إن حزب الاستقلال كان مخطئا عندما تقدم بطلب التحكيم، بناء على الفصل 42 من الدستوري بشأن قرار خروجه أو انسحابه الجماعي من الحكومة، والملك كان مصيبا في عدم استجابته لمطلب التحكيم لكونه لا يندرج ضمن اختصاصاته المسندة إليه بشكل صريح في الدستور. فالممارسة الدستورية في ضوء المراجعة الدستورية الأخيرة لسنة 2011، لا مجال فيها للتأويل العرضي أو الواسع لفصول الدستور، كما كان معمولا به في ظل التجارب الدستورية السابقة، حيث كان في إطارها يمكن للملك بناء على الفصل 19، أن يكون حكما بين الفرقاء السياسيين دو أن يتعلق الأمر بنزاع أثير حول فهم وتأويل الفصول الدستورية المؤطرة لاختصاصاتهم، وهو ما أكده الملك الحسن الثاني في إحدى خطبه التي جاءت تطبيقا وإعمالا لمسطرة التحكيم ، مما جاء فيها: ”هل طلب مني أن يكون حكمي حكما قضائيا، لا، وهل طلب مني في التحكيم أن أقول ما يقوله الدستور؟ لا أعتقد ذلك لأنه لو أخذت بنصوص الدستور لقلت لهؤلاء السادة مع احترامي وتقديري لما تقولون: هناك مسطرة أمام لجنة العدل والتشريع بمجلس النواب….، ولكن شعبي العزيز، أدركت أن التحكيم هو تحكيم سياسي هو ما جعلني أفكر فيه سريعا وأقبله بكيفية بديهية…..”.)انبعاث الأمة، الجزء 37، ص، 133). ولكن لا يمكن ان نجد لمثل هذه الممارسة مدخلا في المراجعة الدستورية الأخيرة، كونها لا تجيز للملك أن يمارس تحكيما سياسيا خارج ما تنص عليه فصول الدستور، ولكون الدستور المراجع يؤسس لمرحلة دستورية جديدة تقوم على تقديس النص الدستوري وجعله في مرتبة سامقة ينظم بشكل دقيق العلاقة ما بين السلط ويسند لكل واحدة منها صلاحيات بمقتضى فصول صريحة في الدستور، فالفصل 42 من الدستور يجيز للملك ان يكون حكما بين المؤسسات الدستورية في إطار ضمان سيرها العادي طبقا للقانون، والفقرة الثالثة منه تشير إلى ان الملك يمارس مهامه بناء على الصلاحيات الممنوحة له بشكل صريح في فصول هذا الدستور، الأمر الذي يجعلنا أمام تحكيم دستوري، والذي يراد به في الأدبيات الدستورية تدخل رئيس الدولة لحل الخلاف بين طرفين يكون موضوع خلافهما مدلول فصل من فصول الدستور، وذلك عن طريق تقديم التأويل السليم الذي يمكن ان تفيده النصوص الدستورية الغامضة التي تكون موضوع الخلاف. وعدم استجابة الملك لطلب حزب الاستقلال كان نابعا من كون الفصل 47 من الدستور واضح فيما يخص المسطرة الواجب تتبعها من أجل الانسحاب من الحكومة، وهو مدخل قوي لتأويل الفصل 42 من الدستور وحصر خانة التحكيم الملكي في زاوية التحكيم الدستوري دون أن يمتد ليشمل التحكيم السياسي. ولكن نحن الآن امام حالة فريدة من نوعها، وهي حالة تشكيل الحكومة في نسختها الثانية التي اتبعت فيها مساطر كل مؤشراتها تفيد بأنها غير دستورية، ويمكن بيان ذلك على الشكل التالي: 1_ مباشرة الحكومة المفاوضات لترميم الأغلبية ، على الرغم من عدم صدور القانون التنظيمي الخاص بالقواعد المتعلقة بتنظيم وتسيير أشغال الحكومة، حيث نجد أن الفصل 87 من الدستور أسند صراحة إلى قانون تنظيمي بيان القواعد الخاصة بتصريف الحكومة مهامها المنتهية ، نظرا لكون انسحاب أحد المكونات الاساسية للتحالف الحكومي يجعل منها حكومة لتصريف الأمور الحارية. 2_ بعد استكمال أطوار المفاوضات المارطونية مع حزب التجمع الوطني للأحرار، اتضح أن الأمر لم يتعلق بتعويض المناصب الوزارية الفارغة، بل بإعادة الهيكلة الشاملة للحكومة، مع إضافة وزارات جديدة لم تكن موجودة في النسخة الأولى. 3_ إقالة وزراء واستبدال أماكنهم، دون بيان المساطر المتبعة في ذلك، ودون صدور بلاغ من الديوان الملكي يفيد تحريك مسطرة الاعفاء في حق الوزراء المغادرين للحكومة. 4_ التعيين الملكي للنسخة الثانية من الحكومة ، مرفوقا ببلاغ من الديوان الملكي يفيد تعيين الوزراء في الحكومة الجديدة. فكل هذه المؤشرات والمساطر المتبعة في خلق الحكومة في نسخهتها الثانية، توحي بخروقات دستورية خطيرة، وتوحي كذلك بأننا أما حكومة جديدة وليس أمام تعديل حكومي لسد الفراغ الذي خلفه وزراء الاستقلال من جراء انسحابهم الجماعي من الحكومة. ولما كان الأمر يتعلق بتعيين حكومة جديدة، فإن استكمال تنصيبها الدستوري ووجودها القانوني، لا يمكن ان يتم إلا بعد عرضها لبرنامج حكومي جديد على أنظار البرلمان من أجل مناقشته والتصويت عليه من طرف مجلس النواب، الامر الذي يشترط على الحكومة حصولها على موافقة الأغلبية المطلقة على البرنامج الحكومي ليكون آنذاك وجودها وجودا قانونيا عملا بمقتضيات الفصل 88 من الدستور، وهو أمر طبيعي جدا نظرا للتغييرات الجذرية المحدثة في الحكومة، وإضافة مكونات وزارية جديدة ذات مسؤوليات جديدة، وبرامج جديدة، لم يؤشرعليها البرلمان ثناء مصادقته على البرنامج المرتبط بالنسخة الأولى من الحكومة، والتي انسحب منها طرفا هاما كان مشاركا في صياغة البرنامج وأصبح الآن في المعارضة. وعليه إذا باشرت الحكومة مهامها دون تقديم البرنامج الحكومي، فعلى المعارضة وبشكل استعجالي صيانة الدستور من أي خرق سافر ، وتحريك مسطرة الفصل 42 من الدستور مطالبين بذلك من الملك التدخل بشكل استعجالي للتحكيم ما بين الحكومة والبرلمان في قضية المساطر المتبعة في تشكيلها وقضية عرض البرنامج الحكومي على أنظار البرلمان، مستندين في ذلك إلى طلب التأويل الدستوري للفصلين 87 و88 من الدستور من أجل ان تستقيم الممارسة الدستورية بالبلاد مع روح الدستور.
سليمان التجريني / باحث في سلك الدكتوراه السنة الثالثة / تخصص الحياة الدستورية بالمغرب