الانقلاب مفهوم عام لا يمكن اختزاله في حدث سياسي أو فكري أو وجداني أو سلوكي إذ أن مجالاته يمتد إلى ساحات مختلفة تجتمع لتعبِّر عن حالة مرضية ثائرة بلا تعقل أو تخطيط ، فالانقلاب السياسي على نظام ما -خصوصا إذا كان هذا النظام شرعيا زكاه الشعب بأصواته الحرة – يمثل حالة هياج تنبعث دوافعه من اللانظام السياسي الذي يعتري أصحابه، كما يمثل أسلوبا عبثيا لا يدل على النضج السياسي و لا على الرزانة الفكرية في التعاطي مع القضايا الكبرى، و الانقلاب الفكري الذي يؤدي إلى تغييرات حادة في أعراض تفكيره فينجم عن سطحياتِ معانقة إيديولوجية ما أو رأي اعتقادي معين لا يمكن له إلا أن ينتج كوارث فكرية تذهب برجاحة عقله و سعة صبره فيتطرف نظره و ينعدم سمعه . و في هذه المقالة السريعة سنتعرض إن شاء الله إلى أشد أنواع الانقلابات السياسية التي ابتليت بها الأمم العروبة المتخلفة و اكتوت بها الشعوب فردا فردا ناظرين في مآزق الخطاب اللائكي الانقلابي و تناقضات فكره و تنزيلاته المدمِّرة للدولة و المجتمع معا . لكن، من المهم التذكير هنا بداية بأن نقدنا لأصول الفكر اللائكي في الوطن العروبي الراهن يجد مبرره في اعتبارين أساسين : الأول يتعلق بشرود هذا العقل عن منطق الشرع و التاريخ و الثاني في تناقضاته الواقعية بين الخطاب و الممارسة حيث لم يعد له من سند غير الثرثرة السياسية و التقولات الجدلية التي حفظها كترانيم تُتلى . و إذا كنا قد تعرضنا في مقالات سابقة عن الاعتبار الأول حيث ذهبنا غير ما مرة إلى إثبات عجز هذا العقل –عبر مفكريهم المرموقين – عن تبرير خيار الألْيَكة تاريخيا و دينيا فإننا هنا سنركز كلامنا بحول الله على الآفة الثانية التي وسمت عقل اللائكي بالازدواجية و التناقضية و وقعت أسيرة النزعة التبريرية الاستبدادية في مسعى لفرض أسلوب سلطة الأمر الواقع بعيدا عن المفردات و الخطابات السياسية المدنية المعاصرة، و في محاولتنا هاته لن نجد وسيلة أمضى نجاعة من استخدام متواليات الحدث الانقلابي اللائكي المصري لرصد مآزق العقل اللائكي إذ يمثل درسا بليغا للثرثارين السياسيين و المثقفين اللائكيين .
المأزق اللائكي الأول : حقوق الإنسان/زعموا
لا يكف العقل اللائكي من الدعاوى الخطابية حول احترام حقوق الإنسان و تكريمه باعتباره إنسانا، و لا تكاد تغطي نقاشاته غير الحديث عن تعداد الحقوق الإنسانية و ضرورة تحققها بصرف النظر عن الانتماء العرقي أو الديني أو اللغوي ،فحقوق الطفل و المرأة و الإنسان عموما تكتسي عندهم –نظريا- حُلة ساحرة تُزَخرَفُ لها و بها الكتب و المقالات السياسية و الفكرية و تتصدر واجهات نضالات اللائكيين في منتديات الجدل الفكري و المناظرات الإيديولوجية، كيف لا و قد صار الحديث عن حقوق الإنسان في هذا الزمن الصاخب بضاعة تجارية ارتزاقية و ماركة مسجلة تستدعي تزيين لغة الخطاب و تحسين اختيار مضامينه لتسويقه ! كيف لا و قد صار حقوق الإنسان مشروعا مربحا يجني وراءه اللائكي مكاسب مادية سيادية نفوذية أو مالية نقودية ! فلاعقو المناصب والواجهات الإعلامية في زمن البهرجة السياسية لا يخلُ لهم مكان خصوصا إذا كان هذا المكان موطنا لائكيا سلطويا بامتياز يُنتِجُ عبر آليات الدولة اللائكية القمعية العميقة نُخَبًا مخدرة من حُفّاظ المفردات المُستَورَدة و نُسخًا من تجار الأوهام و بائعي اللغة المُجمَّلة ، كما أن المشعوذين السياسيين الذين جعلوا مَهمتهم مناطحة الإسلاميين لن يبخلوا البتة في تحريك ملف "حقوق الإنسان" لاستدعاء و استعداء الدولة البوليسية راعية "الحقوق" لضرب التيار الإسلامي الصاعد، فهاته الطفيليات التي تتغذى من دماء الإنسان لتناضل عن حقه وهْماً لا تلبث أن تقدم للعالم حقيقة مواقفها النفاقية عندما تجد نفسها متحالفة مع مصاصي الحقوق و المتمثلة في الدولة الديكتاتورية التي تؤمن بحق العري و تشرد الإنسان و تكفر بحق السّتر و كرامة الإنسان، و لعل مجريات الفعل الثوري المصري و ما أفرزه من مشاهد بئيسة من الخزي في حق المتظاهرين السلميين يعطي لنا صورة واقعية مشهودة عن طبيعة السلطة اللائكية المستبدة الغشومة في قتل الشرف الآدمي و سحق حقوقه الاجتماعية و السياسية و الفكرية ، إذ تحولت الثورة المضادة متجسدة في الانقلاب اللائكي الدموي إلى مغولٍ مَهولٍ أجهزَ على كل الحقوق و حوَّل "الفاعلين السياسيين" إلى أدوات لاغتصاب حق التظاهر و قتل للحرائر و اعتقال للأطفال و قنص منظم للثوار و ملاحقات للقادة السياسيين و التمثيل بهم و عسكرة للجامعات العلمية و قطع لأوصال المدن و منع للاحتشاد في الساحات، بكلمة، صارت الدولة فوق المجتمع من جديد ، و مع ذلك نافحَ العبيد اللائكيون عن إجراءات القمع لإهدار الكرامة الإنسانية و منهم من زكوا سفك دماء الربعاويين و النهضويين و برروا للسلطة اللائكية العسكرية كل الأفعال الطاغوتية الإجرامية، و أقصى ما قام به البعض أن غادرَ المشهد هاربا بجلده من بطش حليفه دون أن تكون له القدرة على التكفير عن أخطائه القاتلة و مآزقه الفاحشة (البرادعي، حمزاوي، خالد داوود..) .
مأزق حق التظاهر : شتان بين من يؤمن حقيقة بين هذا الحق و بين الدجال المستبد، فعندما كان الرئيس مرسي حاكما للبلاد- و لو بشكل جزئي- مارسَ هذا الحق بكل جدارة و فسحَ المجال لساحة التدافعات الحرة لتعبر عن نفسها دونما عنف، و كانت الساحات مرتعا لاستقبال المعارضين دونما حصار أو قمع رغم أساليب العنف و الإرهاب التي تصاحب عادة تصرفات القوى "المدنية" و رغم ظهور تيارات فاشية (بلاك بوك) تستعمل التحريب و التخريب كأدوات لممارسة الضغط، و واصلت "المليونيات" تحركاتها فلم تنصب الدولة مشانقًا عبر زرع قناصات عبر السطوح أو عبر اقتحامات دموية و إنما دعت في أكثر من مناسبة إلى احترام حق التظاهر السلمي و التعبير عن الرأي رغم التحريض المسعور من اللائكيين الإعلاميين و السياسيين المُرتزقين على اقتحام المؤسسات السيادية و استعمال كل الطرق العنيفة لتحقيق مطلب المعارضة الكشكولية، ظل العقل الإسلامي محترما لكل أشكال حق التظاهر و تجنبت القوى الإسلامية النزول للمظاهرات رغم الاستفزازات و الاعتداءات و عبَّرت الرئاسة عن وفائها لمبدأ احترام المعارضة في حق التظاهر المشروع فقدمت الدليل على قدرتها لاستيعاب الجميع بالطرق السلمية و الحوارات العقلانية حتى صارت أسلوبها السياسي تتسم بالمبالغة في التعامل مع المخربين عند بعض الإسلاميين .
في مقابل ذلك نحت المؤسسة اللائكية العسكرية منحى خطيرا فبدأت انقلابها على كل الحقوق فكممت الأفواهَ مبكرا و رحّلت المعارضة إلى السجون الانفرادية و قامت باستعمال القتل البشع للمتظاهرين في الاعتصامين الشهيرين عبر الحرق و إخفاء معالم الجريمة و قامت بعسكرة الميادين بقوة الجيوش و خنافسة الأمن المركزي و أطلقت الذخائر الحية بشكل مباشر على المعارضين في المساجد و الشوارع و منعت كل حركة و إشارة و زُجَّ بالأطفال إلى المخافر و أعادت جهاز الشرطة البوليسية للجامعات و كل شيء فعلوه . صارَ الوضع الآن واضحا و بدأ الجميع يتحدث عن النخبة اللائكية الليبرالية الخائنة لمبادئها دون أن يدركوا أصول الاغتراب الثقافي الذي يحرك الأطماع و يبرر المجازر الآدمية بلا هوادة ، و لا يمكن بأي حال من الأحوال فهم خلفيات هذا الهَوس اللائكي تجاه قمع المعارضة الإسلامية و حرمانها من حق التظاهر السلمي إلا باستحضار بُعدين:
الأول مرتبط بمحدودية القاعدة الشعبية للقوى اللائكية الانقلابية إذ لو أمكن لها فسح المجال للمعارضة للنزول للميادين لكان ذلك تعبيرا واضحا عن انكشاف أقلية أطراف القوى المسماة زورا بالمدنية و لأصبحَ الانقلاب العسكري مفضوحا أمام الحشود الغفيرة التي ستملأ الميادين بالملايين ، الشيء الذي يجعل العسكر و حذاءه اللائكي حريصا على منع المتظاهرين للوصول إلى ساحة التحرير و رابعة العدوية . و مع ذلك ينبهر كل يوم هذا العقل بحجم الحشود في المسيرات اليومية و يضطر معها باستخدام أساليب الاستخفاف و الدجل الإعلامي المفضوح من طرف الإعلام الحر ( شبكة رصد، الجزيرة، الحوار...)
الثاني مرتبط بطبيعة العقلية اللائكية نفسها التي شبّت على مخاصمة الإسلام (و ليس الإسلاميين) و ناصبت لأهلها العداء بكل الشناعات، فهاته العقلية العروبية صارت عندها منطق التناد الحاد هدفا أساسيا في معركتها المركزية مع الإسلاميين إذ هي دائما على استعداد تام لتبرير كل الممارسات و الأشكال التعسفية في حق الخصوم ما دام شعارها الميكيافلي يسمح لها بذلك ، و هذا ما يفسر قلة الكوادر اللائكية التي نددت بالانقلاب الدموي و رفضت الظلم في حق المعارضة و التحجيم على حرياتهم السياسية و الاجتماعية.
إن القاعدة المحورية التي تتحكم في العديد من تلك القوى للأسف تتمثل أساسا في احتكار حق التظاهر عندما يكون ذلك في صالح الايدولوجيا و تجريمه و عسكرته عندما يصبح في يد الآخرين و كأن النزعة الانتهازية و المصلحية المقيتة لا زالت تقود هذا الفكر المريض و تحدد صفته الحقيقية في التعامل مع المخالفين. و تتكرر الصور و المشاهد في هذا الشأن حيث لاحظنا النظام اللائكي التونسي المتشدد في عقد بورقيبة و بن علي يمارس أشد الأنواع همجية في التعامل مع المتظاهرين المعارضين و عندما حكمت الصناديق بصعود النهضة بأغلبية لم تتحرك لقمع المعارضة و لا لملاحقة كوادرها بل كان لهم من الحرية في التظاهر ما صار بارزا لكل ذي عينين رغم فساد الأطروحات الداعية لحل الحكومة و المجلس التأسيسي و غلبة الأسلوب الاستعجالي المدفوع بأموال البترودولار و عقلية التناد مع القوى الإسلامية ..
مأزق حق المرأة : من السهل جدا التسويق لحقوق المرأة و الحديث عن معاناتها في المجتمع، لكن من الصعب أن يقبل اللائكي حقوق المرأة عندما يتعلق الأمر بالمرأة الإسلامية الملتزمة، فبحكم تكوينه الاغترابي المفصول عن أصوله يرسل الكلام عن حقوق المرأة و في مخياله صورة المرأة المتحررة من وصايا الدين و من كل مروءة أخلاقية إذ تشدّ عقله شدا و تجعل صورة المرأة المحتجبة العفيفة في مخياله كابوسا لا يوحي إلا بالرعب و التخلف ، و هكذا فعندما تناضل المرأة الملتزمة بقيم دينها فتمارس حق الدفع والإنكار لاسترجاع صوتها المسلوب بالمدفع و الدبابة أو لاختيار من تراه جديرا بالحكم تصبح هنا قيمة عددية تفضي إلى ديمقراطية "عددية" صورية لا تمت بصلة بروح الفلسفة الديمقراطية و ثقافتها المدنية عند "العقلانيين"، أما عندما تنتخب المرأة المنحلة من تراه حاكما أو نائبا برلمانيا تتحول هنا العملية إلى قيمة "تنويرية" جديرة بالاحترام وجبَ الخضوع لنتائجها إلزاما . و عندما تُهان امرأة غير ملتزمة على يد قوات الأمن مثلا كما فُعِلَ بإحداهن إبان حكم الرئيس مرسي بتجريدها من ثيابها قامت كل القوى "المدنية" تستنفر النكير حول حقوق المرأة تُطالب الاقتصاص من سوء التصرف ( و هو أمر مطلوب بلا شك )الذي لحق كرامة المرأة جراء الإهانة وإهدار الشرف الآدمي ، لكن عندما تُقتل النساء المنقبات في المنصورة على يد بلطجي شهير و تُعتقلُ المتظاهرات المنددة بالانقلاب الهمجي يبتلع العقل اللائكي ريقه سريعا و يبدأ في سرد محفوظات تحميل المسؤولية لهذا التنظيم أو ذاك ، حقوق المرأة هنا مشروعة و هناك مرفوضة !
إن كثرة التغريدات حول حقوق المرأة لا يقوم دليلا على التزام أصحابها لها لأن النفاق كما يكون في ازدواجية الموقف حول حق التظاهر يكون أيضا حول حقوق الإنسان عموما، و الوقائع على الأرض هي التي تحدد الفئة الصادقة في طرحها المبدئي من الفئة الباغية المنتهزة و المستغلة لكرامة المرأة و أنوثتها .مآزق العقل اللائكي الانقلابي ج 1
الانقلاب مفهوم عام لا يمكن اختزاله في حدث سياسي أو فكري أو وجداني أو سلوكي إذ أن مجالاته يمتد إلى ساحات مختلفة تجتمع لتعبِّر عن حالة مرضية ثائرة بلا تعقل أو تخطيط ، فالانقلاب السياسي على نظام ما -خصوصا إذا كان هذا النظام شرعيا زكاه الشعب بأصواته الحرة – يمثل حالة هياج تنبعث دوافعه من اللانظام السياسي الذي يعتري أصحابه، كما يمثل أسلوبا عبثيا لا يدل على النضج السياسي و لا على الرزانة الفكرية في التعاطي مع القضايا الكبرى، و الانقلاب الفكري الذي يؤدي إلى تغييرات حادة في أعراض تفكيره فينجم عن سطحياتِ معانقة إيديولوجية ما أو رأي اعتقادي معين لا يمكن له إلا أن ينتج كوارث فكرية تذهب برجاحة عقله و سعة صبره فيتطرف نظره و ينعدم سمعه . و في هذه المقالة السريعة سنتعرض إن شاء الله إلى أشد أنواع الانقلابات السياسية التي ابتليت بها الأمم العروبة المتخلفة و اكتوت بها الشعوب فردا فردا ناظرين في مآزق الخطاب اللائكي الانقلابي و تناقضات فكره و تنزيلاته المدمِّرة للدولة و المجتمع معا .
لكن، من المهم التذكير هنا بداية بأن نقدنا لأصول الفكر اللائكي في الوطن العروبي الراهن يجد مبرره في اعتبارين أساسين : الأول يتعلق بشرود هذا العقل عن منطق الشرع و التاريخ و الثاني في تناقضاته الواقعية بين الخطاب و الممارسة حيث لم يعد له من سند غير الثرثرة السياسية و التقولات الجدلية التي حفظها كترانيم تُتلى . و إذا كنا قد تعرضنا في مقالات سابقة عن الاعتبار الأول حيث ذهبنا غير ما مرة إلى إثبات عجز هذا العقل –عبر مفكريهم المرموقين – عن تبرير خيار الألْيَكة تاريخيا و دينيا فإننا هنا سنركز كلامنا بحول الله على الآفة الثانية التي وسمت عقل اللائكي بالازدواجية و التناقضية و وقعت أسيرة النزعة التبريرية الاستبدادية في مسعى لفرض أسلوب سلطة الأمر الواقع بعيدا عن المفردات و الخطابات السياسية المدنية المعاصرة، و في محاولتنا هاته لن نجد وسيلة أمضى نجاعة من استخدام متواليات الحدث الانقلابي اللائكي المصري لرصد مآزق العقل اللائكي إذ يمثل درسا بليغا للثرثارين السياسيين و المثقفين اللائكيين .
المأزق اللائكي الأول : حقوق الإنسان/زعموا
لا يكف العقل اللائكي من الدعاوى الخطابية حول احترام حقوق الإنسان و تكريمه باعتباره إنسانا، و لا تكاد تغطي نقاشاته غير الحديث عن تعداد الحقوق الإنسانية و ضرورة تحققها بصرف النظر عن الانتماء العرقي أو الديني أو اللغوي ،فحقوق الطفل و المرأة و الإنسان عموما تكتسي عندهم –نظريا- حُلة ساحرة تُزَخرَفُ لها و بها الكتب و المقالات السياسية و الفكرية و تتصدر واجهات نضالات اللائكيين في منتديات الجدل الفكري و المناظرات الإيديولوجية، كيف لا و قد صار الحديث عن حقوق الإنسان في هذا الزمن الصاخب بضاعة تجارية ارتزاقية و ماركة مسجلة تستدعي تزيين لغة الخطاب و تحسين اختيار مضامينه لتسويقه ! كيف لا و قد صار حقوق الإنسان مشروعا مربحا يجني وراءه اللائكي مكاسب مادية سيادية نفوذية أو مالية نقودية ! فلاعقو المناصب والواجهات الإعلامية في زمن البهرجة السياسية لا يخلُ لهم مكان خصوصا إذا كان هذا المكان موطنا لائكيا سلطويا بامتياز يُنتِجُ عبر آليات الدولة اللائكية القمعية العميقة نُخَبًا مخدرة من حُفّاظ المفردات المُستَورَدة و نُسخًا من تجار الأوهام و بائعي اللغة المُجمَّلة ، كما أن المشعوذين السياسيين الذين جعلوا مَهمتهم مناطحة الإسلاميين لن يبخلوا البتة في تحريك ملف "حقوق الإنسان" لاستدعاء و استعداء الدولة البوليسية راعية "الحقوق" لضرب التيار الإسلامي الصاعد، فهاته الطفيليات التي تتغذى من دماء الإنسان لتناضل عن حقه وهْماً لا تلبث أن تقدم للعالم حقيقة مواقفها النفاقية عندما تجد نفسها متحالفة مع مصاصي الحقوق و المتمثلة في الدولة الديكتاتورية التي تؤمن بحق العري و تشرد الإنسان و تكفر بحق السّتر و كرامة الإنسان، و لعل مجريات الفعل الثوري المصري و ما أفرزه من مشاهد بئيسة من الخزي في حق المتظاهرين السلميين يعطي لنا صورة واقعية مشهودة عن طبيعة السلطة اللائكية المستبدة الغشومة في قتل الشرف الآدمي و سحق حقوقه الاجتماعية و السياسية و الفكرية ، إذ تحولت الثورة المضادة متجسدة في الانقلاب اللائكي الدموي إلى مغولٍ مَهولٍ أجهزَ على كل الحقوق و حوَّل "الفاعلين السياسيين" إلى أدوات لاغتصاب حق التظاهر و قتل للحرائر و اعتقال للأطفال و قنص منظم للثوار و ملاحقات للقادة السياسيين و التمثيل بهم و عسكرة للجامعات العلمية و قطع لأوصال المدن و منع للاحتشاد في الساحات، بكلمة، صارت الدولة فوق المجتمع من جديد ، و مع ذلك نافحَ العبيد اللائكيون عن إجراءات القمع لإهدار الكرامة الإنسانية و منهم من زكوا سفك دماء الربعاويين و النهضويين و برروا للسلطة اللائكية العسكرية كل الأفعال الطاغوتية الإجرامية، و أقصى ما قام به البعض أن غادرَ المشهد هاربا بجلده من بطش حليفه دون أن تكون له القدرة على التكفير عن أخطائه القاتلة و مآزقه الفاحشة (البرادعي، حمزاوي، خالد داوود..) .
مأزق حق التظاهر : شتان بين من يؤمن حقيقة بين هذا الحق و بين الدجال المستبد، فعندما كان الرئيس مرسي حاكما للبلاد- و لو بشكل جزئي- مارسَ هذا الحق بكل جدارة و فسحَ المجال لساحة التدافعات الحرة لتعبر عن نفسها دونما عنف، و كانت الساحات مرتعا لاستقبال المعارضين دونما حصار أو قمع رغم أساليب العنف و الإرهاب التي تصاحب عادة تصرفات القوى "المدنية" و رغم ظهور تيارات فاشية (بلاك بوك) تستعمل التحريب و التخريب كأدوات لممارسة الضغط، و واصلت "المليونيات" تحركاتها فلم تنصب الدولة مشانقًا عبر زرع قناصات عبر السطوح أو عبر اقتحامات دموية و إنما دعت في أكثر من مناسبة إلى احترام حق التظاهر السلمي و التعبير عن الرأي رغم التحريض المسعور من اللائكيين الإعلاميين و السياسيين المُرتزقين على اقتحام المؤسسات السيادية و استعمال كل الطرق العنيفة لتحقيق مطلب المعارضة الكشكولية، ظل العقل الإسلامي محترما لكل أشكال حق التظاهر و تجنبت القوى الإسلامية النزول للمظاهرات رغم الاستفزازات و الاعتداءات و عبَّرت الرئاسة عن وفائها لمبدأ احترام المعارضة في حق التظاهر المشروع فقدمت الدليل على قدرتها لاستيعاب الجميع بالطرق السلمية و الحوارات العقلانية حتى صارت أسلوبها السياسي تتسم بالمبالغة في التعامل مع المخربين عند بعض الإسلاميين .
في مقابل ذلك نحت المؤسسة اللائكية العسكرية منحى خطيرا فبدأت انقلابها على كل الحقوق فكممت الأفواهَ مبكرا و رحّلت المعارضة إلى السجون الانفرادية و قامت باستعمال القتل البشع للمتظاهرين في الاعتصامين الشهيرين عبر الحرق و إخفاء معالم الجريمة و قامت بعسكرة الميادين بقوة الجيوش و خنافسة الأمن المركزي و أطلقت الذخائر الحية بشكل مباشر على المعارضين في المساجد و الشوارع و منعت كل حركة و إشارة و زُجَّ بالأطفال إلى المخافر و أعادت جهاز الشرطة البوليسية للجامعات و كل شيء فعلوه . صارَ الوضع الآن واضحا و بدأ الجميع يتحدث عن النخبة اللائكية الليبرالية الخائنة لمبادئها دون أن يدركوا أصول الاغتراب الثقافي الذي يحرك الأطماع و يبرر المجازر الآدمية بلا هوادة ، و لا يمكن بأي حال من الأحوال فهم خلفيات هذا الهَوس اللائكي تجاه قمع المعارضة الإسلامية و حرمانها من حق التظاهر السلمي إلا باستحضار بُعدين:
الأول مرتبط بمحدودية القاعدة الشعبية للقوى اللائكية الانقلابية إذ لو أمكن لها فسح المجال للمعارضة للنزول للميادين لكان ذلك تعبيرا واضحا عن انكشاف أقلية أطراف القوى المسماة زورا بالمدنية و لأصبحَ الانقلاب العسكري مفضوحا أمام الحشود الغفيرة التي ستملأ الميادين بالملايين ، الشيء الذي يجعل العسكر و حذاءه اللائكي حريصا على منع المتظاهرين للوصول إلى ساحة التحرير و رابعة العدوية . و مع ذلك ينبهر كل يوم هذا العقل بحجم الحشود في المسيرات اليومية و يضطر معها باستخدام أساليب الاستخفاف و الدجل الإعلامي المفضوح من طرف الإعلام الحر ( شبكة رصد، الجزيرة، الحوار...)
الثاني مرتبط بطبيعة العقلية اللائكية نفسها التي شبّت على مخاصمة الإسلام (و ليس الإسلاميين) و ناصبت لأهلها العداء بكل الشناعات، فهاته العقلية العروبية صارت عندها منطق التناد الحاد هدفا أساسيا في معركتها المركزية مع الإسلاميين إذ هي دائما على استعداد تام لتبرير كل الممارسات و الأشكال التعسفية في حق الخصوم ما دام شعارها الميكيافلي يسمح لها بذلك ، و هذا ما يفسر قلة الكوادر اللائكية التي نددت بالانقلاب الدموي و رفضت الظلم في حق المعارضة و التحجيم على حرياتهم السياسية و الاجتماعية.
إن القاعدة المحورية التي تتحكم في العديد من تلك القوى للأسف تتمثل أساسا في احتكار حق التظاهر عندما يكون ذلك في صالح الايدولوجيا و تجريمه و عسكرته عندما يصبح في يد الآخرين و كأن النزعة الانتهازية و المصلحية المقيتة لا زالت تقود هذا الفكر المريض و تحدد صفته الحقيقية في التعامل مع المخالفين. و تتكرر الصور و المشاهد في هذا الشأن حيث لاحظنا النظام اللائكي التونسي المتشدد في عقد بورقيبة و بن علي يمارس أشد الأنواع همجية في التعامل مع المتظاهرين المعارضين و عندما حكمت الصناديق بصعود النهضة بأغلبية لم تتحرك لقمع المعارضة و لا لملاحقة كوادرها بل كان لهم من الحرية في التظاهر ما صار بارزا لكل ذي عينين رغم فساد الأطروحات الداعية لحل الحكومة و المجلس التأسيسي و غلبة الأسلوب الاستعجالي المدفوع بأموال البترودولار و عقلية التناد مع القوى الإسلامية ..
مأزق حق المرأة : من السهل جدا التسويق لحقوق المرأة و الحديث عن معاناتها في المجتمع، لكن من الصعب أن يقبل اللائكي حقوق المرأة عندما يتعلق الأمر بالمرأة الإسلامية الملتزمة، فبحكم تكوينه الاغترابي المفصول عن أصوله يرسل الكلام عن حقوق المرأة و في مخياله صورة المرأة المتحررة من وصايا الدين و من كل مروءة أخلاقية إذ تشدّ عقله شدا و تجعل صورة المرأة المحتجبة العفيفة في مخياله كابوسا لا يوحي إلا بالرعب و التخلف ، و هكذا فعندما تناضل المرأة الملتزمة بقيم دينها فتمارس حق الدفع والإنكار لاسترجاع صوتها المسلوب بالمدفع و الدبابة أو لاختيار من تراه جديرا بالحكم تصبح هنا قيمة عددية تفضي إلى ديمقراطية "عددية" صورية لا تمت بصلة بروح الفلسفة الديمقراطية و ثقافتها المدنية عند "العقلانيين"، أما عندما تنتخب المرأة المنحلة من تراه حاكما أو نائبا برلمانيا تتحول هنا العملية إلى قيمة "تنويرية" جديرة بالاحترام وجبَ الخضوع لنتائجها إلزاما . و عندما تُهان امرأة غير ملتزمة على يد قوات الأمن مثلا كما فُعِلَ بإحداهن إبان حكم الرئيس مرسي بتجريدها من ثيابها قامت كل القوى "المدنية" تستنفر النكير حول حقوق المرأة تُطالب الاقتصاص من سوء التصرف ( و هو أمر مطلوب بلا شك )الذي لحق كرامة المرأة جراء الإهانة وإهدار الشرف الآدمي ، لكن عندما تُقتل النساء المنقبات في المنصورة على يد بلطجي شهير و تُعتقلُ المتظاهرات المنددة بالانقلاب الهمجي يبتلع العقل اللائكي ريقه سريعا و يبدأ في سرد محفوظات تحميل المسؤولية لهذا التنظيم أو ذاك ، حقوق المرأة هنا مشروعة و هناك مرفوضة !
إن كثرة التغريدات حول حقوق المرأة لا يقوم دليلا على التزام أصحابها لها لأن النفاق كما يكون في ازدواجية الموقف حول حق التظاهر يكون أيضا حول حقوق الإنسان عموما، و الوقائع على الأرض هي التي تحدد الفئة الصادقة في طرحها المبدئي من الفئة الباغية المنتهزة و المستغلة لكرامة المرأة و أنوثتها .