إحدى مظاهر عجز الحكومة عن الاضطلاع بالملفّات العالقة والتي تهمّ بشكل استعجالي المواطن، هو تدهور الخطاب السياسي للحكومة. وهو بالتّأكيد لا ينتمي إلى خطاب الدّولة بقدر ما ينتمي إلى خطاب المعارضة.
ويحسب وزراء الحكومة الحالية أنّهم بتمثّل خطاب المعارضة يؤكّدون على مزيد من الجرأة والانحياز إلى الشّعب. والحقّ أن الجنوح إلى خطاب المعارضة يحمل دلالات عدّة، منها الحنين إلى ما قبل خطاب الحكومة.
وهذا يعني أنّ الحكومة بدأت تدرك أنّ مآلها هو العودة إلى حضن المعارضة. كما يؤكّد على أنّ الحكومة عجزت عن تحقيق وعودها التي ضربتها للمواطنين. لقد انتخب الشعب حزب الإسلاميين ظانّا أنّهم مأهّلين أخلاقيا لمواجهة الفساد. فإذا به يفاجأ بحكومة هي الأجرأ في كل تاريخ المغرب على السياسة الاجتماعية.
فلن تكد الحكومة أن تمضي سنة واحدة لكي تقوم برفع أسعر المحروقات والمواد الأساسية والتّحرش بصندوق الموازنة، وإعلان العجز التّام عن مغالبة الفساد ووضع مصير البلد وسياساته الاجتماعية في يد حكومة تفتقد للخبرات والنّزاهة؛ بالأحرى تريد أن تحوّل المجتمع المغربي إلى مجتمع "أهل الصّفة". ففي كل البلدان التي قفزت فيها هذه الجماعات إلى مواقع التدبير، كنّا أمام شكل من أشكال التمييع للمشهد السياسي.
فلقد فهم هؤلاء أنّ الديمقراطية هي صناديق الاقتراع. وبأنّ صناديق الاقتراع تتيح لك التشريق والتغريب وممارسة الاستبداد ضدّ الأقلية. وهي ليست أقلية بقدر ما هي ضحية عزوف سياسي. الأقلية اليوم هي التي تحكمنا. وأمام هذا العجز الكبير بتنا أمام شكل من الإفلاس في الخطاب السياسي. وأكبر مثال على ذلك تحذير وزير التعليم العالي خلال المؤتمر التأسيسي لمنتدى "الأصالة والمعاصرة" لأساتذة التعليم العالي الذي نُظم بالرباط من مغبة انتشار التعليم الشيعي في إفريقيا . وقال السيد الوزير: بأنّ "آلاف الحوزات العلمية الشيعية التي لا تكلف أموالا استوطنت الدول الإفريقية"، داعيا إلى "تحويل المغرب إلى قطب للجامعات العالمية لمواجهة هذا التهديد العلمي". يقول هذا بحماسة كما لو كان وزيرا للشؤون الأفريقية وليس وزيرا مطالبا بأن يوفّر النقل والمنح والمناهج للطلاب المغاربة.
ماذا عسى المرء أن يقول إزاء هذا الخطاب؟ إن هذا الوزير هو الاستثناء غير الملتحي في حكومة موسومة بالملتحية.
لكن قلبه لا زال على مذهب السرورية السلفية. لأنها النحلة الوحيدة المتبقية في هذا العالم التي تفتعل معارك تنتمي للقرن الثالث والرابع الهجري. الله يرحم الكولونيل ماجور العبدي يوم قال لي مرة: إني أعتبر الوزير المذكور، نصرانيا في العدالة والتنمية. لأنه يراه يفكر بطريقة استعراضية فرنسية عشية الانتخابات(المغاربة كانوا يسمون الفرنسي بالنصراني). وهذا صحيح، لكنه في موارد أخرى هو سروري في تدبير الحكومة، حتى وإن كان يوم كان نائبا في البرلمان متحمّسا للزيادة في سعر الجعة. لكن سؤالي هو: ما علاقة المغرب بهذا، وما علاقة التعليم العالي في المغرب بهذا؟ لقد مرد أبناء هذه الطائفة السرورية في المغرب، ممن فتحوا المجال للنشاط السروري في المغرب قبل الحكومة وبعدها من خلال رعاية مؤتمر للتنظيم السروري السّري، على استعمال التهويل واختراع بعبع إسمه الشيعة إخفاء للفشل في تدبير الحكومة لقطاع التعليم العالي. فقبل أن يصلوا إلى الحكومة قال أحدهم وهو اليوم وزير أيضا، حينما سئل عن برنامجهم قال: إننا حاربنا الشيعة. وبالتأكيد هي قضية بلا موضوع. لأنه لا يوجد هناك خطر شيعي لكي يحاربوه. وإذا كان، فهم عاجزون عن محاربته. والأمر نفسه قاله مريد آخر من الحزب نفسه وهو اليوم وزير.
نحن أمام دونكيشوت ملتحي يحارب طواحين الهواء. وحتى الآن لا زلنا نشغل المغاربة بأسئلة مغشوشة ونهرب من الأسئلة الحقيقية التي تتّصل بقضايا المواطنين الملحّة في العيش الكريم والنّمو. ولا أدري حتّى الآن ما أهمية تلك الحقائق التي تحدّث عنها السيد الوزير، في خطاب غارق في النّشاز.فما لا يدركه الرأي العام، هو أنّ رئيس الحكومة الذي "يمون" عليهم، كان في لقاء خاص مع مجموعة من الصحفيين، قد أسرّ لهم بالقول: صراحة إن المغرب في الأصل هو بلد شيعي. وهو هنا لم يفعل سوى أن ردد كلاما قلناه في سياق تحليلي وليس بالمعنى الذي يرد في الأذهان.
الفارق، أن مقصودنا هو أنه في الأصل بلد شيعي بالثقافة بينما هو يقصد أنه شيعي بالتدين. والأمر نفسه نقله لي صديق أجنبي حضر مؤتمرا في لندن وتجاذب الحديث مع رئيس الحكومة قبل أن يصبح رئيس الحكومة، فأخبره هذا الأخير بأن المغرب في الأصل هو بلد شيعي. إن وزير التعليم العالي وكل وزراء حزبه كانوا ندماء للسفارة الإيرانية وزوّارا كذلك لطهران في مناسبات كثيرة ، لا مجال للتفصيل فيها. ولهم كلام هناك ليس ككلامهم هنا.
وكل شيء لدينا موثّق عن تمدّحاتهم بالقيادة الإيرانية ومساندتها في نضالها وجهادها. ماذا جرى وما الذي تغيّر؟ حتّى أنّ بعض طلبتهم ابتعثوا هناك ومنحت لهم منح لاستكمال دراساتهم في طهران. وهؤلاء لم تشر إليهم تقارير الجماعة نفسها حينما اتهمت السفارة بأنها تبعث بطلبة مغاربة إلى إيران.إنّ عشرات ومئات الكتب الشيعية الإيرانية أهديت لقيادات الحزب والجماعة التي ينتمي إليها الوزير، وهي في مكتباتهم الخاصة استقبلوها بالأحضان وشكروا عليها الجهة الموزعة، وكانوا في المعارض أكثر تهافتا على الكتاب الشيعي من غيرهم.
وهم الأكثر اقتناء للمنشورات الشيعية والاستفادة من آرائهم.ولعلّه من المضحك أن يتحدّث وزير التعليم العالي عن آلاف الحوزات الشيعية في أفريقيا وهو يجهل بأن الحوزات هي جامعات لتدريس العلوم الإسلامية ، لا يمكن أن تعد بالآلاف. ففي النجف لا نتحدث إلاّ عن حوزة واحدة وكذا في قم وغيرها.فهم يخلطون بين دور تعليم اللغة العربية أو مقار الوعظ والإرشاد أو حتى فرع لجامعة، وبين الحوزات. ولا توجد حوزات خارج الجغرافيا الشيعية الطبيعية بالمعنى الحقيقي للعبارة.
وبدل أن يحل وزير التعليم العالي مشكلات التعليم والمناهج والبحث العلمي ووضعية الأساتذة والاستراتيجيا التعليمية، تراه يتحدث عن مواجهة المد الإيراني والشيعي في أفريقيا، كما لو كان هذا هو الخطر الذي يتهدّد شمال أفريقيا ومنطقة جنوب الصحراء وليس القاعدة. ترى هل يحاول بهذا التهويل الغبي أن يشحذ فلوس من السعودية؟ فالسعودية تدرك أنّ هذا مجرد سمسرة رخيصة. وهم في الغالب يحتقرون هذا النوع من الأساليب. وقد حدّثني أكثر من شخصية سعودية ممن لهم عداء لإيران، عن تلك الزّمر العربية التي تمارس هذا النوع من السمسرة. لأنّ السعوديين ، ومعهم حق، يحتقرون من يسمّونهم فرقة الطّرّارين؛ أي الشحاذين. ثم هو يتحدّث بالوكالة عن دول لها سيادة ولها استراتيجيتها في تدبير شؤونها، كما لو كان وصيّا عليها.
وهذا التطاول والتعاطي مع هذه الدّول كما لو كانت محاور جيوسياسية افتراضية لحزب المصباح، هو سبب هروب دول أفريقية منّا. فكيف يتدخّل وزير يظن أنه لاعب جيوستراتيجي وهو عاجز أن يدبر حكومة ميني ملتحية، في شؤون دول شمال غرب أفريقيا؟ لقد أصدرت الجمعية الدعوية المرفقة بالحزب الذي يقود الحكومة بيانا ضد التدخل الفرنسي في مالي، أي في دولة القاعدة في الشمال بينما دعوا إلى التدخل الفرنسي في سوريا. إنهم بهذا الخطاب يدعمون القاعدة معنويا في شمال مالي، كما أن عناصر من تنظيمهم تقوم برحلات مكوكية للحدود السورية يتواصلون فيها مع المسلحين السوريين ليؤمّنوا لهم المرور من أنطاكيا إلى داخل الحدود السورية. ونحن نعلم أنّ هذا الممر تسيطر عليه الاستخبارات التركية وجماعة النصرة التي توجد في مقدمة وطليعة العمل المسلح في سوريا. بل هناك مناطق تصبح تحت هيمنة النصرة فقط.فهم يتبرؤون من القاعدة في المغرب لكنهم ينسقون معها على الحدود السورية. والقاعدة ملّة واحدة، سواء أكانت هنا أو هناك.
إن الوزير لا يتحدث عن الاجتياح القاعدي لشمال أفريقيا واستقطاب القاعدة للمغاربة وإرسالهم سابقا للعراق واليوم إلى سوريا؟ ما هي استراتيجية وزير التعليم العالي لمواجهة هذا الاستقطاب الأيديولوجي والديني الذي يجعل المغاربة أجسادا مفخخة في ما وراء السهوب؟ ولكنه يتحدث عن قضايا لا توجد إلا في خيال الطائفة السرورية في المغرب.
ولعلّه من سوء التّقدير أنّ بعضا من هؤلاء يعتقدون أنّ مثل هذا الخطاب التحريضي الذي يستهدف الأديان والمذاهب وينشر الكراهية غير ممكن تكييفه قانونيا في اتجاه إدانتهم وملاحقتهم قضائيا في المحاكم الوطنية والدّولية. وهم إذ يفجرون كبتهم السّلفي ضد الأديان والطوائف والأقليات، لأنهم عاجزون عن تطبيق أفكارهم السرورية في المجتمع المغربي يحسبون أنّ ألسنتهم غير مراقبة. فهذه الأديان أو المذاهب التي يتم الاستهتار بها، تدين بها أمم لها رجالاتها في المحاكم الدولية ومجلس الأمن وفي مراكز القرار الدّولي واليونيسكو وسائر المنظمات الدّولية.إن هذا الخطاب الذي تروّج له صحافة الغلو والتطرف بات مقززا لدى المراقب الخارجي ويشوّه السمعة السياسية والثقافية والدينية لبلادنا.والعجيب أنهم لا زالوا يتحدّثون عن التسامح وحوار الأديان في سياق تمييع واستغلال المفاهيم الإنسانية الكبرى.