قبل أن أشغل منصب حارس عام للخارجية، سمعت عن أناس تعرضوا للضغط والتأنيب فقط لأنهم كانوا في موقع ضعف أمام محاوريهم.. منهم الطالب الأستاذ الذي صرح علانية أن آراء محاوره موثقة بالنظام التعليمي الكندي، ما عرضه للإهانة أمام الحاضرين، لأن "الخطيب" دكتور لا يناقش.. ومنهم رئيس المؤسسة الذي اجتهد واقتنى آلة استنساخ خارج ميزانية الاقتصاد، فقيل له "هذا ماشي قانون آأستاذ". منهم كذلك الإطار الإداري الذي ضُبط يتناول الشاي بمكتبه فقيل له "هذه ليست محلبة".. منهم المدير الذي طرق البوليس بابه ليلا ليقولوا له: "كيف تنام يا أستاذ وقد رُسم علم إسرائيل على سور المؤسسة؟؟". وآخرون كثر... الذين لم يستسيغوا الأمر ودافعوا عن أنفسهم قيل لهم: "لا، ماهكذا تؤكل الكتف، فإن اللجان إنما تستفز الناس، ولا يجب عليكم أن تستجيبوا للاستفزاز.. إنها ملاحظات شكلية فقط.. "اللي قالها المخزن هي اللي كاينة".. عندما التحقت بعملي الجديد، انخرطت بجد في مختلف العمليات، من تنفيذ وإنجاز وترتيب وتصنيف وتصحيح.. اعتقدت أن الأمور هكذا تمشي.. بعدها تبين لي أن الذين يتقنون "الشفوي" أفضل بكثير من الذين يعملون.. تبين لي الفرق بين الإداري "حمار الناعورة" الذي يعمل كثيرا ولا يتقن الشكليات، والإداري "الحقيقي" الذي لا يدع مجالا لأية ملاحظة من أي كان.. طالما تذكرت رئيس المصلحة الذي قال لي يوما "Il faut apprendre à parler".. تأخر التكوين النظري والميداني، ولما حضرت لأولى المصوغات، بدأ الكل يتكلم عن الشكليات، فالتكوين شكلي، والأنشطة التقويمية شكلية، والتقرير العام الذي سوف نعده في آخر المطاف شكلي.. هي أمور لابد من اجتيازها.. هكذا اتفق الجميع، بما في ذلك السادة الأطر الذين تكلفوا "بتلقيننا المعارف الإدارية".. بل أكثر من ذلك، فقد "علمونا" بأن اللجوء إلى التغيير من دون إشراك الآخرين حماقة، حتى ولو كنا على صواب و"الآخرين" غير ذلك. لأننا في زمن التكتلات، والعبرة في أيامنا هذه باللوبيات وليس بمدى أحقيتنا بهذا المطلب أو ذاك القرار. فالمنصب الإداري إذن شكلي أيضا.. والحل، كما قيل لنا، يكمن في حسن الإصغاء والتواصل ومحاولة الإقناع.. أكثرمن ذلك، فقد تراجعت الإدارة عن إلزامية إنجاز بحث ميداني من طرف الأطر الجدد، فقط لأن الإخوة "اتفقوا" على رفضه، وقضي الأمر الذي فيه تستفتيان.. تلك أيام مضت بما لها وما عليها. اليوم، وخلال مناقشة التقرير العام، تمت مؤاخذتي على أمور سأذكرها، قد يعرضني البوح لعقوبة أدناها إعادتي إلى مكاني الطبيعي بالفصل الدراسي، حيث لم أتعرض ولا يوما واحدا لأية إهانة مثل الذي حدث هذه السنة.. ففي صبيحة 27 يونيو 2013، وفي خضم نقاش محصلات عام دراسي كامل بما تخلله من عمل وتعلم وإيجابيات وسلبيات أيضا، وكذا التقرير العام الذي أعددته، نشب خلاف جذري بيني وبين مخاطبي، إذ اعتبرت الفقر مسببا من مسببات العنف داخل الفضاء المدرسي، فقال مقاطعا: هذا غير صحيح، فحتى الأغنياء يقتلون الناس بسياراتهم في الطرقات.. لم أفهم ساعتها العلاقة بين العنف المدرسي والقتل في الطرقات، فالمؤسسة التي أشتغل بها لا تلجها سيارات باستثناء عربات لنقل الرمال والإسمنت ومواضيع الامتحانات... أضاف السيد.... أنه وجب علي مراجعة أفكاري والتعمق في الأمر... - ولما سألني عن كيفية التعامل مع التلميذ العنيف، ركزت في ردي على التواصل، فاجأني بأنني "سطحي" ولابد لي من التعمق والتدقيق، إذ وجب اللجوء إلى الزجر أيضا لتقويم سلوك التلميذ العنيف، كما قال.. لما خرجت من هناك ومشيت الهونى ببلاهة في الشارع العام غير مستسيغ لما تضمنته كلمات محاوري، عدت إلى تلك المصوغات البلهاء التي تؤكد على التواصل والإقناع، فكرت في المراسلات والمذكرات الوزارية التي لا أعلم لها دعوة إلى الزجر.. وقلت في نفسي: "ربما لو أجبت بأن الزجردواء للعنف المدرسي فلربما اتهمني محاوري بالإرهاب، من يدري؟ فهو الذي يسأل وأنا الذي أجيب، و"اللي قالها المخزن هي اللي كاينة".. لما عرج النقاش على الشراكات، صرح السيد أنه انتظر مني مناقشة وضعية واقعية لعقد شراكة وليس مجرد الكلام.. ونحن لاحظنا خلال فترات التكوين أن عددا كبيرا جدا من السادة مديري المؤسسات ليسوا متحمسين لعقد شراكات، وكانت مبرراتهم واقعية مقبولة.. فهل أعقد أنا شراكة في حين يتجنبها رؤساء المؤسسات؟؟ وعند مناقشة الغياب، قلت لمحاوري بأننا فقط ثلاث أطر إدارية بمؤسسة تأهيلية بها سلك إعدادي، وبأن الغياب وحده (تسجيله وتحيينه وتدبيره) يأخذ مني وقتا مديدا وجهدا كبيرا لا يدع معه مجالا كافيا لمجرد التفكير بأمور أخرى، فعاتبني علىهذا التصريح وقال: إن الغياب عملية سهلة بمكان، ولا يجب اعتبارها حجة لعدم الانخراط في عقد شراكات وإنجاز أنشطة... أمر آخر ليس بأقل أهمية، أفضل تجنب الحديث عنه في الوقت الحالي، إذ أن الخوض فيه يسيء لغيري.. وأتمنى عدم إجباري على البوح أكثر.. انتهى اللقاء، وفي خضم إعدادي لهذا البوح، صادفت إطارا إداريا وأسر إلي بأن السيد (.....)، (يعني ممتحني) ألقى يوما كلمة جعلتنا ننظر إلى بعضنا البعض ونخفي ضحكاتنا.. فيا أيها الملأ أفتوني في حالتي إن كنتم لمثل هذه الحالات تعبرون.. ملاحظة: امتناني الصادق للمحاور الثاني الذي أنقذ الموقف مرتين بتدخلاته، وإلا لربما جهرت بفكرة ظلت تجول بخلدي طيلة أكثر من نصف ساعة من الضرب والجرح "اللفظي".. بقلم: محمد ﯖيالي