حقيبة نسائية صغيرة وجلباب مغربي تقليدي هما زاد سفر ليلى كل خميس نحو أحد مستشفيات العاصمة المغربية الرباط تلبية لرغبة أمها، هناك حيث ترقد المّيمة زهرة، ذلكم اللقب الذي يحلو لليلى أن تمنحه لهاته الإنسانة التي كانت الأسرة البيضاء سببا في صداقة مثالية مع والدتها النزيلة السابقة بالمستشفى ذاته، عربات القطار تلتهم مسالكها الحديدية التهاما لتختصر المسافات وتقرب البدايات من النهايات، وقلب ليلى تختصر نبضاته المتسارعة المسافات ذاتها للقاء حبيبتها في صورة أمها وهل هناك صورة أجل من صورة الأم أو من يقوم مقامها في قدسيتها وجلالها، فليس هناك أفضل من الأم في المبتدأ والمنتهى.
اللحظة الثانية: خيبة
بخطى متسارعة تقتحم ليلى أروقة وأجنحة المستشفى بحثا عن المّيمة زهرة، أضناها البحث عن الصورة التي أتت من أجلها، سألت المسؤولة عن الجناح الطبي فأخبرتها أن النزيلة المبحوث عنها قد غادرت المستشفى أياما قليلة، انزوت في أحد الأركان مطرقة رأسها دلالة على خيبة تحقيق المطمح والمأمول.
اللحظة الثالثة: لقاء
بخطى متثاقلة قررت ليلى العودة من حيث أتت مع إيمانها أن هدفها قد تحقق اعتبارا لكون الأعمال بالنيات وأن لكل امرئ ما نوى، انتصبت ورفعت رأسها واثقة تهم بمغادرة المكان، في الحين ذاته اخترق سمعها صوت "رشيد" الذي يناديها باسمها، إنه ابن المّيمة زهرة، يا لغرابة الصدف!.. بادلته التحية وسألته عن والدته، فطمأنها عن أحوالها وطلب منها مصاحبته لرؤيتها.
اللحظة الرابعة: زمن غادر
حملت ليلى أقدامها إلى منزل لا تعرفه وإلى صاحب لا تألفه وإلى مصير لا تدري مقدمته من خاتمته، تحكي أنها ولجت منزلا لم تجد فيه المّيمة زهرة كجسد ناطق يحمل الطهر الملائكي للأمهات شبيه بما كانت تلمسه في لقاءاتها المتكررة إلى المستشفى كلما سنحت لها فرص عيادتها، إنما رأت صورها فقط تزين أركان البيت، البيت ذاته الذي تحول بسبق الإصرار والترصد والخبث الإنساني إلى ركح لمسرحية هزمت فيها معاني الإنسانية وتقزمت فيها أدوار الرحمة وتعملقت فيها وحشية " رشيد" الذي لا يحمل من منطوق الرشد إلا حروفا من اسمه لطخها بعار كبته المرضي الشاذ العاكس لأمراض مجتمعية مقيتة، هاته الاستضافة كانت ماكرة غادرة محسوبة ومخططة، لم يكتب فيها لليلى رؤية الحبيبة /الأم، إنما كان لها موعد مع ليل دامس لم تر مثيلا له حلكة وسوادا وسياط زمن غادر استضافتها إلى كماشة وحش آدمي اغتصبها باسم الثقة في المّيمة زهرة وافتض بكارتها باسم الآمان في كل من له صلة بوجه أميسي ملائكي نقي طاهر طهارة الصعيد الطيب، أفرغ كبته المرضي الدفين الذي ربما فكر فيه مليا وخطط له على امتداد زيارات ليلى لأمه، وبوحشية متناهية قاسية نفذ عمله الإجرامي تماما كما تفعل البهيمة الأقوى على البهيمة الأضعف، هناك حيث يسود قانون الغاب. اللحظة الخامسة: جرح أبدي
صعب أن يخرج الإنسان من معتقل الحادث الغادر المباغت الصادم إلى معتقل أفسح هو معتقل الحياة، حيث المرأة ظلما تصنف مكانة وشرفا وقيمة بعذريتها وسلامة بكارتها -هي الندوب والجراح أبت إلا أن ترسم تضاريسها على البريئة المغدورة ليلى، التي مازالت تحمل جرحها الأبدي وتختزن سرها السرمدي إلى الأبد، حتى والدتها سلمت نفسها المطمئنة إلى بارئها دون أن تعلم بكلوم ابنتها الغائرة وتركتها بأنينها الباطن تقول على لسان الشاعر المغربي الحداثي سعيد ياسف: بوسع الذين خرجوا من عباءة الليل دون أن يكحل عيونهم ظلام أن يدلوني على ظل قيد التشكيل أدفن فيه كيس أحزاني وأتلو التمائم هاربة من كيد الكوابيس وهمس النجوم اللحظة السادسة: عزاء
جميلة هاته الحياة الفانية، وأجمل ما فيها أن يحول الإنسان مآسيه وانكساراته إلى بطارية حبلى بقوة المجابهة، نصيب ليلى أنفاس من حياتها المكتوية بسياط الزمن الغادر، عزاؤها ولمثيلاتها شذرات من بوح أبي العلاء المعري: غير مجد في ملتي واعتقادي*********** نوح باك، ولا ترنم شاد وشبيه صوت النعي إذا قيس ********** بصوت البشير في كل ناد أبكت تلكم الحمامة أم غنت *************على فرع غصنها المياد صاح ! هذي قبورنا تملأ الرحب ********فأين القبور من عهد عاد خفف الوطء ما أضن أديم الأرض ********** إلا من هذه الأجساد تعب كلها الحياة فما أعجب ************ إلا من راغب في ازدياد إن حزنا في ساعة الموت أضعاف ******* سرور في ساعة الميلاد خلق الناس للبقاء فضلت ****************أمة يحسبونهم للنفاد ضجعة الموت رقدة يستريح ****** الجسم فيها، والعيش مثل السهاد فاستريحي أيتها المعذبة في سكونها والقوية بإيمانها، إن الكبوة قوة وإن الانهزام مرحلة استباقية لنصر آت، فالحصان المُطًهَّم رغم قوته يكبو والطفل قبل أن يشتد عوده كان يحبو والآثم حين تكتسحه نسمات التوبة يصحو والخالق رغم جبروته يعاقب أحيانا وأحيانا أخرى كثيرة يعفو .