تقوم جريدة "التجديد" بالدعاية لعريضة توزع بمدينة سلا من أجل جمع التوقيعات ضدّ بيع الخمور بهذه المدينة، و في تبرير ذلك أوردت الجريدة على لسان رئيس المجلس العلمي المحلي بسلا قوله : "المجلس يتوفر على ظهير قديم منذ عهد محمد الخامس يؤكد أن مدينة سلا مدينة العلماء و الأولياء، و بالتالي لا يمكن بيع الخمور فيها" (كذا !). هذا الإستثناء الغريب الذي لا يثبت أمام الحقائق التاريخية، و الذي يطالب به هذا الشخص و غيره من مروجي العريضة يثير أكثر من سؤال، و لنا عليه تعقيب و أسئلة تكشف عن بعض التناقضات التي تستحق المناقشة بصوت عال و بكثير من الصدق و الصراحة. و أول سؤال هو: هل يوجد مسوغ معقول للمطالبة باستثناء مدينة مغربية لا تختلف في شيء عن باقي مدن المغرب، من بيع بضاعة استهلاكية تباع في كل مدن المغرب ؟ هل عدد "الصلحاء" و "العلماء" بسلا هو أكبر من عددهم بمراكش و فاس و تارودانت و غيرها من المناطق ؟ و هل يجوز لمواطنين أن يطالبوا بحالة استثناء في حي أو مدينة دون باقي التراب المغربي ؟ هل يعرف هؤلاء المواطنون معنى الدولة و معنى القانون و معنى المجال الترابي ؟ لماذا لا تظهر مثل هذه المطالب و التحركات إلا في المناطق التي يسعى إلى الهيمنة فيها حزب سياسي و تيار ديني هما العدالة و التنمية و التوحيد و الإصلاح كمثل وجدة و مكناس و القصر الكبير ؟ الواقع أن وراء الأكمة أمور لا علاقة لها بالدين و لا بالصلحاء، و إنما تتعلق بتحركات حزب العدالة و التنمية و الجمعيات التابعة له أو الحليفة، و التي سبق لها أن استغلت موضوع فتح متجر "كارفور" بسلا للمزايدة به خلال فترة الإنتخابات الأخيرة، و هو ما فهمه المسؤولون عن المتجر فأوقفوا بيع الخمور في تلك الفترة لقطع الطريق على الإستغلال السياسوي لهذا الموضوع، ثم عادوا بعد الإنتخابات إلى بيعها ما داموا يتوفرون على رخصة قانونية بذلك، ما حذا بالجمعيات التابعة للعدالة و التنمية أو المتعاطفة معه إلى إعادة الكرة لإنقاذ ماء الوجه. و سنحاول مناقشة محتوى الإحتجاج الذي قاموا به لمعرفة ما إذا كان هذا المطلب معقولا و مقبولا من ناحية المسوغات التي استعملوها لتبرير مطلبهم. 1) اعتبر المحتجون أن بيع الخمور بمدينة سلا قد ضاعف من إمكانيات وقوع الجرائم، و هو اعتبار مردود لأن نسبة الجرائم التي تقع بسبب شرب الخمر نسبة لا تذكر مقارنة بالجرائم التي تقع بسبب أوضاع الفقر و التهميش، و هي جرائم تتحمل السلطات جزءا كبيرا من مسؤولية وقوعها بسبب تقصيرها في الحفاظ على الأمن بعدد من المواقع، فالمطلوب أن تقوم السلطات الأمنية بدورها في التدخل السريع و في الوقت المناسب للحيلولة دون وقوع الجرائم، و ليس الركوب على الجرائم لتمرير قناعات دينية هي موضع خلاف في المجتمع و ليس بشأنها اتفاق . و مما يؤكد ما ذهبنا إليه أن محلات بيع الخمور بالأحياء الراقية لا تثير أي مشكل، و لم تكن قط موضع احتجاج الإسلاميين، بل على العكس فهم يتجاهلونها، مما يدلّ على أن مشكل تفشي الجريمة هو مشكل الأحياء الشعبية الهامشية التي تعاني من الفقر و انعدام التأطير و الأمن، و هي الأحياء التي يستهدفها الإسلاميون بدعوتهم السياسية. 2) يطالب المحتجون بمنع متجر معين من بيع الخمور معتبرين أن ذلك هو الحل لمنع الناس من شرب الخمر في مدينتهم، و الحال أن هذا من ضروب المستحيل، لأن الخمر يباع في مدينة سلا بدون رخص و منذ زمن و له سوقه السوداء، كما أن شاربي الخمر من السلاويين يستطيعون اقتناء بضاعتهم من متاجر الرباط بشكل علني، و الإعتقاد بأنهم سيتخلون عن شرب الخمر فقط لأنها لا تباع في سلا هو من قبيل النفاق الإجتماعي الذي يدعو إلى الضحك؟ 3) اعتبر السيد لحسن الداودي عن حزب العدالة و التنمية في تصريح له بأن تجارة الخمور بالمغرب غير مربحة، و أنّ الأجانب وحدهم من يستفيد من صناعة الخمور بالمغرب، و هو أمر واضح البطلان و الهدف منه الإيهام بأن صناعة الخمور و بيعها بلوى جاءتنا من الأجانب و من مخلفات الإستعمار، و الحقيقة أن زراعة الكروم و صناعة أجود الخمور بالمغرب تمتد جذورها بمنطقة مكناس بالذات إلى آلاف السنين، فهي من "التقاليد المغربية العريقة". نضيف إلى هذا أن المستفيدين من الخمر في المغرب كثيرون و أولهم الدولة المغربية التي تجني ما قدره 220 مليون درهم من الضرائب على الخمر الأحمر وحده الذي ينتج منه المغرب 70 مليون قنينة في السنة، دون ذكر الأنواع الأخرى، كما أن عدد مناصب الشغل الثابتة في هذا المجال هي 10000 منصب و غير الثابتة تصل إلى 50000 منصب. 4) اعتبر المحتجّون أن المغرب دولة إسلامية و أن عليه بمقتضى ذلك منع الخمور لأنها "حرام" في الدين ، و هي تخريجة لا تقنع حتى الأطفال، إذ يعلم هؤلاء بأن معنى دولة إسلامية ليس هو"دولة دينية" تطبق الشريعة أو تحتكم إلى نصوص الدين في تدبير كل شؤونها، فالمغرب أيضا دولة عصرية تعتمد قوانين وضعية و تسعى إلى إقامة علاقة متوازنة مع العالم. كما أن مواطنيها ليسوا أبدا معلبين داخل رؤية دينية واحدة أو فكر أوحد أو يعملون بفكر "التحريم"، بل هم مختلفون في كثير من الأشياء دون أن يعني ذلك أنهم لن يحترموا بعضهم بعضا، و لا توجد قوة تستطيع تنميطهم في نموذج قيمي وحيد إلا في ظل الإستبداد الأسود و دولة الرقابة البوليسية، و هو ما لسنا بحاجة إليه مطلقا في الوقت الراهن. 5) يعتبر أصحاب العريضة أن مطلبهم بمنع بيع الخمور هم "حق" لهم، و هم لا ينتبهون إلى أنهم بمطلبهم يسعون إلى حرمان غيرهم من "حقه" في شراء الخمر و استهلاكه، لأن الناس ليسوا جميعا على شاكلة واحدة و لا لهم نفس القناعات، كما أن الربط بين الخمر و الجريمة و الإضرار بالغير هو نظرة ساذجة و سطحية، لأن الجميع يعلمون بأن الأغلبية الساحقة من مستهلكي الخمور ليسوا من المشردين في الشوارع أو من قطاع الطرق، بل إن نسبة كبيرة منهم يشكلون نخبة البلاد السياسية و الإقتصادية و الفكرية و الفنية. و ليس على أصحاب عريضة سلا إلا النظر في كيفية تعامل الدول المتقدمة التي تقود الحضارة الحالية مع موضوع كهذا، و هي الدول التي تمثل نموذجا راقيا في احترام الحقوق و الحريات و كرامة الإنسان، و في التقدم الحضاري و الأخلاقي أيضا . في انتظار أن يفهم هؤلاء المواطنون أبعاد مبادرتهم التي تفتقد إلى أي حس ديمقراطي، و التي لا ترمي إلا إلى تعميم قيمهم الخاصة و أذواقهم على المجتمع بكامله، نختم بالإشكال التالي الذي نعتبره لبّ الموضوع كله: في موضوع الخمر هذا ما يضحك من الناحية القانونية، فالدولة تمارس نوعا من السكيزوفرينيا و هي ترخص ببيع الخمور، ثم تعود و تقول بأن البيع هو ل"الأجانب" فقط، و هي تعلم بأن النسبة العظمى من المنتوج الروحي يتم استهلاكه من طرف مغاربة. و الحقيقة أن من يرقص لا يغطي وجهه كما يقال، إذ ينبغي الحسم في أمور هي من صميم الحريات الفردية للمواطنين، و هذا الحسم هو وحده الذي من شأنه أن يوقف المتطرفين الدينيين عند حدهم، و يلزمهم باحترام غيرهم. غير أن هذا الحسم مستحيل مع وجود استغلال فاضح للدين في السياسة، استغلال تقوده السلطة و يزايد عليها فيه المتشددون.