصحاب الوقت .. وتطال كل الملفات العالقة: الريف، حالات الاختطافات العالقة، حالة المهدي بنبركة، المعتقلين السياسيين قبل وبعد 1999، طلبة أهرمومو، ملفات التاريخ والذاكرة، وتنزيل القوانين الضامنة لاستقلالية القضاء، والضامنة لعدم تكرار ما جرى، وإعفاء الجلادين من مسؤولية تدبير الشأن العام، وهلُمّ جراً. وبدل تحويل تركة الماضي إلى رأسمال رمزي ولامادي، ومنافسة العالم في تعميق مسلسل الدّمقرطة وإنجاز التنمية الشاملة، ومناهضة الفساد والاستبداد، وتبني الخيار الجهوي بما يضمن تقاسم السيادة، والتدبير والمقاربة التشاركية، وإنصاف الأمازيغية، وإلغاء عقوبة الإعدام ... راح المغرب الرسمي يجتر خطاب وسلوك "الديكتاتور العربي"، أي خطاب الضّجر، (كما أسماه درويش ذات انتفاضة بفلسطين)! وأعني تحديدا خطاب "الخيانة" الموجّه إلى الحركة الحقوقية بالمغرب، وفي القلب منها الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، والعصبة المغربية للدفاع عن حقوق الإنسان، وفرع المغرب لمنظمة العفو الدولية... كما راح أيضاً يمارس "شبهات" ماضي سنوات الرصاص في شأن ملفات وضحايا وشخوص، من قبيل معتقلي 20 فبراير، وكريم لشقر "البطل"، والصحفي المهداوي، والطفل عثمان عتيق، ووفاء شرف، والمناضل الكبير بوبكر الخمليشي، والقائمة طويلة! إن من شأن عدم تصحيح ما شاب هذه الحالات من غبن وظلم وإنكار، و"استخفاف بالعدالة"... أن يهُدَّ عمران الإنصاف والمصالحة، ويعيدنا القهقرى إلى أزمنة اليوسفي قدور، والبصري، وأوفقير، وكل جلاوزة سنوات الرصاص ! المطلوب الآن، والمغرب يستعد لاستضافة المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان، هو أن يتوقف سلوك وخطاب الضّجر، وأن تُفتح أبواب السجون أمام المعتقلين السياسيين، وأن يتوقف مسلسل "العدوان" على الحركة الحقوقية (قد نختلف مع بعضها في التفكير والتدبير، لكن أبداً لن نتخاذل في الدفاع عن حقها في التعبير)، وأن ينطلق مسلسل تنفيذ توصيات هيأة الإنصاف والمصالحة، عبر استكمال جبر الضرر الفردي والجماعي، ووضع الآليات المنصوص عليها في دستور 2011، للحيلولة دون تكرار ما جرى، وضمان عدم الإفلات من العقاب، واستقلالية القضاء، ومعرفة الحقيقة ... هي سلة من الإجراءات العاجلة، يتعين على المغرب اتخاذها، على وجه الاستعجال، ليس فقط كي يتجنب تحويل "جامع الفنا" بمراكش إلى ميدان لإدانة "التجربة المغربية"، حقوقيا وسياسيا! بل من أجل تأكيد جِدِّيّة وصَوابية اختيارات المغرب والمغاربة، بصدد حقوق الإنسان، والعدالة الانتقالية، كعملة مغربية "نادرة" في محيطه الجهوي والشرق أوسطي ... وحده ذلك، سيؤكد "الاستثناء المغربي"، وسيثبت أن مغرب اليوم، ليس هو مغرب الأمس. تُرى، هل سيستوعب المسؤولون خطابنا هذا، ومن ثمّ يَعْقلون ويتدبرون، ويرفعون التحدي ...؟ اللهم فاشهد أني قد بلّغت.