بعد عدة محاولات للنهوض والاعتماد على الذات ، وبعد عدة تجارب لم يكتب لها النجاح، استطاع أخيرا كل من الشعب التونسي والمصري أن يخرجا من عنق الزجاجة ، وأن يقدما النموذج العملي على إمكانية الانتصار على الظلم والقهر والإلغاء والتهميش، بما قدموه من تضحيات وتوحد في الرؤى ، واستبسال في الدفاع عن قناعاتهم ، وتعففهم عن الاستعانة بالأجنبي ، وتأجيل الحديث عن المرجعيات ، وتوحيد جهود جميع الأطراف نحو هدف واحد ووحيد وهو التغيير. استطاع الشعبان بعد لأي تحقيق جملة من الأهداف الكبيرة ، وبحكم أن الشعوب العربية تعيش نفس الظروف التي عاشتها كل من تونس ومصر وبحكم أن قدرة الشعوب على التحدي أصبحت واضحة جلية ، لا يجادل فيها إلا مكابر أو عنيد وبحكم أن هذه الأمة قدا استرجعت بعض الثقة في النفس بعد سنوات عجاف ، فإن الشعوب العربية قد تاقت نفوس أبنائها للتغيير خاصة أن الرياح بدأت تهب على الكثير من البلدان العربية حاملة معها بذور اللقاح . تلقح الشعب اليمني،فرفع صوته عاليا يطالب رئيسه بالاصطلاحات ،بالحقوق الأساسية بالمواطنة الحقة ، وما يترتب عن ذلك من مساواة في الحقوق والواجبات ، دون تمييز بين المنعم عليهم من المقربين المنتمين لحزب الرئيس،والمغضوب عليهم المعارضين للسياسة الرشيدة للزعيم ، بعد أن ظن الحاكم العربي أن شعبه كم مهمل أ وقطيع شارد،يجوز التصرف فيه وفي ثروته ،وفي حاضره ومستقبله ، كما يتصرف الراشد في أموال القاصر أوالسفيه ، حيث رهن الكثير من الحكام العرب شعوبهم للأعداء ،وقيدوهم بالديون العائدة على حسابات الزعيم بالابناك الغربية المختلفة ،حيث أضحى الزعيم بقدرة قادر أغنى من الدولة نفسها ، وعوض أن يستميت في خدمة الشعب فقد استمات في جعل الشعب في خدمته ، لم يكن أحد من القادة العرب يكترث لرأي الآمة، أو يستشيرها رغم أن الأمة تتحمل أخطاءه ومغامراته غير المحسوبة والمتكررة ،وكان قول الشاعر العربي صادقا في حق الشعب وهو : ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستأذنون وهم شهود فاجأ الشعب العربي حاكمه الذي كان مطمئنا لخلود مواطنيه للنوم مبكرا ، وابتعادهم عن كل ما يعكر صفو القائد ، ويقلق راحته و استرخاءه ، كما تفاجأ العالم كله بهذه الانتفاضة ،التي تنادى بعض الزعماء العرب لمحاصرتها وعزلها ، خوفا على المواطنين المسالمين من أن يلقحوا بهذا الوافد الغريب ، الذي ما إن تجربه الشعوب ،وتلامسه حتى يقوى عودها ،وتشتد قناتها ، وتخرج عن الطاعة ،فتصبح وكأنها غيرها بالأمس ،تصبح وقد إنعتقت من الخوف الموروث جيلا إثر جيل ،تتحدث بلغة الواثق بالمستقبل ، تصرخ في وجه الباطل مستحضرة قوله تعالى :(ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ) سورة القصص آية 6. لم يستطع النظام في اليمن أن يفهم شعبه مبكرا ، ولا أن يستفيد ممن سبقه و الذي فهم متأخرا ،وظن أن هناك خصوصيات لكل بلد ،وأن التلقيح لا يعني دائما تمكن اللقاح من الملقح،لذا عزم على عدم التجاوب مع مطالب شعبه ،وعقد النية للنيل من عزيمته، فأبدع هذا النظام الذي كان يرفع شعار التقدم والوحدة والنضال والصمود والتصدي وغيرها من المصطلحات التي ملأت فراغ ذاكرتنا، حتى أن أفكارنا لم تعد بمقدورها أن تتناسل وتنجب ، وإنما تستنسخ بعضها بعضا ، لان الأفكار السليمة بطبعها تأبى التوالد في الأسر، أبدع الحاكم اليمني في ضبط المحتجين ،والتنكيل بهم ،وتوجيه أنظارهم في كل مرة إلى مبادرات للمصالحة ربحا للوقت ،وذرا للرماد في العيون ، وكثيرا ما سخر بلطجيته لترويع المحتجين وشق صفوفهم . تلقح الشعب الليبي هو الآخر فرفع صوته عاليا، ينادي بالحقوق التي تكفلها جميع القوانين لجميع الشعوب المعتبرة، لكن ما لم يستسغه الحاكم الليبي أن يقوم الشعب بدون إذنه للمطالبة بالحقوق،وهو الذي يحكم ليبيا منذ عام 1969 أي منذ 42 عاما ، حكم ليبيا إبان حكم الرئيس الأمريكي نيكسون ،ثم فورد ،وبعده كارتر ، وريكان (لولايتين)وبوش الأب وكلينتون (لولايتين) وبوش الابن (لدورتين ) ، ثم في عهد الرئيس الحالي بوعمامة ، ما تجرأ احد على البوح بأمر أو رأي مخالف للعقيد أو للكتاب الأخضر ، فهو الآمر الناهي يحكم بدون برلمان ولا مؤسسات منتخبة من الشعب ،وإنما بلجان شعبية مبثوثة في الأحياء والأزقة تحصي أنفاس الليبيين وتقمع كل من سولت له نفسه الاعتراض ، سواء في الداخل أو الخارج ، فالجميع يجب أن يكون راضيا بمنجزات العقيد ؛ ما استطاعت جماعة أن تخالف رأي ملك ملوك إفريقيا ،و عميد الحكام العرب ، وصاحب النظرية الثالثة ، وصاحب مصطلح اسراطين ، والشيخ الزبير وبوعمامة ..وغيرها فثارت ثورة الأخ القائد الذي لا يملك أي منصب رسمي كي يتنازل عنه للشعب ، لم يكن ينتظر أن يخالفه احد وهو الذي كان يهيئ ابنه لخلافته بكل اطمئنان ، وكان أبناؤه يتصرفون في أموال الأمة بدون حسيب ولا رقيب ، خاصة بعد أن أفرغ ليبيا من الشرفاء الشجعان ، ومن العلماء العاملين، فعاشوا في المنافي يحملون أوصاف العملاء ، فخلا له الجو فباض وفرخ ،فأصبح ،وأضحى ،وأمسى ،كل شيء في ليبيا فهو الزعيم الملهم ،والأديب المبدع وصاحب النظريات ، والفقيه المجتهد ، وملك ملوك .... عامل الشعب كما تعامل العبيد ،يأخذ وأبناؤه ما يشاءون من حقوق غيرهم ، ما أحسن إليهم ولو باللفظ يستكثر أن يقول لشعبه أيها الشعب الكريم ، أو الشعب العظيم ، إنما يصفهم بالجرذان هددهم على الهواء مباشرة بالإبادة ، وسلط عليهم كتائبه تسومهم سوء العذاب ، تقتل الرجال وتغتصب النساء ،وتعبث بالممتلكات ، وهو يظن أن لا أحد سيرد أ ويتأوه ، ولم يكن يعلم أن شعبه قد لقح أخيرا ، وان هذا المواطن لم يعد كما كان ،فقد هبت عليه الرياح اللواقح التي أصلحت من شأنه فأمسى مواطنا لاتلين قناته، ولا يرضى بالذل والقهر، ولايمكن إلغاؤه من المعادلة ، لأنه أصبح مواطنا حقا ، وفهم معنى المواطنة ، فجن جنون العقيد وحتى لا نتهم أحدا فإن الجنون في العقيد مزمن فأرسل الطائرات للجرذان تقصفهم وتستأصل شأفتهم ، وا ستباح ليبيا لأبنائه ، ولكتائبه ، حتى يعلم كل من سولت له نفسه أن العقيد منتبه حساس لا يمكن أن يترك ليبيا بخيراتها التي تنعم بها لأكثر من أربعين سنة للجرذان ، وللعملاء ، وللإرهابيين ،وخاصة وأنه كان يعد ابنه للتحكم في مصير البلاد والعباد ،سيف الذي ما حمل سيفا يوما ،وإنما كان مستعدا للتفاهم مع العم سام ليصبح الوارث لوالده ،يرث ليبيا بشعبها وخيراتها كما تورث الإبل ،فلما تلقح الشعب الليبي ،وسرى لقاح الثورة التونسية والمصرية في أوصاله ،لم يعد بمقدور الأخ القائد التحكم في مصير هذا الشعب ومعاملته كالقطيع يسوقه حيث يشاء لم يستوعب الدرس ،لم يفهم أن الرياح اللواقح قد غيرت المعادلة ، وأن اليوم غير الأمس. استجمع الزعيم نفسه ، ونشر كتائبه وقرب حوارييه ففكر وقدر أنه لابد من الاستمساك بالكرسي سنين أخرى ، وأن النموذج التونسي أو المصري لاينطبق على الجماهيرية العظمى ،ولا على ملك ملوك إفريقيا، وأنه سيسحق الجرذان ويبيد خضراءهم ، لذلك أصدر أوامره للكتائب يقودها أبناؤه ومن شبه أباه فما ظلم لإبادة المتطاولين والدخول عليهم بيت بيت وزنقة زنقة ، بدون حياء ! ونظرا لاستكباره وعناده لم يستسغ أن يعارضه شعبه ولو سلميا !وتناسى كيف كانت النفوس الكبيرة تقبل المعارضة والنصح وتشجع عليها ( لاخير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نسمعها ) عمر بن الخطاب رضي الله عنه ،لذلك لما خرج العقيد على العالم بخطابات متلفزة هستيرية، يتحدث فيها عن الثورة وعن الشعب حديثا حطم به الرقم القياسي في الاستخفاف بالشعب ؛ كما كان مضمون الخطابات منتهى السخرية والضحك عند العام والخاص ،فأصبح الزعيم الثائر أضحوكة العالم أ جمع . لم تتوقف الرياح اللواقح عند ليبيا ، أو اليمن وإنما جرى تأثيرها في معظم الجسد العربي ، فقامت الشعوب العربية في البحرين وسوريا والجزائر والمغرب والأردن والسعودية...تطالب بإصلاح أوضاعها ، وأصبح لهذا اللقاح تأثير عجيب على إرادة الشعوب ، وعلى قدراتها مما حير الكثير من المتتبعين الذين كانوا يظنون إلى وقت قريب أن الشعوب العربية كتب عليها أن تتعايش مع الاستبداد والظلم الاجتماعي والاقتصادي ...،وأن ترضى بقدرها وتخضع لجلاديها ،إلا أن مفعول هذا اللقاح العجيب قلب كل الموازين ، وأسقط كل النظريات الاستسلامية التبريرية المؤصلة للخضوع والاستبداد مما جعل هواة الكراسي المثيرة ، والمستمسكين بها يتنادوا مصبحين ألا يدخلنها اليوم عليكم محتج أو متظاهر .