هيئة المعلومات المالية تحقق في شبهات تبييض أموال بعقارات شمال المغرب    المغرب يخطط لإطلاق منتجات غذائية مبتكرة تحتوي على مستخلصات القنب الهندي: الشوكولاتة والدقيق والقهوة قريبًا في الأسواق    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    مقتل تسعة أشخاص في حادث تحطّم طائرة جنوب البرازيل    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من قتل الجنرال الدليمي؟
نشر في شعب بريس يوم 01 - 12 - 2010

خلف الرواية الرسمية، التي أكدت أن الجنرال أحمد الدليمي توفي إثر زيغ شاحنة صدمت سيارته، توجد حقائق أخرى ظلت غامضة عن الطريقة التي قتل بها الجنرال، تماما كغموض شخصيته.

"أوال" تكشف، في هذا الملف، عن جوانب أخرى ل"حادث" مقتل الجنرال، الذي دفنت معه أسراره، تماما، كبنبركة وبعده أوفقير.

تقول الرواية إن قائد المنطقة العسكرية الجنوبية، الجنرال أحمد الدليمي، لقي حتفه في حادثة سير في حدائق النخيل في طريقه إلى إقامته بمراكش كان قد تلقى في اليوم السابق مكالمة من الجنرال مولاي حفيظ العلوي، وزير القصور والتشريفات، تدعوه إلى الحضور فورا إلى عاصمة النخيل، إذ كانت تجري تحضيرات لاستقبال الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران في أول زيارة رسمية له إلى المغرب في مطلع 1983، بعد أن أصبح سيد قصر الإيليزي.

كان الدليمي موجودا في ضيعته الشاسعة في مشرع بلقصيري غرب البلاد، التي دأب على التوجه إليها لأخذ قسط من الراحة والابتعاد عن أجواء العمل. فقد كان يجمع بين جهاز الاستخبارات الخارجية وقيادة المنطقة الجنوبية، إضافة إلى كونه من كبار الضباط المرافقين للملك. وشاءت ظروف أن يكون ذهابه هذه المرة إلى تلك الضيعة، التي كان يحرص شخصيا أشجارها والاهتمام بأغراسها واستقبال كبار ضيوفه بين جنباتها، مثل الوداع الأخير، فقد كان في سنواته الأخيرة يهرب إلى بادية الصحراء، ويتمدد داخل خيمة تضاء بنور القمر، وإن لم يفعل ذلك، لا بد أن يرتمي بين أحضان أشجار ضيعته التي افتتن بها.

حكاية الضيعة

تعود به الذكريات إلى مشرع بلقصيري، حين قرر يوما اقتناء ضيعة فلاحية، لولا أن تداعيات قضية اختطاف واغتيال الزعيم التاريخي للاتحاد الوطني المهدي بنبركة ألقت بظلالها على مسار حياته الشخصية والمهنية والسياسية. وحكى أحد زواره حين كان يقيم بسجن فرنسي قبل حلول موعد محاكمته في يونيو 1967، أنه لم يأسف لشيء أكثر من أسفه لعدم تنفيذ حلمه بإكمال إجراءات اقتناء الضيعة من معمر فرنسي.

رجل في مثل غلظة الدليمي لم يكن واردا لديه أن يأسف لرحيل معارض في حجم المهدي بنبركة، ولكنه، وهو في طريقه لمواجهة المحكمة، تذكر ضيعته، ولم يتذكر ما علق برحلته لإلى باريس التي قدم إليها في الثلاثين من أكتوبر 1965، على متن رحلة من الجزائر، ثلاث ساعات قبل وصول الجنرال محمد أوفقير، وزير الداخلية، وقتذاك، إلى عاصمة النور، بهدف إطفاء شعلتها.

حكى مقربون إليه أنه كان يقيس الأشياء والمواقف بمعيار الحسم. لم يكن يتردد في الإقدام على أي مغامرة، إذ يعتبر أنها الطريق الأول والأخير، لكن أحدا لم يكن يعرف ماذا كان يخالجه وهو في الطريق من مشرع بلقصيري إلى مراكش. لقد تعود أن يقطع هذه المسافة مع نهاية أسبوع أو بداية آخر، فقد تعود أن ينطلق من هناك في اتجاه أي مدينة يقيم بها الملك الحسن الثاني، لكنه هذه المرة ستكون رحلته مختلفة.


الفرق الخاصة

قبل بضعة أيام، كان يتابع شخصيا ملفات مفاوضات سرية دارت في باريس بين مسؤولين مغاربة وجزائريين، كان محورها لا يحيد عن تطورات قضية الصحراء، وفي غضون ذلك، كان قد أفلح في معارك قارية شبيهة بحرب العصابات توخت اقتلاع محاربي جبهة البوليساريو من مخابئ في تضاريس وعرة كانوا يلوذون إليها. فقد أحدث الرجل فرقا خاصة توزعت أسماؤها بين المعارك التاريخية، ذات إيحاءات بالنصر: الزلاقة وأحد وبدر وحطين. وشهد له خصومه بأنه اختار الطريق الأنجع في الحد من الهجمات اعدوانية التي كانت تتعرض لها البلاد، بما في ذلك الأقاليم الخارجة عن مربع النزاع شمال الصحراء. وبالقدر الذي كان الجنرال الدليمي مزهوا بانتصاراته، بالقدر الذي قد يكون جلب على نفسه المتاعب. فقد كان مندفعا ولم يكن رجل سياسة، وكان يستطيع أن يتصور أن بإمكانه أن تلحق يداه الطويلتان كل ما يتصور أنه في متناوله أو بعيد عنه. وقد كان يعتبر أن نجاته من موت محقق مرتين على الأقل، في العاشر من يوليوز 1971 داخل فناء القصر الملكي في الصخيرات، وفي السادس عشر من غشت 1972، وهو على متن الطائرة الملكية، التي تعرضت لغارات انقلابية، نوعا من الميلاد الجديد.

ساعده في تكوين فكرة عن قدراته اللامتناهية أنه تخلص من غريمه وشريكه الجنرال محمد أوفقير، الذي كان بمثابة ظله في مطلع ستينات القرن الماضي، وتحديدا حين عمل إلى حانبه مديرا عاما للأمن الوطني بالنيابة إلى حدود أكتوبر 1966، يوم سلم نفسه طوعا لإلى القضاء الفرنسي إثر متابعته في قضية بن بركة.

في غياب دلائل قوية حو الطريقة التي أزيح بها الجنرال أوفقير عن مسرح الحياة، ليلة الموعد الذي دبر فيه محاولته الفاشلة، تبقى هناك حقيقة قائمة تفيد بأنه حين دلف إلى قصر الصخيرات بهدف مقابلة الملك الحسن الثاني وعرض وقائع ما حدث أمامه، لم يكون يوجد بالقصر إلا العقيد أحمد الدليمي، كما أن الملك الحسن الثاني لدى نزوله من الطائرة ردد سؤالا وحيدا: أين الجنرال أوفقير؟ من جهة، لأنه كان وزير دفاع، ومن جهة ثانية لأنه لم يكن مستساغا أن تتحرك الطائرات المغيرة من القاعدة العسكرية في القنيطرة دون علمه أو صدور أوامر منه.

زيغ شاحنة

ولأن العقيد كويرة، المتورط في قيادة إحدى الطائرات المهاجمة، كان قد سبق الجنرال أوفقير في الاستفادة من المعطيات التي يتوفر عليها بعد اعتقاله، على إثر سقوط طائرته في منطقة مولاي بوسلهام، لم يكن هناك من حيز أمام أوفقير غير الاعتراف بحقيقة ما حديث، وليس يهم إن كانت الرواية الرسمية تحدثت عن انتحاره، فالأهم أنه لم يغادر المكان إلا جثة هامدة.

نقل في اليوم الموالي إلى بلدته عين الشعير، على متن طائرة عسكرية، ليتم بعد ذلك ببضعة أيام نقل كل أفراد عائلته إلى مجاهل إقامة إجبارية، تحت شعار الأبناء الذين يدفعون ثمن أخطاء الآباء.

سيختلف الأمر بعد مرور أكثر من عشر سنوات على تغييب أوفقير. فقد تحدثت الرواية الرسمية الوحيدة عن زيغ شاحنة حمراء اللون أردت رفيقه الجنرال أحمد الدليمي عند مداخل إقامات النخيل في مراكش.وقتها قيل إن سائق الشاحنة لاذ بالفرار وأن شخصية هامة كانت ترافق الجنرال على متن سيارته أصيبت بجراح، وسجل محضر لشرطة المرور كيف أن رجال الشرطة والمطافئ، حين جاؤوا إلى موقع الحادثة، كان الدخان لايزال يتصاعد من جانب السيارة التي اصطدمت بشجرة نحيل، بينما كانت الشاحنة الحمراء لاتزال متوقفة.

لم يكشف في الآتي من الزمن شيء أدق عن وقائع الحادثة التي يعتقد أنها سجلت ضد مجهول، بيد أن الملك الحسن الثاني سيحضر شخصيا جانبا من جنازة الدليمي في الرباط، وتحديدا في مقر جهاز الاستخبارات. وحين ووري جثمان الجنرال مقبرة الشهداء في الرباط لم ينته كل شيء. فقد روى أحد رجال الأمن أن حراسة شددت على مداخل المقبرة، وروى آخرون أن همهمات صدرت عن والده لحسن الدليمي وهو يمشي في جنازة ابنه الجنرال، وانبرت روايات متعددة تبحث عن حقيقة ما جرى في صمت غلفه المزيد من الغموض.

لم يطلق اسم الجنرال الدليمي على أي شارع أو معركة أو حدث رمزي، بل إن الألبوم الكبير لصوره سيتعرض للإتلاف، لكن دون أن تكون قد صدرت أوامر بهذا المعنى، فقد سادت أجواء أقرب إلى التشكيك في مسار الرجل الذي يعتقد كثيرون أنه فقد توازنه، أو انساق وراء حسابات خاطئة في أقل تقدير بيد أنه لا توجد رواية مطابقة واحدة حول حقيقة ما جرى، وربما أن تعرض الرجال، الذين كانوا محسوبين عليه، إلى نوع من التهميش يفسر مناطق الظل في قضية أشد غموضا.




الموت الغامض

منذ عام 1965 سيرتبط ثلاثة رجال بقضية واحدة المهدي بنبركة ومحمد أوفقير وأحمد الدليمي كانوا هم أنفسهم، إلى جانب شركاء آخرين، تدرج أسماؤهم في خانة واحدة، مع فارق في المواقع بين الضحايا والمتورطين. ومع أن مسارهم يختلف كليا. فإنه يكاد يلتقي في طابع النهاية الغامضة لشريط أحداث يعرف متى وكيف بدأ، ولا يعرف كيف انتهى، مع الإقرار بأنه كانت له نهاية فعلا.

في مثل الغموض الذي لف ظروف اختطاف واغتيال المهدي بن بركة في باريس يوم التاسع والعشرين من أكتوبر 1965، سينسج الواقع مصيرا آخر لا يقل غموضا كان من نصيب الجنرال أوفقير في السادس عشر من غشت 1972، وبعد حوالي عشر سنوات في يناير 1983، ستتناسل أسئلة حرجة حول مصير الجنرال أحمد الدليمي. فثمة عقل يميل إلى طرح هذا النوع من الأسئلة، قد لا يكون بالضرورة يصادف مكامن الحقيقة، لكن مجرد طرح الأسئلة يعني أن شيئا ما لم يكن على ما يرام.

فر الضابط الطويجي من بين أنياب الاستنطاق، وتردد أنه اضطر إلى عبور مضيق جبل طارق سباحة.

كان ذلك لا يعني أن آلة ما تحركت في ملف تحريات صامتة حول علاقات الجنرال الدليمي باسما، وجهات وعوالم. فقد كان ينظر إلى الطويجي أنه بمثابة علبة أسرار الحنرال، بل إنه كلفه بالكثير من المهمات التي ارتدت طابعا سريا، في إطار صراعات الجنرال مع جهات متعددة، داخل الجيش وخارجه.

ويوم أبعد رجال كانوا محسوبين عليه في الجهاز الاستخباراتي والجيش، كانت دلالات ذلك تفيد بأن نهاية الجنرال فتحت أبواب جهنم أمام أقرب الناس إليه. ممن كانوا بدينون له بالولاء دون غيره. لكن المفارقة أن أفراد عائلته الأقربين لم يتعرضوا لشيء من قبيل ما عانت منه أسرة رفيقه الجنرال أوفقير في مقابل هذه الصورة، جرت تطورات لافتة، ليس أبعدها أن الرئيس فرانسوا ميتران زار المغرب رسميا، ولم يضطر، لدوافع بروتوكولية، أن يصافح الجنرال الدليمي، لأن الموت كان قد غيبه، غير أ الفرنسيين على صعيد الأجهزة والدولة لم تعد لهم أي حساسيات مع الجنرال الدليمي، منذ أر برأته محكمة الجنايات الفرنسية من دم المهدي بن بركة، وإن كان لافتا أنه بعد رحيل الدليمي ببضعة أشهر لقي الغالي الماحي، الذي حوكم إلى جانبه في نفس القضية، مصرعه، على إثر حادثة سير على الطريق بين الرباط والمهدية، أي نفس طريق الموت التي أقبر فيه رجل الاستخبارات القوي العلوي المدغري إبان حياة الدليمي.

مسافات الخلاف

في العام نفسه، ستعرف العلاقات المغربية. الليبية انفراجا كبيرا تجلى في إبرام معاهدة وجدة التي أطلق عليها اسم الاتحاد العربي الإفريقي بين المغرب والجماهيرية الليبية.

في وقت لم يكن فيه أحد يتصور إمكان حدوث ذلك التقارب، الذي ألغى كل مسافات الخلاف بين البلدين الذين اختلفا طويلا، إلى درجة أن محاولات إسقاط نظام أي منها شكل محور مخططات هذا الطرف أو ذاك.

أبعد من ذلك، فالعلاقات بين المغرب والجزائر عرفت بدورها انفراجا ملحوظان وفيما كانت على عهد الجنرال الدليمي تدور أشواط الكثير من المفاوضات السرية التي شارك فيها إلى جانب شخصيات متنفذة، أضحت بعد رحيله المفاوضات تدور علنا، وإن كانت محاورها لم تغادر أسرار الأمانات.

قد لا يكون لهذه التطورات علاقة برحيل الجنرال، وقد تكون جزءا من أحداث ملأت فراغا كان يرغب في الإبقاء عليه، بالنظر إلى أنه لم يكن عسكريا نافذا فقط ولكن كان رجل استخبارات، أي أن دوره على الصعيد الخارجي كان يطال البحث عن المعلومات التي تقود إلى اتخاذ القرارات السياسية، مع أن الراجح أن دور الاستخبارات لا يقتصر على هذه الجوانب الاستعلاماتية، وإنما يتجاوزها نحو التوغل في عالم صانعي القرار، وبهذا المعنى، فإن غياب الدليمي أفسح المجال واسعا أمام زخم جديد في علاقات إقليمية انطبعت بالحذر والتردد.

لا يعرف تحديدا المدى الذي وصلته علاقات الجنرال مع دول وجهات كانت أكثر اهتماما برصد ما يحدث داخل البلاد، وعلى افتراض أن ذلك الرصد كان قائما مع أن وجوه العسكري كان باديا، فقد كان منفذا لسياسة يتم إقرارها على مستويات أعلى، إلا أن المنفذين في كل درجات المسؤولية من أدناها إلى أقصاها، يتركون بصماتهم على طرائق إخراج القرارات وتنفيذها.

لم يكن الدليمي من الرجال الذين يخفون رؤوسهم في الرمال. كان عنيدا إلى حد الجهر بآرائه، وحين كان يركب رأسه يصبح غير مبال بمن حوله، يكفيه أن يكون مقتنعا بما قدم عليه، ولو كان من قبيل أعلى درجات المغامرة. لذلك فقد غاب وهو يحمل معه أسراره. باستثناء ما كان ينفلت منه من انفعالات في لحظات الغضب. والظاهر أنه حين استتبت لديه سلطة أكبر مما كان يحلم به، دخل في حروب ومواجهات على مستويات عدة، وظل على قناعة بأنه سينتصر لتلك القناعات، كما فعل سابقا.

بين ثنايا وقائع دالة، سيكون لافتا أن نجم الدليمي صعد، على خلفية غياب الجنرال أوفقير، وأن الوزير المتنفذ على عهد الملك الحسن الثاني، الذي استطاع أن يملأ الفراغ الذي خلفه رحيل الدليمي، لم يكن سوى إدريس البصري، الذي سبق له أن عمل مدير ديوان الدليمي في الإدارة العامة للأمن الوطني، وبين هؤلاء الرجال حافظ جنرال آخر على مواقعه إلى النهاية، كان اسمه مولاي حفيظ العلوي، الذي لم يكن بعيدا عن كل الأحداث التي عرفتها البلاد خلال هذه المرحلة ثلاثة عسكريين ومدني كيفوا تاريخ البلاد منذ ستينات القرن الماضي، مع تفاوت في الأدوار، بعضهم حضر نهاية البعض، وبعضهم عاش تناقضات المرحلة وصراعاتها بكل التفاصيل. غير أن الموت الذي كان يحصد هذه الأرواح ظل مأساويا في صورة تراجيديات أقرب إلى شخوص وليام شكسبير. ويبدو أن هذه التراجيديات تصح للاعتقاد بأن جانبا كبيرا من التاريخ كتب على جثامين القبور. من عرف منها ووضع على ترابه شاهد، ومن أتلف بفعل عوامل تعرية الطبيعة، ومن لم يعثر على قبره إطلاقا إذا تركنا الرواية الرسمية لمقتل الجنرال الدليمي، سنعثر على سيناريوهات متعددة، قد يكون بعضها من نسج الخيال، وقد يكون أقرب إلى المتخيل الذي لا يصدق أن رجلا في حجم الدليمي يمكن أن تدوسه شاحنة زائغة. غبر أن الرجل الذي دخل تاريخ حروب الصحراء من بابها الواسع، لم يكن له أن تكون له عيوب ومؤاخذات للآخرين عليه.

في أقل من أربع وعشرين ساعة، كان جنرال آخر يخطو في اتجاه مقر الاستخبارات الخارجية، لم يكن سوى مدير الأمن الوطني، وقتذاك الجنرال عبد الحق القادري، الذي بدا مختلفا عن سلفه في كل شيء، هادئا إلى الحد الذي يخاله المرء يقف دائما في محراب التأمل، وصامتا إلى درجة أنه يعرف أشياء كثيرة فثمة رجال يتركون مواقعهم من دون ضحية، وثمة آخرون تحوم حولهم الشبهات، والأقوى من "يخرج من دار العيب بلا عيب"، كما يقول المثل المغربي.

ازدواجية المواقف

كان الجنرال الدليمي قليل الكلام، كثير الأفعال، غير أنه أدلى في عام 1966 بتصريح إلى جريدة "الحياة" اللبنانية حول قضية اختطاف المهدي بن بركة، مما جاء فيه أنه توجه إلى باريس بهدف "تخليص بن بركة من قبضة أشرار اختطفوه وطالبوا بفدية مالية مقابل الإفراج عنه".

لم يحدد أسماء أولائك الأشرار، فيما فهم كلامه أنه موجه ضد أشخاص فرنسيين من ذوي السوابق، تورطوا في عملية اختطاف المعارض المغربي. وربما كان بصدد تبرير حيازة الغالي الماحي حقيبة مليئة بالأموال بالعملة الفرنسية. لكنه بعد ذلك بسنوات، سيتحدث إلى إذاعة فرنسا الدولية، وسيكون تصريحه لافتا، إذ وصف المهدي بن بركة بأنه شخصية وطنية تحظى بالاحترام والتقدير، وأثنى في غضون ذلك على دوره البارز في الدفاع عن القضايا الوطنية.

في مقابل هذا الكلام، الذي كان يختاره الدليمي بعناية، سينقل عنه القول أمام أجانب أن المهدي بن بركة كان متابعا قضائيا بالحكم بالإعدام، وسيقول إن بعض الأشخاص الذين تورطوا في الملف نالوا ما كانوا يستحقونه، لكن دون أن يفصح أكثر عن أسمائهم وعن ظروف غيابهم والملابسات التي أحيطت به، سواء في فرنسا أو في المغرب. ازدواجية المواقف هذه ستجد امتداداتها في تحركات الجنرال، فقد اهتم، منذ انتزاع براءته من محكمة الجنايات الفرنسية، بأن ينظم لقاءات مع كبار المسؤولين الفرنسيين في مقر أجهزة الاستخبارات. وكان يسعى من وراء ذلك إلى تبديد الشكوك حول دوره المحتمل. لكنه ظل يفاخر بأن بإمكانه أن يجول في عواصم العالم، على عكس غريمه الجنرال محمد أوفقير، الذي حظر عليه زيارة فرنسا منذ نونبر 1965، يوم شارك في حفل تخرج أعوان سلطة مغاربة تلقوا تداريب هناك، مباشرة بعد أقل من أسبوع على اندلاع قضية بن بركة.

الجنرال الصحراوي عاشق السهر

اكتسب الجنرال أحمد الدليمي كثيرا من طباع "أولاد دليم". تلك القبيلة الصحراوية الدم العربية الأصل، والمتربعة على عرش القبائل الصحراوية المسماة "المحاربة".

من الصحراء أخذ هدوءه وتكتمه الشديد، إذ يجمع مقربوه على أنه كان أكثر الجنرالات كياسة وصمتا. كما أنه ورث من أهل الصحراء التزامه وولاءهم. بينما تكلفت الدماء العربية التي جرت في عروقه برسم بقية معالم صورة هذا الجنرال الذي كان يهوى السمر. كل من عرف الدليمي يؤكد أنه كان أكثر جنرالات الحسن لثاني تعلقا بالليل، إذ كان يسهر بشكل يومي تقريبا.

هذه هي اللحظات الوحيدة التي كان ينسى خلالها الدليمي أنه جنرال مهاب، ينظر إليه على أنه الذي تكلف بإعدام سلفه الجنرال محمد أوفقير. لم يكن شيء من هذه الذكريات الدموية يتبادر إلى ذهنه في لحظات انتشائه، حتى ولو اتصل به مسؤولون كبار، فإنه كان الوحيد الذي يرفض الإجابة وقطع حبل متعته الذي يستمر، طويلا، حتى مطلع الفجر.

زهو عربي وكرم صحراوي، خاصيتان لازمتا هذا الجنرال طيلة اللحظات القليلة التي قضاها مع أسرته في فيلا فخمة بالعاصمة الرباط، وعائلته الكبرى بقبيلة "أولاد دليم"، إذ يحكي مقربوه أنه ظل يغدق ماله على أفراد أسرته وعائلته، وهو ما دفع الحسن الثاني إلى إيلاء عناية خاصة بأرملته وأفراد أسرته، كما أنه لم يحجز على أملاكه رغم الاشتباه في تورطه في مخطط للانقلاب عليه.

جولة "غولف" بين الحسن الثاني و"ميتران" تختم قصة حياة الدليمي

الزيارات المتبادلة بين المغرب وفرنسا كانت حاضرة في حياة الجنرال الدليمي حيا وميتا. في الوقت الذي كان هذا الجنرال الدليمي حيا وميتا. في الوقت الذي كان هذا الجنرال الحديدي ظلا للملك الراحل الحسن الثاني في جميع زياراته إلى باريس.

آخر زيارة فرنسية رسمية إلى المغرب حضرها الدليمي طبعا، لكن في اليوم الأخير له من حياته المثيرة. كان ذلك في يناير 1983، عندما حل الرئيس الفرنسي "فرانسوا ميتران" ضيفا على الحسن الثاني. وعقبها جاء خبر مقتل الجنرال القوي إثر حادثة سير عند مشارف مراكش.
زيارة "ميتران" هذه، كانت غريبة للغاية.

لم تكن علاقة الرئيس الفرنسي الذي دخل "الإيليزيه" سنة 1981، بالجيدة حتى تصل إلى الصداقة الحميمية. مع ذلك طلب "ميتران" من الراحل الحسن الثاني أن يلعبا "الغولف". هذا الأمر أثار استغراب الحاصرين، ليس فقط لأنه لم تكن تجمع الحسن الثاني صداقة كبيرة ب"ميتران" الذي كان يبلغ من العمر عندها 67 سنة، لم يعهد عليه ممارسته رياضة قط.

في ما بعد، سيتبين أن اقتراح "ميتران" كان لرغبته في الاختلاء به في ملعب "غولف" فسيح، بعيدا عن وسائل التصنت وأعين وآذان المتجسسين.

الهدف وراء كل هذه الإجراءات كان خبرا نزل كالصاعقة على الحسن الثاني، عندما أخبره "ميتران" بأنه توصل بمعلومات حصلت عليها أجهزة الاستخبارات الأمريكية، وأنه يجب أن يستعد لأمر جلل يمكن أن يسفر عن قلب النظام والإطاحة به.

بينما كانت كرات "الغولف" التي يتقاذفها الحسن الثاني و"فرانسوا ميتران" تتجه صوب الحفر الصغيرة، كان الجنرال الدليمي يتجه بسيارته إلى حتفه، بعدما دهسته شاحنة عند أعتاب مراكش، كما تشير إلى ذلك الرواية الرسمية.

بعد جولة "الغولف، سيمتطي الحسن الثاني سيارته ويتوجه نحو فيلا الجنرال المقتول، ليلا، ليقدم العزاء إلى عائلته. ولم تمض أيام حتى تم اعتقال 15 ضابطا، أعدم ثلاثة منهم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.