في إطار المنحة الدولية البرلمانية التي عقدها البرلمان الألماني للمهتمين بالسياسة الألمانية من دول شرق أوروبا و الولاياتالمتحدةالأمريكية منذ خمسة وعشرين عامًا، وبعد التحولات التي شهدتها دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط، قام البرلمان الألماني بعقدها لشباب هذه المنطقة في خريف 2012/2013 . وقد شارك في هذه المنحة الدولية المنظمة من طرف البرلمان الألماني أربع وعشرين شاب وشابة من دول شمال إفريقيا و الشرق الأوسط ومنها المغرب ومصر و تونس و الجزائر و اليمن وجنوب العراق كردستان و الأراضي الفلسطينية. وكان الهدف من هذه الدورة التكوينية التي استمرت لمدة شهر التعرف على النظام السياسي الألماني وكذا عملية صنع القرارات السياسية في البوند ستاغ وكيفية الممارسة الديمقراطية في الحياة السياسية الألمانية متابعة ورصد الإنتخابات النيابية في ألمانيا. يتميز هذا البرنامج بزيارة مؤسسات تاريخية ومجموعة من اللقاءات مع شخصيات سياسية بارزة في المشهد السياسي الألماني كاللقاء مع رئيس البرلمان الألماني الدكتور نروبرت لامارت في مائدة مستديرة دامت ساعة ونصف لمناقشة الوضع السياسي الدولي ومدى تأثيره على بلدان المتوسط، وكذلك حضور الجلسة العلنية 253 للسيدة المستشارة الألمانية أنكيلا ميركل وزراء الحكومة الألماني، ومعاينة داخل البرلمان كيف يتم مدارسة القضايا السياسية والإجتماعية للشعب الألماني، كذلك القيام بعدد مهم من الورشات التكوينية حول كيفية عمل البرلمان الألماني وطريقة تقديم مشروع جديد وكيفية المصادقة عليه وزيارة مؤسسات تعليمية وأكاديمية كالأكاديمية الأوربية زانك مارك ولقاء خاص مع ممثلي المنظمات السياسية الألمانية، ودورة تكوينية مع حزب الخضر لمدة أسبوع ومرافقة النائب البرلماني في الحملة الإنتخابية بمدينة إسن الألمانية. الأسبوع الأول : أول محاضرة كانت حول موضوع : "النظام السياسي الألماني وطريقة عمل البرلمان"، في اليوم الموالي بعد حضورنا الجلسة العلنية رقم 253 و الأخيرة لأعضاء البرلمان حيث أتيحت لنا الفرصة لمعاينة أشغال الجلسة البرلمانية وحضور الكلمة الأخيرة للمستشارة أنكيلا ميركل. كان هناك لقاء مع السيد رئيس البرلمان الدكتور لامارت، وفي رصد أولي للعملية السياسية البرلمانية يبدو حضور المرجعية العلمية في البناء الديمقراطي عبر إجابة السيد رئيس البرلمان عن جملة من التساؤلات ذات الأبعاد المختلفة، وقد سرد الجذور التاريخية للديمقراطية الألمانية، كما أشار إلى أول محاولة لبناء الترسانة الديمقراطية الألمانية كانت مع WEIMAR REPUBLIC كما تحدث عن سر قوة البرلمان الألماني المتجلية في إستحالة تنزيل أو برمجة أي مشروع دون مدارسته مع أعضاء البرلمان والمصادقة عليه، كما بين أن الهدف من هذا البرنامج ليس هو تصدير النموذج السياسي الألماني إلى الدول الأخرى بل يدخل ضمن التبادل الثقافي والسياسي بين البلدان ودعم التحول الديمقراطي في البلدان التي تشهد حراكا سياسيا بإعتبار أن الديمقراطية مسار من التفاعل بين المعطيات الإجتماعية و التاريخية و الخصوصيات الجيوثقافية وتراكم التجارب الحضارية الأخرى وليست لها وصفة محددة وثابتة. فبجانب المحاضرات واللقاءات هناك أيضا جانب مهم في هذا البرنامج وهو الجانب التكويني داخل البرلمان الألماني، فقد شاركنا في ورشة تكوينية حول طريقة تقديم مشروع قانون جديد من طرف النواب البرلمانيين والمراحل التي يمر منها للمصادقة عليه. ويتخلل الأسبوع زيارة ميدانية لمقر الوزارة الخارجية الألمانية ولقاء مع المكلف بالعلاقات الخارجية الألمانية مع بلدان شمال إفريقيا والشرق الأوسط، حيث تحدث عن خصائص السياسة الخارجية الألمانية المتبعة مع هذه البلدان، ودور ألمانيا مع المنتظم الدولي في تثبيت السلم العالمي وتقديم الدعم الإنساني لمجموع دول العالم. وكذلك أيضا زيارة مجموعة من المؤسسات و المعالم التاريخية كمقر أمن الدولة السابق في ألمانيا الشرقية ، حيث رصدنا كيفية تعامل النظام السوفياتي مع الألمان في ألمانيا الشرقية كمراقبة جميع تحركات وسلوكات المواطنين وكيف يتم معرفة جميع أسرار الأفراد عبر التجسس على الهواتف الرسائل و التصنت، ونهج سياسة تعليمية وظيفتها خضوع الأفراد لإيديولوجيات الدولة وكذلك سن سياسات اعتقالات واختطافات والتجنيد الإعلامي لأدلجة الناشئة، واطلعنا على أرشيف هذه الأجهزة المخابراتية . جدار برلين : من خلال هذا البرنامج المكثف و المتنوع هناك أيضا زيارة لمركز الأرشيف لمرحلة التقسيم ألمانيا إلى ألمانيا الغربية و الشرقية، فمن خلال الحرب الباردة بين المعسكر الإشتراكي و الرأسمالي قام النظام السوفياتي ببناء جدار برلين مما سبب في مآسي للشعب الألماني و قسم الشعب الواحد إلى دولتين و شرد الآلاف من الأسر و العائلات لكن هذا الجدار لم يستطع تقسيم العقل الجمعي للتفكير الألماني ورغم محاولات السياسات الممنهجة لتقسيمه تمكن الألمان من إحداث ثورة فكرية وسياسية سلمية على النظام السوفياتي و العودة إلى ألمانيا الإتحادية لا شرقية ولا غربية. النصب التذكاري لضحايا الهولوكوست : كان اللقاء مع مديرة مركز الهولوكوست و تحدثت عن سياق إنشاء هذا المركز حيث كانت مبادرة من طرف مجموعة من المواطنين في برلين، طلبوا بإنشاء نصب تذكاري يؤرخ لمرحلة تاريخية لليهود الألمان، وناضلوا لأجل تحقيق هذه الفكرة على أرض الواقع التي لم تكن بالمطلب اليسير. و بعد مناقشات طويلة بهذا الصدد تم إنشاء هذا النصب التذكاري سنة 2005 للتعريف بهذه المرحلة التاريخية قصد أخذ الدروس و العبر منها. ألمانيا استطاعت أن تتعلم أشياء عديدة من تاريخها فمن خلال تاريخها انطلقت و صنعت حياة جديدة و منه استخلصت العبر لصناعة المستقبل. و ضمن برنامج الأسبوع الثاني سافرنا إلى الأكاديمية الأوربية في زانك لمارك في شمال ألمانيا و المشاركة في الورشات التكوينية و القيام بزيارة مؤسسة تعليمية للأقلية الدنماركية و جمعية الجالية التركية و مناقشة الوضعية الحقوقية في شمال إفريقيا والشرق الأوسط. أول ورشة في هذه الأكاديمية كانت حول موضوع الدين، الدولة والأقليات الوطنية في ألمانيا حيث قدم مدير الأكاديمية الأوربية تقديم عام حول الأقليات الوطنية المعترف بها في الدستور الألماني كالأقليات الدنماركية و الفليزن ... وكذلك كيف تمكنت ألمانيا من ضمان مجموعة من الحقوق اللغوية و الثقافية لهذه الأقليات كالحق في تعليم لغته الأم، و إنشاء مدارسهم الخاصة و ممارسة ثقافتهم في الحياة اليومية. في اليوم الموالي كانت هناك زيارة للمدرسة الدنماركية قرب الحدود الدنماركية كما هناك لقاء مع تلاميذ تحدثوا عن كيفية عيشهم بثقافتهم الدنماركية في ألمانيا بعدها قمنا بزيارة جمعية الجالية التركية في مدينة كيل للتعرف على وضعيتهم في ألمانيا، وفي اليوم الأخير في هذه الأكاديمية الأوربية قدم جميع المشاركين عروض مصورة حول وضعية الأقليات في بلدان شمال إفريقيا و الشرق الأوسط. في الأسبوع الثالث سافرت إلى مدينة إيسن لمرافقة النائب البرلماني KAI GERING ومرشح حزب الخضر في الحملة الإنتخابية للتعرف عن قرب على كيفية عمل النائب البرلماني وكذلك كيفية القيام بحملة انتخابية و كانت الفرصة للتعرف أكثر على البرنامج السياسي لحزب الخضر، الحزب الذي استطاع أن يؤثر في حياة الملايين من الألمان وتغير نمط حياتهم و أسلوب عيشهم إلى الأفضل. اليوم الأول في مدينة إيسن زرت مكتب النائب البرلماني و تعرفت على مساعديه وكذلك البرنامج الأسبوعي الذي ينتظرنا في الحملة الانتخابية التي ستبدأ في نفس اليوم، وفي الفترة المسائية نظم الحزب نشاطا تحسيسيا حول مشكل الماء في العالم واحتكار بعض الشركات الدولية للمنابع المائية في العالم وذلك بعرض شريط وثائقي في قاعة السينما. وخلال هذا الأسبوع هناك مجموعة من اللقاءات مع المواطنين و موائد مستديرة للنقاش مع مجموعة من الفاعلين السياسيين و الجمعويين كلقاء خاص مع مجموعة من أعضاء الحزب في منزل عمدة المدينة. فرؤية حزب الخضر كانت مختلفة مع الأحزاب الأخرى فمن أهم اهتماماته استعمال الطاقة من مصادر نظيفة و التطلع للعيش في بيئة سليمة و السعي إلى تحقيق خفض ملموس في معدلات انبعاث الغازات الملوثة للبيئة، فحزب الخضر له وعي عالمي جديد من خلال وعي بالشؤون العالمية كمشكل نقص الماء و استنزاف الثروات الطبيعية وتلوث الهواء و الانحباس الحراري و انقراض مجموعة من الحيوانات و النباتات ... وله تصور بيئي بعيد المدى من خلال التحسيس بأهمية الطاقة المتجددة بدل الطاقة النووية واستعمال التكنولوجيا الخضراء و الطاقة البديلة . في الأسبوع الأخير كان هناك لقاء مع الخبراء و السياسيين عبر حضور مائدة مستديرة لمناقشة نتائج الانتخابات النيابية و تحليلها، وكذلك لقاء مع ممثلي المنظمات الألمانية التي تشتغل في الميدان السياسي و الثقافي و الاجتماعي و البيئي . تعتبر التجرية الألمانية تجربة رائدة في مجال التسيير المحلي و تعد نموذج يمكن الاستفادة منه، بالنظر إلى كونه يراعي التركيبة المجتمعية و خصوصيات الاقتصادية و المجتمعية و الثقافية لجميع المناطق و يحمي حقوق الجماعات و الأفراد، فالنظام الفدرالي الذي تتميز به الدولة الألمانية لا يموقع سلطة القرار في المركز خلافاً للنموذج التقليدي اليعقوبي الفرنسي الذي يتسم بهيمنة القرارات المركزية على كل أرجاء البلاد مما أضفى عليه نوع من الصرامة الجائرة. إن التفكير الجدي الرامي إلى تطوير المؤسسات السياسية بالمغرب و عصرنتها و صياغة عقدا اجتماعيا متطورا يضمن تعايش كل المكونات المجتمعية فيما بينها و ينظم طرق الحكم و الحكامة، يستوجب بالأساس استحضار التجربة السياسية الألماني و طرحها للنقاش و التحليل كنموذج من النماذج العالمية الناجحة.