نستكمل حديثنا عن آفات العقل اللائكي في تعاطيه مع الوضع الانقلابي بعد أن تناولنا بشيء من الاختصار مآزق حقوق الإنسان في شقيه المرتبط بحق التظاهر و حق المرأة. المأزق اللائكيُّ الثاني : الحرية /زعموا هذا بند آخر من بنود الديباجة اللائكية الشائعة لا يكاد القارئ يطالع كتابا لائكيا إلا و اغترف من معاجمه عن الحرية السياسية و الفكرية و الثقافية و الاقتصادية و الدينية حتى صارت عنوانا ادعائيا للرأسماليين العَلمانيين العروبيين، لكنها في الواقع تمثل إحدى واجهات التوظيف الإيديولوجي الماكر و إحدى وسائل الفكر اللائكي في التغرير بالمستضعفين من النفوس، فليس هؤلاء ممن يلتمسون طلب الحرية للناس بإطلاق و ليس ممن يدافعون عنها بلا قيد إذ أن الرؤية التغريبية غالبا ما تقيد تصورات هؤلاء عن الحرية و تجعلها موصولة بقطاع محدد مفصلة حسب الانتماء و اللون الفكري ، و هنا يتضح بجلاء مأزق اللائكي عندما يفاضل في شأن الحرية فيقصرها على أتباعه في الفكر و يحرمها على مخالفيه في القناعة ، و في تجربتنا المصرية دلت على طلاب الحرية كمبدأ و بين طلابها كانتهاز، إذ لم يسبق لنظام عرف أوج حرية شعبه إلا في عهد مرسي رغم ما كان يُساءُ استعمالها من طرف اللائكيين المشاغبين ، ففي عهده لم يُلاحَق أي إعلامي رغم كل القاذورات اللغوية و المسالك التهريجية الصاخبة التي تصدر من الإعلاميين المأجورين، و لم يُتابَع أي صحافي رغم كل الحملات البُهتانية المغرضة و لم تُغلق صحيفة واحدة كيفما كانت توجهاتها السياسية والفكرية رغم الأكاذيب و الدعايات الرخيصة ،و لم يُسجن أي قيادي أو متظاهر جاهَر بمعارضته للحكم... لقد برهنت المؤسسة الرئاسية و الحكومية على صدق وفائها لأدبياتها البرامجية و قدمت درسا بليغا للمتلونين و الميكيافليين . في مقابل هذه السماحة السياسية هيمن الرعب العسكري على المشهد السياسي و فرض منطقه الإرهابي على الإرادة الشعبية و منح لنفسه الحرية المطلقة لنقض خمسة استحقاقات انتخابية حرة و بادر بعدها مباشرة لقصف الإعلام الحر و قطع أصواتها (الجزيرة مصر مباشر، مصر 25،الحوار،الرحمة،الفتح...)بدعم من مزوري طلاب الحرية من اللائكيين و أطلق عنانه الهائج لشن هجمات استباقية مجنونة على كل القيادات و الرموز السياسية المعارضة و شمَّعت مؤسساتهم و صادرت ممتلكاتهم "بالقانون و القضاء" و أحكمت قبضتها البوليسية على كل المؤسسات الإعلامية والثقافية و فوَّضت زبانية الانقلاب العسكري الطاغية السيسي لقتل المعتصمين بحجة مكافحة الإرهاب فرسمت بذلك أسوأ صفحات مصر بمداد أحمر ملون بدماء السلميين العابدين المرابطين في رابعة و النهضة، و لم تكتفي فقط بذلك بل بلغت بها عجرفة الطغاة أن لاحقوا كل رافعي إشارات الصمود بمن فيهم الأطفال و النساء و لفقوا لهم قضايا أمنية تَترى ، و باشروا حملات بغيضة أصدروا خلالها قرارات بمنع الناس من الصلاة في المساجد بل و تحجيم أماكنها الخارجية حتى لا تستوعب أعدادا كثيرين من المصلين المتظاهرين و لاحقوا المسيرات بالذخائر الحية و القنابل المسيلة للدموع و حاصروا كل الميادين العمومية و تركوا شرذمة من المتمردين في التحرير يرقصون فيها سُوَيعات ليلية، و تابعوا القضاة الشرفاء و فصلوا الدكاترة الحنفاء من التدريس الأكاديمي و حاكموا الأطباء و النقباء فامتلأت السجون بالحكماء . هذه بعض الحريات "المدنية" التي بشرونا بها بعد الانقلاب العسكري و هذا هو الموقف اللائكي الخانع و الصامت أحيانا عن بشاعات الجلادين المستكبرين، و رغم ذلك لا يخجل خنفس لائكي هنا أوهناك يعلن بوقاحة في وسائل الإعلام عن تأييده للإجراءات البوليسية . صارت إذن عقدة اللائكيين العسكريين و "المدنيين" من الإخوان المسلمين و التيارات الوطنية أوضح من أن تحجبها ألاعيب حديث الدجاجلة عن الحريات ،إذ كيف يمكن عقلا أن يتعايش الانقلاب مع فضاء الحرية و مناخاته ؟ و كيف يمكن لانقلاب قامَ أساسا على إلغاء حرية الملايين من الأصوات و على اغتصاب إرادتهم الحرة أن يمنحها لهم و قد غرقت يداه في أبحار من الدماء ؟ كيف يُفسَّر هذا الانسحاق اللائكي العروبي و الدولي إزاء عمليات الوأد الصارم للحريات ؟ لا فائدة تُرجى ! لِيقبل اللائكي التلمذة من قيادات الإسلاميين ففيها دواء حقيقي لدائهم، فهم على الأقل جاهروا باستعدادهم لاحترام إرادة الصناديق و حريات المواطنين حتى و لو أنتجت فاشيين شيوعيين كما ذهب إلى ذلك راشد الغنوشي، و كتابه النفيس عن (الحريات العامة في الدولة الإسلامية جزأين) يمثل نموذجا مستنيرا على صدق الطرح الإسلامي المبدئي، و الشيخ الراحل عبد السلام ياسين رحمه الله قالها صريحة في (الإسلام و الحداثة) : " و نحن الإسلاميين نطمئن مواطنينا الذين كانوا من قبل لائكيين و الذين خضعوا لمنطق شعارهم أننا سنحترم التداول على السلطة ما دامت شفافية صناديق الاقتراع مضمونة و نتائجها محترمة " ، رحم الله الشيخ يتحدث عن التداول السلمي على السلطة و هو مأزق آخر للعقل اللائكي نتحدث عنه بحول الله في النقطة الثالثة .
المأزق اللائكي الثالث : التداول السلمي على السلطة/ زعموا
اللائكيون في مصر أدبجوا في حواراتهم و مقالاتهم مبدأ التداول السلمي على السلطة و أكثروا الحديث عنه بشكل يوحي و كأن أهلها يؤمنون فعلا بهذا المسلك السياسي السلمي في انتقال السلطة، و راحَ سَحَرتهم يوظفون مفردات نبذ العنف و ضرورة الاحتكام إلى مآلات الأصوات التي يفرزها الصندوق الانتخابي بعيدا عن الخيارات الانقلابية و الطرق الدموية في حيازة السلطة ، لكن الواقع يأبى إلا أن يكشف زيفهم و يظهر تناقضاتهم الفجة في التعامل مع إرادة الشعوب، فهم يؤمنون بطريق التداول عندما تكون نتيجتها لائكية بحتة و ينقلبون عندما تندحر أصوات أقلياتهم و يثبت الشارع انتماءه الحضاري الأصيل، لذلك لا تعوزهم كثرة الحيل في تبرير خيارات العنف والانقلاب إذ يملكون في هذا الجانب خبرة واسعة في استشباح الواقع و خلق الأوهام ( الشرعية الشعبية، الديمقراطية العددية،المصالحة الشاملة...)،كما أن ازدواجيات معاييرهم تدفعهم بالضرورة إلى ممارسة النفاق السياسي و الظلم السياسي تحت دعاوى محاربة "الإرهاب" و بناء أعداء وهميين لتصريف حقيقة الخطاب البائس و الفعل الانقلابي . لقد هُزم اللائكيون في معركة كسب المصداقية السياسية و أثبت الإسلاميون و الوطنيون المخلصون قدرتهم على احترام قيم التعددية و نهج أسلوب السلمية سواء على مستوى الاحتجاجات الميدانية المستمرة للمعارضة الثورية (التحالف الوطني لدعم الشرعية) أو على مستوى الوصول إلى مراكز القرار في أجهزة الدولة ، ففي زمن حكم الرئيس محمد مرسي أُجرٍيت استحقاقات انتخابية برهنت فيها القوى الإسلامية على صدق الفعل السياسي الإسلامي و نزاهته مما أعطى لمفهوم التداول السلمي على السلطة معنى حقيقيا كاد أن ينقرض في زحمة تحكم الطغاة المستبدين على مفاصل الدولة مرفًقا مرفقًا.
و من المعلوم - في المقابل- أن فوز مرسي بالرئاسة لم يكن محل قبول من خصومه اللائكيين منذ أول وهلة أعلنت فيها نتائج الفرز فشرعوا منذ مبكر بتحريب الأرضية السياسية و بناء تحالفات استكبارية مع الحزب الوطني العائد لأجل تقويض مبادئ قيم التداول السلمي على السلطة و اغتصاب حق الشعب في إرادته الحرة مما مكنهم ذلك من رسم معالم الانقلاب بتوجيه من الدول الكبرى و إشراف من العسكر و تمويل من دول الإقطاعيين الخليج و تغطية من اللائكيين الإعلاميين و المثقفين المرتزقين ، و هنا يبدو مأزق القوم واضحا في التعامل مع فكرة التداول السلمي إذ أن اختباءهم وراء القرارات العسكرية الانقلابية و غلبة منطق التبرير و التصفيق و مباركتهم و ترحيبهم بترشيح الجنرال السيسي قائد الانقلاب إلى الرئاسة كل ذلك يدل على أن الوعي السياسي اللائكي لازالَ أسير العقلية الصدامية الإيديولوجية مع تنظيم الإخوان المسلمين و لازال وعيا زائفا يتمترس بقوة الأمر الواقع ، و ما لم يقدم اللائكيون شواهد مادية تكرس رفضهم لخيار الانقلاب فيتحملون تبعاته من الاعتقالات و الملاحقات و المطاردات عبر الجهر الصادع و الفعل الصادق بنبذ كل أشكال الغارات على إرادة الناس الحرة فإن الثرثرة الإعلامية و التفيهق السياسي اللائكي سيظل عنوانا لوصمة عار منقوشة لا تحيد، و اللافت للنظر أن اللائكيين أساءوا كثيرا لمبدأ التداول السلمي على السلطة وحولوها إلى فلسفة ميكيافيلية تخضع للمزاج الشخصي و الهوى السياسي، فإذا كانت نتيجة فوز مرسي بالرئاسة و فوز أغلبية إسلامية في المجالس التمثيلية عن طريق الانتخاب النزيه فلزمت منها بالضرورة حسب الأدبيات و الأعراف الديموقراطية مباشرة تنزيل البرامج الخاصة و تفعيل الوعود الممنوحة و بالتالي الإقرار بقانون أغلبية تحكم و أقلية تعارض فإن المنطق اللائكي المقلوب يأبى إلا أن يضع قانونا معكوسا يقوم على مبدأ جواز إسقاط الأغلبية بالأقلية و إلغاء كل المكتسبات الشعبية عبر الدبابة العسكرية و جحافل البلاطجة الصعالكة غير مكترثين بالمسالك الدستورية و القيم الديموقراطية . إن الأعجب من هذا أن يجد المرء الدول الاستكبارية التي تحسب نفسها مرجعا في ثقافة المواطنة و احترام حقوق الإنسان و التعددية الحزبية متورطة في صناعة خريطة الانقلاب عبر الدعم المباشر للمتمردين (حركة تمرد) و عبر لزوم الصمت المطبق لما حدث من كارثة الإطاحة بالرئيس المنتخب ، فلو لم تكن أمريكا ضالعة في تنفيذ المؤامرة لما كانت القيادات العسكرية المصرية الخائنة قادرة على التجرؤ على تنفيذ خطة الانقلاب فَهُم يدركون جيدا مدى الدعم المادي التي تغدقها عليهم فضلا عن حجم التعاون العسكري الذي يربط الجيش و العسكر بأمريكا و إسرائيل ،الكيان الذي تدور حوله كل أحداث الانقلاب و تبعاته الإستراتيجية على الوضع الإقليمي . إن الغرب عموما يمارس استحقاقاته مع شعبه لكنه يحرمها على غيره فيرفض أي شكل من أشكال الانقلاب على السلطة الشرعية في قوانينه بينما يقبل كل إجراءات مصادرة الشعوب العربية و الإسلامية لحقها في اختيار مرشحيها، يؤمنون بالتداول السلمي فيما بينهم و يدعمون الفاشيون و الفاشلون في إسقاط نظام شرعي ، يؤمنون و يكفرون تماما كما هم عندنا اللائكيون.