الانتقال من كرسي المعارضة والاحتجاج المريح ، إلى كرسي تدبير الشأن العام المتعب ؛ قفزة "استثنائيةّ" ستخلف في "البنية التصورية" لحزب العدالة والتنمية الكثير من الخسائر، وذلك على مستوى القناعات الإيديولوجية والسياسية وحتى الأخلاقية التي كانت تؤطر المرحلة ما قبل "التورط" في ولوج غمار التسيير الحكومي في مغربٍ اعتاد على أسلوب في التدبير والتسيير، تتأسس فلسفته على المراوغة و"اتشلهيب"والنفاق السياسي. وهو أسلوب ُأُسِّسَ له للحفاظ على مسافة "معقولة" بين الحاكمين والشعب. قبل اليوم ، لم يكن المغاربة يرون أو يسمعون وزيرهم الأول إلا نادرا ، وإذا رأوه أو سمعوه ، لا يفهمون شيئا مما يقوله . لأن فلسفة الحكم في المغرب تقضي بأن يبقى الحكام على مسافة معتبرة من عامة الشعب ، ليحافظوا على هيبتهم ، ويفرضوا احترامهم ، والخوف منهم ؛ حتى إذا غضبوا اهتزت فرائص الشعب ، ووجلت قلوب الرعاع ، ولا تسمع إلا :"سمعا وطاعة ". فيحلو لهم أن يلهوا في بحبوحة العيش ، و يتربعوا على أريكته بلا تشويش ... لقد اعتاد ، بل تطبَّع المغاربة أن تكون هذه سمات حكامهم ؛ حتى بلغت بهم بلادة الإلف والعادة ، أن يستلذوا خدمة هؤلاء الحكام ، ويستلذوا استجداءهم حينما تحل بهم الدواهي والخطوب ، وتسوَدُّ الدنيا في وجوههم .فتجدهم يتساءلون كلما تغير حاكم بحاكم :" هل يقبض كسابقه" ؟ أي يقصدون :هل هو مُرْتَشٍ؟. وإذا علموا أنه ليس من تلك الطينة التي اعتادوها ، تحسروا على الأيام الخوالي ، حينما كانت تُقضى حوائجهم، الخارجة على القانون، بهكذا أسلوب... ! واليوم جاءهم حكام جدد ، بأسلوب جديد في الحكم ، وبلغة جديدة في الخطاب والتواصل .أغلب المغاربة يفهمون ما يقولون .لكنهم ، في نفس الآن ، يخشون على "مصالحم" أن تطالها المساءلة ( من أين لك هذا؟) .لأنهم يعلمون أن هؤلاء الحكام الجدد لا يعرفون إلا "المعقول" . وأغلب المغاربة قد طلقوا "المعقول" منذ زمن بعيد ، وغير مستعدين أن "يُراجعوه" .فقد كانت طلقتهم طلقة بائنة لا رجعة فيها. من هؤلاء طائفة من المغاربة تخشى على "حريتها الفردية" التي كانت تمارسها باطمئنان زائد مع الحكام السابقين ، وغير مستعدة ،البتة، أن تساوم عليها ؛لذلك فهي تتوجس من هذا "القادم الجديد" ، رغم "التطمينات" التي ما انفك ابن كيران وإخوانه يصدرونها بين الحين والآخر. لكنها تطمينات ما تلبث أن تعكر صفوها تصريحات ، هنا وهناك ، تفيد أن الوضع الثقافي والقيمي سيتغير كثيرا ، وأن الحزب غير مستعد أن يتنازل عن مرجعيته الأخلاقية والعقدية التي بوأته صدارة الترتيب ، كما أنه غير مستعد أن يحمي " مصالح" قوم شاذين عن السواد الأعظم . لقد تقدم حزب العدالة والتنمية ببرنامج طموح ومتقدم ، عنوانه الرئيس :"محاربة الفساد" .وهي عبارة لازمت خطاب الأمين العام للحزب قبل الحملة الانتخابية ، ولازالت تؤطر خطابه ، وتصدر عنها تصريحاته الصحافية ؛ بل ذهب الدكتور سعد الدين العثماني إلى أكثر من ذلك حينما برر قدرة حكومة العدالة والتنمية على رفع نسبة النمو إلى %7 ،عكس وعود الأحزاب المنافسة التي حصرتها في 5% ، بأن الفساد يُفَوِّتُ على المغرب نقطتين من معدل النمو . وكأن الدكتور يريد أن يقول للمغاربة : إن حزبي وحكومته ستحقق المستحيل بالقضاء على الفساد نهائيا ، ونقل المغرب إلى دولة فاضلة لا يخطئ فيها مخلوق ، ولا يُرتَكب فيها جرم . وهو مفهوم كلامه ما دام الفساد يُفَوِّتُ نقطتين ، والحكومة ستسترجعهما.إذن ،الحكومة ستقضي على الفساد كليا لا جزئيا ، كما تعِدُ بذلك كل حكومات العالم التي تحترم عقول مواطنيها. و بالمناسبة، فالفساد الذي يعنيه حزب العدالة والتنمية لا ينحصر في الفساد المالي ، كما يظن البعض، بل هو الفساد على عمومه ؛ بما هو فساد مالي(اقتصاد الريع ، الرشوة ، المضاربات العقارية ، ...) ، وأخلاقي( البغاء ، السفور الفاضح ، الشذوذ ، الزنا المعلن ، الخمر والمخدرات ...) ، وثقافي(التطبيع الثقافي مع العدو، التبشير ، الإصدارات الخليعة ، مسابقات الجمال ، المهرجانات والأفلام الساقطة...) ، وسياسي(المحسوبية ، التزوير في الانتخابات، استغلال النفوذ ، ...)، وحقوقي (الاعتقال التعسفي، التعذيب ، الاختطاف،...)... ثم إن محاربة الفساد على الطريقة "الكيرانية العثمانية" سيخلف الكثير من الفساد .إذ لا يخفى على أحد ، أن جيوب مقاومة الإصلاح المستشرية في دواليب الدولة ومؤسساتها الوازنة ، أكبر من ابن كيران وحزبه وحكومته . فثمة حياض محروسة ، لو فكر ابن كيران، مجرد تفكير ، أن يقترب منها ، ولو من باب الاستطلاع البريء ، لندم على اليوم الذي تقلد فيه هذه المسؤولية . فكيف يدعي العثماني أنه سيقضي على الفساد ، ويحقق كيت وكيت من الإنجازات ؟؟ !!! إن حزب العدالة والتنمية حزب كسائر الأحزاب ، ولا يختلف عنها في شيء . ولو تحقق ديناصورات المال والريع المتحكمين في دواليب الدولة ، أن لهذا الحزب من الإمكانيات والقوة ما يسائل به جزءا بسيطا من تجاوزاتهم ، لانقلبوا عليه ، ولأصبح أثرا بعد عيْن . ولا يقولن قائل : إن الربيع العربي الذي ترتعد منه فرائص الحكام ، هو الضامن لنجاح هذا الحزب كما يُمَنِّي بذلك بعض المتعاطفين والمناضلين في صفوفه نفوسهم؛ حتى بلغ الخبل ببعض كوادر الحزب أن يدعو حركة " 20 فبراير" لمواصلة الاحتجاج ، ظنا منه أن الضغط الشعبي هو الذي سيُلَيِّنُ مواقف المعارضين لهذا الحزب من داخل النظام ، وسيجعلهم يفضلون هذا الحزب وبرنامجه الانتخابي على "الفوضى"!. و هو تقدير يَنِمُّ عن بساطة في التفكير السياسي والاستراتيجي، وجهل بالتاريخ والجغرافية ، لدى بعض كوادر هذا الحزب الذين ظلوا يُطَمئنون الشعب المغربي وفئاته العالمة ، منذ نجاحهم في الانتخابات، أنهم لن يقتربوا من الإنجازات التي حققها المغرب في مجال "الحقوق الفردية" ، والتي هاجموها كثيرا وهم في المعارضة !!... قلت : فلا يقولن قائل :إن هذا الربيع هو الضامن لنجاح هذا الحزب ؛ إذْ هذا وَهْمٌ لا يقول به إلا من جهل التاريخ . فالدولة في المغرب تكتسب قوتها ، واستمراريتها من شعب تربى ، لعدة قرون ، على طريقة في التعامل مع شيوخه وعلمائه وحكامه ، تجعل من تقديرهم واحترامهم والولاء لهم والاستعداد للتضحية من أجلهم ، ما لا يمكن أن يفك ارتباطه حراك شعبي طارئ أو مواقف إعلامية أو حزبوية شاردة . فالشعب المغربي الذي يحب علماءه ، وشيوخه ، وزعماءه ، وملوكه ، ويعتبر هذا الحب والتقدير بمثابة دِينٍ يتقرب به إلى المولى –عزوجل- ، ليس هو "شعب" العدالة والتنمية ، ولا "شعب" العدل الإحسان، ولا "شعب"حركة 20 فبراير ، بل هو شعب يصل تعداده إلى عدة ملايين. كما أنه ليس شعب تونس ولا شعب ليبيا ولا شعب اليمن ولا شعب سوريا ... فهو شعب فريد متفرد . فحب المغاربة لملوكهم حب متجذر في أعماق التاريخ ، توارثوه أبا عن جد . فلا يدَّعِيَنَّ مُدَّعٍ أن التونسيين ، والمصريين ، والليبيين ، واليمنيين ، والسوريين ، يحبون رؤساءهم حُبَّ المغاربة لملوكهم . فهذه حقيقة واقعة لا يمكن حجبها ولا رفعها ؛ فالدراع تلوى ، والقلب لا يُلوى . وهي الحقيقة التي لا يريد أن يقبلها من يرفضون عبارة :"الاستثناء المغربي"