المغرب هو البلد الإسلامي الوحيد، الذي يمكن القول إنه متصالح مع يهوده، الذين استوطنوه قبل آلاف السنين، من وصول العرب، عكس ما هو الحال عليه في بعض البلدان العربية، التي انقرض منها اليهود تماما بسبب سياسة العنصرية والكراهية تجاههم، والتي جعلتهم يهاجرون أوطانهم دون رجعة، خاصة مع بداية الصراع العربي الإسرائيلي وتنامي موجات العداء لكل من هو يهودي، بغض النظر إن كان مؤمنا بالعقيدة الصهيونية أو مختلفا معها. في المغرب، ورغم الهجرات المتتالية لليهود المغاربة، لأسباب يطول البحث فيها وشرحها، أصر بعضهم على البقاء. وحتى الذين رحلوا، ظلوا متشبثين ب"تامغرابيت"، وأورثوا أبناءهم وأحفادهم ثقافتهم وعاداتهم المغربية في الأكل والرقص والغناء وإقامة الأفراح، وحتى بعض أعيادهم الخاصة، التي كانوا يحتفلون بها في المغرب فقط دون غيره من سائر بلدان العالم، مثل عيد "ميمونة"، الذي أصبح اليوم عيدا رسميا يحتفل به في إسرائيل ويقدم خلاله رئيس الوزراء الإسرائيلي تهانيه لليهود المغاربة بالمناسبة. لم ينس اليهود المغاربة وطنهم أبدا. ليس فقط لأنهم كانوا جزءا لا يتجزأ من ثقافته وهويته، أو لأن لديهم فيه ذكريات وأملاكا وأقارب، بل لأنه البلد الإسلامي الوحيد، الذي استطاعوا فيه التعايش مع المسلمين، واقتسموا معهم “الطعام” وشاركوهم “الملح والخبز” وتزوجوا منهم، ووجدوا منهم احتراما لخصوصيتهم الدينية (مع بعض الاستثناءات طبعا التي لا يمكن أن تشكل القاعدة). لذلك، يزورونه بانتظام، إن لم يكن ل"البيزنس" أو زيارة أقاربهم ومقابرهم، فبمناسبة موسم "الهيلولة" والحج وزيارة المعابد والتبرك بأوليائهم الصالحين. المغرب هو البلد الإسلامي الوحيد، الذي يستطيع أن يخرج فيه اليهودي ب"الكيبا"، دون خوف. وهو البلد الإسلامي الوحيد الذي يشغل فيه يهودي منصب مستشار للملك، والوحيد الذي يمارس فيه ما تبقى من الطائفة اليهودية، طقوس ديانته بكل أمن وأمان. والوحيد الذي ما زال يهوده يحتفظون بجنسياتهم المغربية، رغم إقامتهم في إسرائيل، أو في غيرها من بلدان العالم. ويظهر الاستثناء المغربي جليا في السياسة التي مارسها دائما وأبدا الملوك العلويون، تجاه مواطنيهم اليهود، إذ رفض السلطان محمد الخامس تسليمهم إلى حكومة "فيشي" النازية، معتبرا أنهم أبناؤه مثلهم مثل المسلمين، في الوقت الذي لم يتردد الملك الراحل الحسن الثاني، في استقبال رئيس الوزراء الإسرائيلي شيمون بيريز، على أرض المملكة، للتباحث معه بشأن السلام في المنطقة، مثيرا بذلك جدلا كبيرا بين الزعماء العرب الرافضين أي حوار أو لقاء مع ممثلي الكيان العبري، ليواصل الملك محمد السادس، سياسة أسلافه الحكيمة، من خلال الاهتمام بالتراث والثقافة اليهودية، بإعادة ترميم المعابد والمقابر والتنصيص على الرافد العبري في الدستور وإعادة تنظيم الانتخابات التمثيلية للطائفة اليهودية، التي توقفت منذ حوالي 50 سنة، وإعادة تسمية بعض الأحياء بأسمائها اليهودية القديمة، وغيرها من المبادرات التي إن دلت على شيء، فعلى تشبث المغرب بيهوده، واعترافه بأنهم جزء من هويته وذاكرته. وكانت آخر مبادرة ملكية في هذا الشأن موافقة جلالته على تدريس تاريخ اليهودية في التعليم الاساسي المغربي، وفي هذا الإطار جاء الحديث عن التراث العبريّ المغربيّ في الطّبعة الجديدة من مقرّر "الجديد في الاجتماعيّات" الموجّه إلى السّنة السادسة من التعليم الابتدائيّ، في درس خاص ب"المغرب في عهد العَلويّين" تناول عهد السلطان محمّد بن عبد الله، مؤسِّس مدينة الصّويرة. ويستشهد النص بالدّستور المغربيّ الذي ينص على أنّ المكوِّنَ العِبريّ يُعتَبَر أحد روافد الهويّة الوطنيّة، ويعرّف بعد ذلك ب"بيت الذّاكرة"، الذي دشّنه جلالة الملك محمد السادس في شهر يناير من السنة الجارية 2020، وهو "فضاءٌ تاريخيّ، وثقافيّ، وروحيّ لحفظ الذّاكرة اليهوديّة المغربيّة وتثمينِها". ويعرض هذا الكتاب المدرسيّ صورتين إحداهما لجلالة الملك محمّد السادس داخل بيت الذّاكرة، وأخرى لمدخله الذي يحضر فيه القرآن الكريم والتوراة. كما يتضمّن جدولا لبعض ما يتضمّنه مِن نصوص وأشرطة، وصور، ونماذج من العادات والتقاليد اليهوديّة المغربيّة، من شاي احتفاليّ، وفنّ شعريّ عبريّ، وطقوس دينيّة، إضافة إلى نماذج إنتاجات حرفيّة تقليدية وفنية لليهود المغاربة. ويطلب كتاب مادة الاجتماعيّات في هذا الدّرس من التلاميذ استنتاج دلالة الزيارة الملكيّة إلى بيت الذّاكرة بالصّويرة على المستويات الدينية، والدّستوريّة، والقيم التي يعمل المغرب على ترسيخِها من خلاله. كما يعرّف هذا الدّرس التلاميذ بوجود متحف خاص بالثقافة اليهوديّة المغربيّة منذ سنة 1997 بالدار البيضاء، داعيا إيّاهم إلى إنجاز ملفّ حوله.