لا يخفى اليوم على متتبع قضايا التربية والتعليم، الأزمة الكبرى التي تعرفها مؤسساتنا[1] التربوية والتعليمية على مستوى القيم، لقد فقدت هذه المؤسسات عنفوانها وأثرها و"دورها الريادي في إحياء معاني الحرية والكرامة والعزة والرجولة، ومقاومة الظلم والفساد والانعتاق من ربقة الفتنة والخنوع والهوان، وأضحت مكانا لتنويم وإضعاف الهمم وتخدير العقول وكبح الإرادات" [2]، وأضحت فضاءات لا معنى لها، جسدا بلا روح، بل أصبحت أوكارا للفساد وتعاطي المخدرات وترويج الأقراص المهلوسة والعنف بكل أشكاله وانعدام الأمن على الأرواح والأموال حتى في أقدس الأماكن، فانعدم الرفق بالصغير وتوقير الكبير، بل آلت إلى مؤسسات تنتج أجيالا "يائسة بائسة، تنظر للمستقبل بسوداوية قاتلة، أجيال مستهلكة لا تنتج، فاقدة لمعنى المواطنة" [3]، ومن أهم تجليات ذلك: الأرقام المهولة المسجلة في أعداد المنتحرين والمنتحرات سنويا، خصوصا من الشباب. ألهذا الحد رخصت الأنفس، واستهان الناس بلقاء الله وباليوم الآخر؟ - وضعية قاتمة كهذه، تستلزم منا استيعاب هذا الواقع الذي عرف، لا شك في ذلك، تطورات قيمية وأخلاقية متنوعة، فانعكس ذلك على البنى الاجتماعية والعلاقات بين الأفراد والجماعات سلبا أكثر منه إيجابا، حتى أصبح المجتمع قيميا بدون بوصلة. - وضعية كهذه، تضعنا في حيرة من أمرنا نتساءل عن مستقبل فلذات أكبادنا، نتساءل عن مآلات أسرنا ومدارسنا ومساجدنا وشوارعنا وعلاقة ذلك بالأوضاع الإقليمية والدولية والتحولات الكبيرة على المستوى القيمي: إلى أين؟ - وضعية كهذه تفرض لنا الاستعداد لتجاوز الأسوإ القادم؛ لا قدر الله؛ "ففقدان الأجيال يوصل الوطن إلى الإفلاس العام" .[4] في هذا الجزء من سلسلة مقالات حول القيم، سنتساءل جميعا عن تدابير تجاوز إشكالية تمكين الناشئة من القيم، ونتساءل عن الإرادات السياسية والمجتمعية الممكنة لتجاوز الأزمة، بل ونتساءل عن المنظومة القيمية لمجتمعنا...
معنى القيم
- القيم لغة
هي "جمع لكلمة "قيمة"، وهي "ثمن الشيء بالتقويم.."، "وقام ميزان النهار" أي: اعتدل... و" القائم بالدين": المستمسك به الثابت عليه... والقَيِّم هو المستقيم، و"القِيَمُ": مصدر كالصغر والكبر، وكذلك "دين قويم وقوام"، ويقال: رمح قويم وقَوام قويم أي مستقيم، والقيمّ: الاستقامة. وفي الحديث: " "قل آمنت بالله ثم استقم" "، قيل هو الاستقامة على الطاعة، وقيل هو ترك الشرك" [5]. وقام المتاع بكذا أي تعدلت قيمته به، "والقيمة: الثمن الذي يقوم به المتاع، أي يقوم مقامه، والجمع: القيم، مثل سدرة وسدر، وقومت المتاع: جعلت له قيمة" [6]. وقد تأتي القيمة بمعان متعددة، بمعنى التقدير، أو بمعنى الثبات على أمر، نقول فلان ماله قيمة، أي ماله ثبات على الأمر، أو بمعنى الاستقامة والاعتدال، يقول تعالى: إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً [7] أي يهدي للأمور الأكثر قيمة والأكثر استقامة. نستخلص من ذلك "أن قيمة الإنسان قدره" [8]، واستقامته وتمسكه بدينه وثباته عليه.
- القيم اصطلاحا
جاء في معجم علوم التربية أن القيم هي "مجموع معتقدات واختيارات وأفكار تمثل أسلوب تصرف الشخص ومواقفه وآراءه، وتحدد مدى ارتباطه بجماعته" [9]. أما في مؤلف الأصول الفلسفية للتربية، فالقيم هي: "مجموعة من القوانين والأهداف والمثل العليا التي توجه الإنسان سواء في علاقته بالعالم المادي أو الاجتماعي أو السماوي" [10]. واعتبر أحمد بلقيس في أحد مشاريعه التربوية أن القيم هي "مجموعة من القوانين والمقاييس تنشأ في جماعةٍ ما، ويتخذون منها معايير للحكم على الأعمال والأفعال المادية والمعنوية، وتكون لها من القوة والتأثير على الجماعة بحيث يصبح لها صفة الإلزام والضرورة والعمومية، وأي خروج عليها أو انحراف على اتجاهاتها يصبح خروجاً عن مبادئ الجماعة وأهدافها ومثلها العليا" [11]. وذكر الدكتور عادل العوا "أن القيمة ترجيح عاشه الإنسان منذ أن قام بتغيير ما في نفسه وما في الآفاق، والبحث في القيم بحث في الإنسان الفاعل بوصفيه الفردي والاجتماعي" [12]. ونستنتج من ذلك أن القيم عموما تدل على معنى الاستقامة، وأن مفهومها الاصطلاحي والإجرائي يختلف حسب الحقول المعرفية، وحسب مجالات توظيفها، و"استعمالها في ميادين الفكر المختلفة، إنها كلمة يستعملها أصحاب الاختصاصات المختلفة من لغويين وموسيقيين، ورياضيين واقتصاديين وفلاسفة وغيرهم" [13]. ففي الاقتصاد؛ مثلا؛ يتحدثون عن قيم الإنتاج وقيم الاستهلاك، في حين جعل الفلاسفة القيمة جزءا من الأخلاق والفلسفة والسياسة، أما في الرياضيات فتدل على الكم، كما أن للقيمة معنى في علم الاجتماع، ولها معنى آخر في العلوم الإنسانية، وهكذا دواليك في اللغة والفن والقانون...
أنواع القيم
تتعدد القيم وتتنوع بتعدد تعاريفها، وبتعدد معايير تصنيفها، ثم تتعدد باختلاف زوايا النظر إليها، وقد يؤدي هذا التعدد أحيانا إلى نوع من الغموض الناشئ "عن لاماديتها، فالقيمة... تبدو لنا في ثوب نرغب فيه، أو هدف نبتغي نواله، أو توازن نسعى إلى تحقيقه" [14]، لذلك فقد تصنف هذه القيم إلى: - عقلية أو جمالية أو أخلاقية. - مادية وروحية. - نظرية واقتصادية واجتماعية ودينية وسياسية... وبما أننا نتحدث عن القيم في مؤسساتنا التربوية، وفي مجتمعنا المغربي المسلم، فإن كل هذه التصنيفات تجزيئية، لا تنسجم ورؤيتنا الشمولية لإسلامنا ونظام حياتنا "الكامل الشامل لنواحيها الاعتقادية والخلقية والعملية، ففي الدين يذعن المرء لسلطة عليا هو الإله، ويقبل طاعته، ويعتقد بشريعته، ويرجو حسن الجزاء، ويخشى سوء العقاب" [15]. لذلك سيكون تركيزنا على القيم الإسلامية التي بدونها، لا يمكن الحفاظ على المعنى الحقيقي والجمالي للحياة، فلننظر إلى الغرب وماديته، ماذا جنى؟ الاكتئابات النفسية والانتحارات، الشذوذ بكل أنواعه، وأشياء أخرى لا يتصورها عقل سوي.
القيم الإسلامية
هي القيم المستمدة من كتاب الله وسنته، والممتدة إلى حياة المسلم كلها، اعتقادا وسلوكا وعلاقات أفقية وعمودية، بل تستغرق الدنيا والآخرة. وقد صنفها البعض إلى: - قيم عقائدية وتعبدية. - قيم فكرية وثقافية. - قيم اجتماعية وأسرية. - قيم تواصلية. - قيم اقتصادية ومالية. - قيم وقائية وصحية. - قيم حقوقية. - قيم فنية وجمالية. - قيم بيئية.[16] وهناك من ردها إلى ثلاثة أنواع فقط: قيم عليا وقيم حضارية وقيم خلقية[17].
- الخصائص
تتميز القيم الإسلامية بخصائصها الفريدة التي تميزها عن غيرها من القيم، لأنها مستمدة من أصول ديننا وثوابتنا، فهي قيم تجمع "المحاسن كلها والمصالح التي تسعد الإنسان في الدنيا والآخرة" [18] ومن بين أهم خصائصها: - الربانية: القيم في الإسلام ربانية المصدر، أي من عند الله تعالى، لذلك فهي تتسم بالعدل في كل أحكامها وتتصف بالقدسية وتقوم على الإيمان[19]. - الشمول: فهي تقوم على أساس الشمول والتكامل باهتمامها بكل أبعاد النفس البشرية واختلافها، فهي تستوعب حياته كلها من جميع جوانبها، ثم هي في هذا لا تقف عند حد الحياة الدنيا[20]. - العموم: تتميز القيم الإسلامية بالعمومية والاستمرارية لكل الناس في كل زمان ومكان، ويؤيد ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى: تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا [21]، فالقيم الإسلامية ليست قاصرة على بعض الأفراد، بل تتسم بالعموم الذي يتحقق في الأمة كلها أفرادا وجماعات في جميع الأوضاع والأحوال[22]. - الملاءمة للفطرة: جاء الإسلام في مجال القيم بما يلائم الفطرة والطبيعة البشرية ويكملها، لا بما يضادها ويصدمها، ومن هنا اعترف الإسلام بدوافع الإنسان النفسية وميولاته الفطرية، لذلك كان طبيعيا انسجام هذه القيم في حركتها مع فطرة الإنسان. - الإيجابية: فلا يكفي أن يكون حامل القيم الإسلامية صالحا في نفسه، بل يكون صالحا مصلحا متعديا نفعه إلى الغير. - جامعة بين الثبات والمرونة: فهناك قيم عليا ثابتة لا تقبل الاجتهاد أو التغيير أو التبديل، وأخرى مرنة مرونة كافية لمواجهة ما يتولد في حياة الناس من مواقف وحوادث وما تصير إليه الأمور في المجتمعات. - التوازن: تميزت القيم الإسلامية بالتوازن الذي يجمع بين الشيء ومقابله بلا غلو ولا تفريط، فلا إفراط ولا تفريط، وفي القيم الإسلامية تلتقي الفردية والجماعية في صورة متزنة رائعة تتوازن فيها حرية الفرد ومصلحة الجماعة، وتتكافأ فيه الحقوق والواجبات وتتوزع بالعدل[23]. وبالإضافة إلى هذه الخصائص هناك الواقعية والاستمرارية والمستقبلية.
أسئلة للتأمل
في الفقرات السابقة قمنا إجمالا "بوصف للقيم التربوية في المجتمع، وتحليل لأسسها وأصولها الفلسفية التي منها تنطلق وعليها تعتمد" [24]، أما الآن فسنتساءل كما يتساءل الجميع، دون الارتهان إلى خلفيات سياسوية أو حسابات ضيقة عن "المدى الذي في وسعها أن تبلغه في تحريك الإنسان، والجوانب التي تستطيع تحريكها" [25]، ومعيقات التنفيذ والتنزيل، على أمل أن نعود إلى بعض الأصول الفلسفية في سياق حديثنا عن المآلات والإرادات، وفي سياق حديثنا عن المؤسسات وإشكالية القيم، بعيدا عن إنتاج الأزمات التي تنتهج في بلادنا. - فلم هذا الفشل الذريع في إكساب ناشئتنا القيم الإيجابية بالمؤسسات التربوية؟ - أي دور للغة الأم في المحافظة على القيم ونقلها صافية نقية دون تحريف وتزييف؟ - هل اللغات الأجنبية وتعددها في سن مبكرة يشكل خطرا على القيم، أم أن التجارب العملية والعلمية تثبت العكس؟ - لم الحرص الشديد على هذا التعدد في سن مبكرة مادام يشكل خطرا على القيم؟ - لم هذا الانبهار بقيم الغرب؛ هل هي أزمة في خطابنا المنغلق والمنحبس، أم هي نحلة الغالب؟ أم أن أيادي خفية تعبث بنا وقيمنا، خارج أسوار المسجد وخارج أسوار المدرسة؟ وخارج الكتاب المدرسي عموما، وخارج جدران الأسرة، في الغرف المظلمة؟ - أليست تهدف القيم؛ في البرامج التعليمية؛ إلى أن يصير المتعلمُ[26]"قادرا على معرفة ذاته المتشبعة بالقيم الإسلامية المتسامحة والقيم الحضارية، وقيم المواطنة، وحقوق الإنسان، وبلورة ذلك في علاقته مع الآخرين" ؟[27]، فما هذا التناقض الصارخ بين الخطاب الرسمي والواقع؟ - أي منظومة قيم نريد لأمتنا؟ قيم غربية أم قيمنا الأصيلة أم خليط بين هذه وتلك، أم لا قيم؟ - التغيير قادم لامحالة، لكن على أي قيم سينبني؟ - إلى أي حد نرد هذه الأزمة إلى فوضى القرارات وكذا الانفلات في المردوديات... وأزمة النخبة السياسية المتغربة... والشعور بالهزيمة أمام كل وافد... وسياسة التسلط والاستبداد؟ - لا يخفى أن "حركة التاريخ الإنساني تشهد أن العامل الديني من أضخم القوى المؤثرة في الحياة الإنسانية بشكل عام" [28]، أين ذلك في واقعنا؟ - لماذا لم ينعكس ذلك إيجابا على المسجد والمدرسة والأسرة والشارع والاقتصاد والسياسة...؟ - لماذا فشلنا في إنشاء إطارات ومرجعيات موحدة لتجنب الاضطراب والانفصام في شخصية المتلقي للقيم؟ - لماذا فشلنا في الجمع بين التربية والتعليم والعلم والعمل في حياتنا كلها؟ - لماذا لا نخجل من وضعنا بين دول العالم، والنتائج المخيبة للآمال للتربية والتعليم، رغم التطبيل المتكرر للإصلاح وهدر المال العام بلا رقيب ولا حسيب؟ - ألا ينذر ذلك بكارثة نفسية، نتيجة نشر ثقافة الهزيمة والقعود والانتظارية والتبئيس والتيئيس؟ - كيف نجعل هذا المجتمع المستقل مشاركا للمؤسسة التربوية في اختيار القيم، واثقا بمردوديتها، غير معيق لها ولا متنصل من مسؤولياته نحوها، ومقوما موضوعيا لمدخلاتها ومخرجاتها؟ - إلى متى يستمر هذا العبث والاستخفاف بعقول الناس؟ تساؤلات كثيرة، لا نزعم القدرة على الإجابة عنها في هذه العجالة، أو الإحاطة بها، بل حسبنا أن نثير نقاشا بين الفاعلين التربويين والممارسين، كي نجد جميعا حلولا ومدخلات مناسبة، حتى تكون المخرجات مثمرة، وليس الغرض منها التيئيس، بل التأسيس لبديل تلوح بشائره في الأفق القريب بحول الله.
خاتمة
لا يمكن لأمة تنشد التنمية الشاملة، وتريد أن يكون لها موطئ قدم ضمن الأمم المتقدمة، وتتطلع إلى تخريج أفواج مؤمنة بقيمها وأصالتها من جهة، خبيرة مدربة في مجال العلوم والتقنيات من جهة أخرى، ما لم تتمكن من إكساب أبنائها القيم الإيجابية الضرورية، وما لم تهتم ببناء مؤسسات قوية قادرة على اقتحام عقبات المستقبل، قادرة على القيام بدورها ووظائفها التربوية والاجتماعية والتواصلية دون استنساخ لتجارب ولدت ميتة، لكن غايات كبرى كهذه، لا يمكن تحقيقها دون الاستناد إلى مشروع مجتمعي، نابع من ثوابتنا ويهدف تحقيق سعادتنا دنيا وأخرى. إن الأسرة والمدرسة والمجتمع مؤسسات قادرة على إنتاج "إنسان منتج، مبدع، مبتكر، قادر على تنمية الرصيد المادي والمعنوي لهذا الوطن" [29] إن صلحت النيات والإرادات، ودون ذلك ستبقى الأزمة تنتج أزمة أخرى... ونعرف جميعا من يقتات من "بيداغوجيا" الأزمات.