يقول "حميد لشهب" فى تقدمته لترجمة كتاب "جدلية العلمنة والعقل والدين " :"نحن نعيش مرحلة إنتقالية فى تاريخنا فلا يجب بالضرورة أن نضحى فيها بالمزيد من الدماءالمسلمة ، لكى نمر فى تاريخنا من مرحلة إلى أخرى، لكى نطور مجتمعاتنا من الداخل ،ونحصنها بترسانة من المبادىء، تمكنها من قطع المسافة التى تفصلها عن المجتمعات المتقدمة تقنيا بأقل التكاليف البشرية ، سواء أكانت على شكل حروب ونزاعات داخلية أوخارجية، فلا يجب التشبث الأعمى بالتراث ، والدفاع عن الطالح والصالح منه،أى لايجب تمجيده كما لا يجب ضحده أو رفضه " [1] ص30 من هذا المنطلق يجب على الدين والعقل أن يتلاقى ويتكاملا مع إلتزام كل واحد منهما بحدوده من أجل الوصول لطريق إيجابى تكون منه نقطة إنطلاق لنهضتنا ، لعل هذا الكلام هو ما حاول محمد عابد الجابرى ، تدشينه بمنهجية علمية ،على مدى خمسة عشرة عاما ، من النقد لبنية وتكوين "العقل العربي" ، المتشرب لهذا التراث حتى الثمالة ،الجابرى عالم فكرى قائم بذاته ، كانت جدالية "العقل والدين " ،همه الأساسي ، وشغله الشاغل ،الجابرى المهموم "بعقلنا " جميعا إعتمد على منهجية البنيوية التكوينية لتشريح منتوجات هذا العقل ،الذى أعياه أعباء تركته الثقيلة ، المهترئة ،المليئة بالثقوب،يرى أن نقد العقل جزء أساسى وأولى من كل مشروع للنهضة ، مشيرا إلى أن نهضتنا العربية الحديثة جرت فيها الأمورعلى غير هذا المجرى ، ولذلك تعثرت حتى الآن ، رغم ذلك لم يدعوالجابرى إلى قطيعة إبستمولوجية مع التراث ،إنما مشروعه قائم أساساعلى تفنيد التراث ، هو مؤمن أن تراثنا الفكرى، قابل للتجديد والتحديث، لذلك كانت محاولته البحث عن إنطلاقة نهضوية من خلفية تراثية . يقول الجابرى :"إن التحرر من التراث معناه إمتلاكه ومن ثم تحقيقه وتجاوزه ، وهذا ما لا يتأتى لنا ، إلا إذا قمنا بإعادة ترتيب العلاقة بين أجزاءه من جهة وبينه وبيننا من جهة أخرى ، بالشكل الذى يرد إليه فى وعينا تاريخيته، ويبررنسبية مفاهيمه ومقولاته " .
هل يمكن بناء نهضة بعقل غير ناهض؟
الجابرى يرى أن العقل العربى عقل غير"ناهض" وبالتالى لا يمكنه بناء أى نهضة ، إلا بمراجعة شاملة لآلياته ، تصوراته، مفاهيمه ، ففى كتابة "تكوين العقل العربى" يبحث الجابرى عن مصادر تكوين هذا "العقل" بادءا من تعريف العقل بوصفه الفكر أداة للإنتاج النظرى ، صنعتها ثقافة معينة لهاخصوصيها هى الثقافة العربية بالذات00 بكل ما تتضمنه من تاريخ ،يعكس ماضيهم ،وحاضرهم ،ومستقبلهم ، كما يعكس أسباب تقدمهم وعوائق تخلفهم ".[2] 00 كل ما يريده الجابرى هو تحليل وفحص هذا الفكر بوصفه أداة للإنتاج النظرى وليس بوصفه "منتوج" أو محتوى . التحرر من أسر القراءات السائدة العقل الذى يعنيه الجابرى هو "العقل الذى تكون وتشكل داخل الثقافة العربية ، فى نفس الوقت الذى عمل هو نفسه على إنتاجها وإعادة إنتاجها ، فإن عملية النقد المطلوبة أو على الأقل كما نريدها أن تكون، تتطلب التحرر من أسر القراءات السائدة، واستئناف النظرفى معطيات الثقافة العربية والإسلامية ، بمختلف فروعها دون التقيد بوجهات النظر السائدة " 0[3] العقل العربى يتقبل المشاهد الفكرية مثل الطفل "الرضيع" للأسف يعيب الجابرى على العقل العربى تقبله المشاهد الفكرية بنفس الطريقة التى يتقبل بها الطفل "الرضيع" المشاهد الحسية البصرية التى تتراىء أمام عينيه مشكلة عالم خاص يفتقد للبعد الثالث . [4] تداخل الأزمنة الثقافية العربية خلق ظاهرة "المثقفون الرحل " الجابرى لمس مأزق خطير يعانيه الكثير من المثقفين العرب أطلق عليه "المثقفون الرحل"أى المثقفون الذين يرحلون عبر" الزمن الثقافى" العربى من المعقول إلى اللامعقول من اليسار إلى اليمين بسهولة لا تكاد تصدق ، "نلمس ذلك فى فكر حسن حنفى ومحمد عمارة " مشيرا إلى قفزهم على صعيد المواقف المبدئية حول قضايا "الوحدة "و"الإشتراكية" و"الإسلام و"الديمقراطية" و"العروبة "و"العلمانية " وهى القضايا الرئيسية فى الفكر العربى المعاصر ، كما أن ظاهرة الترحال لا تكتسى صورة التراجع والتوبة فحسب بل تتخذ مظهر أخر قوامه تغيير الإتجاه عند كل لحظة معرفية مما يؤكد أن المشكلة فى عمقها ليست مشكلة تقلب الإختيار على الصعيد "الأيديولوجى" وإنما هى أساسا مشكلة إنعدام الإستقرار الإبيستمولوجى "المعرفى "مشيرا إلى أن أجدادنا كانوا إذا أدلوا برأى ختموه بالقول "الله أعلم "أى أن المسألة فيها قولان ".[5]ص45 الجابرى يدعوا إلى إعادة كتابة التاريخ بصورة تعيد عليه تاريخيته قائلا : " التاريخ الثقافى العربى السائد الآن هو مجرد إجترار وتكرار وإعادة إنتاج ، بشكل ردىء لنفس التاريخ الثقافى ،الذى كتبه أجدادنا تحت ضغط صراعات العصور، التى عاشوا فيها، وفى حدود الإمكانيات العلمية والمنهجية ، التى كانت متوافرة فى تلك العصور، وبالتالى فنحن مازلنا سجناءالرؤية ، والمفاهيم والمناهج القديمة ، التى وجهتهم مما يجرنا دون أن نشعر إلى الإنخراط ، فى صراعات الماضى ومشاكلة، وبالتالى النظرإلى المستقبل بتوجيه من مشاكل الماضى وصراعاته " 0 [6] مشيراإلى أن التاريخ الثقافى العربي، كما نقرأه فى الكتب، والمدارس ، والجامعات ، هوتاريخ فرق،تاريخ طبقات،ومقالات،إنه تاريخ مجزأ،تاريخ الإختلاف فى الرأى، وليس تاريخ بناء الرأى ،فطريقتهم فى التأريخ هى نفسها جزء من التاريخ لذلك لا معنى للومهم ، إنما اللوم كل اللوم علينا لإنقيادنا الأعمى مما كان نتاج لظروف تاريخية خاصة ، وتعاملنا معه وكأنه حقيقة مطلقة . العقل العربى تشكل منذ عصر "التدوين " فقا لرؤية الجابرى فالعقل العربى تشكل ووضعت أسسه منذ عصر "التدوين" ذاك العصر الذى جمعت فيه الأحاديث ، وتفاسير القرآن، وبداية كتابة التاريخ الإسلامى ، كما وضعت فيه أسس علم النحو ،وقواعد الفقه ، وتشكلت فيه الفرق والمذاهب ، هذا العصر وحسب رؤية الجابرى يمثل نقطة البداية لتشكل منظومتنا المعرفية جميعا 0 حيث يرى أن العقل العربى إكتمل تكوينه فى هذا العصر ولم يتغير حتى الآن فمازال يعيش بعقول أسلافه، لذلك يرى أن العقل العربى هو عقل "فقهى" بإمتياز، يقول الجابرى : " الفقه أثره قوى فى المجتمع العربى والإسلامى ليس فقط على مستوى السلوك العملى للفرد والجماعة وهو الشىء الذى يستهدفه أساسا إنما فى السلوك العقلي "[7] يعنى بذلك طريقة التفكير والإنتاج الفكري آليات العقل العربي "القياس" عندما وصف الجابرى العقل العربي بأنه "فقهى " كان يقصد الآليات التى يعمل بها هذا العقل ألا وهى " القياس " التى تعتبرليست فقهية ولكنها نشأت فى علم الفقه وأصوله . كما يرى أن الفقه منذ زمن الإمام الشافعى ساد على العقل ، خلافا لما كان عليه الحال مع الإمام أبى حنيفة ، حيث كان المشرع هو "العقل " ، فمع الشافعى أصبح العقل العربى عقلا "نصوصيا " لا هو مرتبط بالواقع وقضاياه ، ولا هو مرتبط بالطبيعة والتاريخ . أرجع الجابرى المنظومة الفكرية التى يتشكل منها العقل العربى ، إلى ثلاث مناهل "البيان " و"العرفان " و"البرهان" وأشار: إلى أن علوم البيان تشتمل على النحو ،والفقه ، والبلاغة ،وعلم الكلام ، هذه العلوم تشكلت فى عصر التدوين دفعة واحدة ، بهدف الحفاظ على قراءة النص القرآنى ،على أساس سماعى قياسى نظرى 0 وكما يرى الجابرى تضم علوم البرهان : "المنطق" و"الرياضيات" و"علوم الطبيعة" مشيرا إلى أن بداية هذه العلوم الأولى كانت عند أول فيلسوف عربى الكندى ثم الفارابى وأنهاإذدهرت فى المغرب الإسلامى، مع ابن رشد، وابن باجه ، فى الفلسفة، وابن حزم ،والشاطبى، فى الفقه، وابن خلدون ، فى التاريخ ، فى حين سيطر"العرفان والبيان " فى المشرق مع الغزالى ،وابن تيمة ، مشيرا إلى أن هذا الإذدهار للبرهان فى المغرب ، لم يدوم بل إنطفأ، وساد المصالحة بين البيان والعرفان ، طوال عصور الإنحطاط الاعقلانية التالية مع سيادة الصوفية والطرقية . يقول الجابرى :" الزمن حاضر ساكن وإذا غاب عن وعينا جزء منه ،فغيابه يكتسى صورة الغياب المكانى الحسى ، لا المعنوى ، الغياب الذى يزول بعودة الحس ، وهكذا يتناوب الماضى مع الحاضر، على ساحة الوعى العربى ، بل قد ينافس الأول منهما الثانى ، منافسة شديدة حتى ليبدو وكأنه هونفسه الحاضر، يدل ذلك على أن تاريخ الفكر العربى لم يكتب بعد، وتاريخ الثقافة العربية فى حاجة إلى إعادة ترتيب " [ٍ8] يرى الجابرى أنه إذا لم نكن على معرفة دقيقة بالتراث وأهله فلن نتمكن من نشر "الحداثة "فيه ولم نستطيع التجديد وتدشين عصر "تدوين "جديد لذلك طالب المحدثون ألا يحدثوا أنفسهم ، بل يجب أن ينشروالحداثةعلى أوسع نطاق والنطاق الأوسع هو التراث لاشك أن مشروع الجابرى يهدف إلى إنتاج فكرناضج حيادي رصين فكر وعى ذاته إجتاز مراحل العصيبة والتشدد والإنغلاق إلى أفق أرحب وأوسع وأسمى فكر مقر بحرية المعتقد وحرية الرأى خالقا مبدأ للتسامح الديني والفكري . لقد غاب الجابري ومعه محمد أركون ولكن تبقى أسئلتهما النافرة باقية مقلقة ثبات هذا التراث الثاوى المتجمد عله يأتى اليوم فيجد آخرين يعيدون إبتكارة وتجديدة وذلك إنطلاقا من مبدأ أنه " لا حداثة إلا بعبور هذا الطريق " . لنبقى هنا ولنتناول فى مقالنا القادم العقل العربى "العملى " فى فكر الجابرى والرؤى النقدية لفكره . مصادر 1- كتاب " جدليةالعلمنةالعقل والدين "تأليف يورغن هابرماس وجوزيف راتسنغر،ترجمة حميد لشهب ،صادرعن دار جداول للنشر ،بيروتلبنان ، الطبعة الأولى إلكترونية ، ص30 2- كتاب "تكوين العقل العربى" ،محمد عابد الجابرى ، إعداد مركز دراسات الوحدة العربية ، نسخة إلكترونية ، ص13،ص14 3- نفس المصدر السابق ص5 4- نفس المصدر السابق ص46 5- كتاب "تكوين العقل العربى " ،محمد عابد الجابرى ، إعداد مركز دراسات الوحدة العربية ، ص45 6- نفس المصدر السابق ص46 7- نفس المصدر السابق ص 96 8- نفس المصدر السابق ص44