بعد مسيرة طويلة جالتها أقدام الجمال في دوران من أجل عصر الزيتون على مر الزمن، أضحت الاستعانة بالجمال في عصر الزيتون لإنتاج الزيت مهددة بالانقراض، إذ لم يتبق اليوم سوى خمس معاصر تقليدية في المغرب. وغدا كثيرون يتوقعون أن تنتهي كلها كمتاحف تراثية يزورها السواح والباحثون عن كل ما هو قديم.
تحديدا، في المنطقة الممتدة بين مدينتي آسفي والصويرة، إلى الجنوب من الدارالبيضاء كبرى المدن المغربية، كان السكان يعتمدون على الجمال وسيلة للحصول على زيت الزيتون الطبيعي. وكان عدد المعاصر التقليدية التي تدير مكابسها – أو رحاها – الجمال في الماضي، وتلك التي تعد نصف تقليدية، يربو على 300 معصرة. وبالتالي، من واقع عدد المعاصر المتبقية حاليا ومقارنته بذلك الرقم في الماضي مؤشر واضح على زوالها المرتقب.
لتوثيق معاصر الزيتون التقليدية، شدت «الشرق الأوسط» الرحال لتزور المتبقي منها. وفي الطريق الساحلي بين أسفي والصويرة المطلتين على المحيط الأطلسي، توجد بلدة تعرف باسم «خميس أولاد الحاج» وهي من المناطق المعروفة بغرس أشجار الزيتون وعصره. وعند وصول الزائر إلى هذه البلدة سيلاحظ جملة مكتوبة على أحد الجدران تقول: «هنا معصرة تقليدية بالجمل». ومن ثم، لحظة دخوله المعصرة، يخال أنه بات خارج هذا العصر، يعيش في سنوات بعيدة.. وبعيدة جدا.
وهنا داخل المعصرة، التي لا تتجاوز مساحتها 60 مترا مربعا، يدور جمل معصوب العينين، يظن أنه يسير في أرض شاسعة وطويل. أما سبب عصب عينيه فلكي لا يرى أنه يطوف بشكل دائري في المكان نفسه لمدة تزيد على أربع ساعات متواصلة. وعلى ظهر الجمل وضع نير خشبي يمتد إلى رحى صخرية (الطاحونة أو المكبس)، هي عبارة عن أسطوانة حجرية صلبة تطحن ثمار الزيتون مع حركة الجمل الدائرية.
من التقاليد السائدة عند أصحاب معاصر الزيوت، العرض على الزبائن وضيوف المعصرة فرصة تذوق الزيت بعد غمسه في قطعة خبز شعير طازجة مصحوبا بكوب من الشاي الأخضر بالنعناع، وهكذا يتذوق الزائر جودة الزيت ومذاقه الطبيعي، وهذا يجري مع أي زائر.
وخلال الزيارة، التقت «الشرق الأوسط» صاحب المعصرة عبد القادر بن بوجمعة، وهو رجل في عقده السابع، روى لنا الصراع الدائر بين «الأصالة» و«المعاصرة»، أي بين المعاصر التقليدية التي تقاوم بضراوة من أجل البقاء والاستمرار، والمعاصر العصرية الحديثة سريعة الانتشار. أوضح بن بوجمعة خلال اللقاء أنه على الرغم من رواج المعاصر الحديثة لزيت الزيتون الذي يسميه المغاربة «زيت العود» فإن محبي المعاصر التقليدية يفضلون هذا النوع على المعاصر الحديثة، لأن زيته يتميز بجودة عالية وطعمه مستساغ، مشيرا إلى أن المعاصر التقليدية التي تعتمد على طاقة الجمل لاستخراج الزيت، تشغل ما بين خمسة وسبعة عمال، في حين تشغل المعاصر الحديثة ما بين ثلاثة إلى أربعة عمال.
من ناحية أخرى، بين بن بوجمعة أن عملية استخراج زيت الزيتون تمر في عدة مراحل، وهي تبدأ عندما يأتي الزبون أو المزارع بأكياس مليئة بثمار الزيتون، يضعها العمال في إحدى زوايا المعصرة. وبعد تنقية الثمار وغسلها من الأوراق والشوائب، يصار إلى وضعها في مستوعب الرحى الأسطوانية التي تدور، فتطحن حبات الزيتون مع حركة دوران الجمل المعصوب العينين. إلى ذلك، وبعد ساعات من طحن الثمار نتيجة ثقل الحجر الكبير الأسطواني، يوضع العجين المستخلص في أطباق دائرية مصنوعة من نبات الدوم أو من جريد النخل، ويجري رص الأطباق بعضها فوق بعض أفقيا، ومن ثم يشد العمال الضاغط (الزيار) حتى خروج الزيت من الأطباق ليمر عبر قناة إلى الحوض. أما في ما يخص بقايا ثمار الزيتون التي يطلق عليها أصحاب المعاصر «الفيتور» (الجفت) وهي تميل إلى اللون البني، فتستعمل علفا للحيوانات وكذلك وقودا في مواقد النار، كما تستخدمها بعض المعامل في شمال المغرب في صناعة الصابون.
في الواقع، تستغرق عملية طحن – أو عصر – 200 كيلوغرام من حبات الزيتون أربع ساعات وأحيانا أكثر، وهذا في حالة الطريقة التقليدية المعتمدة على الجمل، أما مع المعاصر التي تعتمد على الكهرباء فلا تحتاج العملية إلى أكثر من ساعتين لإنجاز المهمة. وبحسب بن بوجمعة فإن «العمل في معصرة تقليدية شاق بالمقارنة مع المعاصر نصف التقليدية أو تلك التي تعتمد على تقنية حديثة. ثم إن راتب العامل في المعصرة التقليدية متواضع بالمقارنة بما يتقاضاه العامل في المعاصر الحديثة»، وتابع بأسف: «إن إقبال الزبائن على المعاصر التقليدية، يتضاءل عاما بعد عام، وهذا مع أن تكلفة طحن كيلو غرام من الزيتون في المعاصر التقليدية للزيتون لا تزيد على نصف درهم مغربي (أي 10 سنت أميركي)، وفي المقابل تصل التكلفة إلى درهمين في المعاصر الحديثة».
واختتم عبد القادر بن بوجمعة حديثه معنا، بالقول: «مما لا شك فيه أن الناس باتوا يفضلون المعاصر الحديثة من أجل كسب الوقت، وأيضا لاعتقادهم بأن عامل النظافة ربما يتوافر أكثر في هذه المعاصر، مقارنة بالمعاصر التقليدية»، لافتا إلى أن المعاصر التقليدية تعمل أربعة أشهر فقط في السنة تبدأ من موسم الخريف، وهو موسم جني ثمار الزيتون من الأشجار، إلى بداية فصل الشتاء.. ومع أن العمل فيها يبقى موسميا، فإنها تعد مصدر رزق لكثير من الأسر، ولذا هناك خشية جدية من إغلاق هذه المعاصر أو انقراضها.