بين البلدين ترابط عميق منذ الأزمنة القديمة، وظلت الهجرة بين البلدين حيوية ولاسيما في الظروف الصعبة. العودة إلى الماضي أمر مهم لاستنباط الدروس وليس بهدف العيش مع الأسلاف والاصطفاف مع أحدهم ضد الآخر، أو جرّ خلافاتهم إلى الحاضر بهدف تسميم حياة الشعوب. فأن نعود إلى الماضي فمن أجل فهمه واستيعابه، وإعطائه الفرصة لكي يتنفس ثم نعمل على تفكيكه وإبطال مفعوله الأيديولوجي القاتل، وأن نجعل من تلك الأحداث مادة علمية وفنّية للإمتاع والمؤانسة وبث ثقافة التضامن والتعاون وليس لنشر ثقافة الكراهية والعنصرية. إن هذا الوضع الشاذ هو أقرب إلى اللغز لمن يجهل المعطيات والسياقات التاريخية، ويجهل العوائق الأيديولوجية والسيكولوجية التي حالت دون تقارب الدولتين. وحتى ننجح في فك طلاسم هذا الوضع الشاذ يجب أن نتوغل عميقا في نفسية ووجدان هذين الشعبين، وحتى نفهم دوافع وخلفيات هذا الجفاء يجب أن نفهم مشاعر الحب بين الشعبين، وهي مشاعر محفوفة بالخوف أيضا. يحتاج الأمر إلى ورشات بحثية متعددة التخصصات العلمية. كيف نجم هذا الحب ونجم معه الشعور بالخوف؟ كان الخطاب الملكي مفعما بمشاعر الود، كما لو أنه يريد أن يثير الانتباه إلى أمر جلل يجب أن تتضافر الجهود من أجل إبطال حدوثه، وأن الجفاء الذي طبع العلاقة بين البلدين بلغ منتهاه، وقد آن أن ينخرط الكل في حملة إسعاف لإنقاذ ما تبقى من العلاقة، لإنقاذ نبل المعنى الذي يجب أن تنطوي عليه علاقة شعبين شقيقين وجارين. الخطاب الملكي الأخير نجح في رج جدار الجفاء بين المغرب والجزائر، ودفع حالة الجفاء إلى الخروج من آخر تخندقاتها. وكان الرد الجزائري عمليا هذه المرة، وكان لصاحب القرار من الشجاعة أن يرد بشكل صريح وأن يقرر قطع العلاقة كليا. ويبدو أن الجزائر والمغرب كلاهما في حاجة إلى اعتراف الآخر. لا شك أننا نفتقر إلى ثقافة وتقاليد الاعتراف. كيف ومتى يعترف كل طرف بوجود الآخر وبأهميته وبسيادته؟ كلنا نؤمن أن العلاقة ستعود حتما، وستعود على أسس صلبة. لكن كيف ستعود؟ أعود هنا إلى حالة الشعور بالخوف الذي استفحل بين بلدين يكن كلاهما الحب للآخر، وينتظر منه الاعتراف ليس بالحب، بل بالاحترام. وفي اعتقادي، كان الخوف ناجما عن السياق التاريخي الاستثنائي الذي تحقق فيه استقلال البلدين. لم تكن النخب السياسية والفكرية في البلدين على إلمام بالسياسة في معناها الحديث، ولم تكن قد استوعبت مفهوم الدولة في سياقه التاريخي الحديث. تلك النخب وهي تدخل غمار الاستقلال لم تكن قد تحررت من التمثلات القديمة للدولة، كما لم تكن تتوفر لا على المهارة السياسية (Le savoir faire politique) ولا على الكفاءات والإمكانات التي تسمح لها بتدبير الحكم وفق ما تقتضيه روح العصر. كانت تلك النخب تعاني من الجهل، وبالتالي من الخوف: الخوف من الفشل على الصعيد الداخلي، والخوف من الجيران. كان كل طرف ينتظر احترام الطرف الآخر، والاحترام يترجم الاعتراف. من جهتي، لم أنزعج من القرار الجزائري القاضي بالقطيعة الدبلوماسية. لقد شعرت بالارتياح بهذا القرار، من منطلق أن الشيء إذا وصل حده انقلب إلى ضده. هذه القطيعة مهما كانت قاسية على البعض، ومهما كانت انعكاساتها سلبية على الدولتين، فإنها ستضع كلا الطرفين على محك اختبار حقيقي، وستكون مدخلا حقيقيا إلى طرح الأسئلة النوعية والبحث عن أنجع الطرق المؤدية إلى التفاهم. من زاوية أخرى هل العلاقة المغربية الجزائرية هي وحدها تعيش أزمة؟ لماذا لم تتطور العلاقة الجزائرية التونسية؟ والعلاقة التونسية الليبية؟ والعلاقة الجزائرية الليبية؟ والعلاقة المغربية الموريتانية؟ والعلاقة الموريتانية الجزائرية؟ هذه العلاقات كلها بين بلدان جارة، وهي علاقات ظلت تراوح مكانها، باستثناء الحدود البرية المفتوحة. العلاقة المغربية الجزائرية، ليست الوحيدة المتأزمة، فكل العلاقات الأخرى تعيش أزمة، الفرق فقط في أن أزمة العلاقة المغربية الجزائرية أصبحت واضحة، وأن كل العلاقات المغاربية البينية تحتاج إلى تحليل ومعالجة وتصحيح. *كاتب جزائري