عديدة هي الخدع البصرية التي يلافيها الإنسان في حياته اليومية فتوهمه بصدقيتها، و تغره مظاهرها الخارجية ببريقها مالم يستقصي كنهها و يهتك حجبها. من ذلك، مثلا، ظاهرة السراب الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، و مركزية الأرض بالنسبة لباقي الكواكب بما فيها الشمس، أو الظن بانبساط سطح الكرة الأرضية و استوائه. و حتى ساعة اليد أو الحائط المعطلة تشير عقاربها مرتين يوميا إلى التوقيت الصحيح... !! و ما تلك إلا عينة من الدروس البالغة التي تقدمها الحياة اليومية للإنسان العاقل عساه يبتعد عن الإنبهار بالقشور السطحية لأي ظاهرة كيفما كانت، و تجنب ممارسة الإسقاط عليها إنطلاقا من حالة مشابهة دون الأخذ بعين الإعتبار إختلاف شروطها و شكل حركتها و سيرورة تكونها كل واحدة على حدة. و الأمر في مجال السياسة، كما في أي مجال آخر، ليس بمنجى عن هذه القاعدة، إن لم يكن أكثر تعقيدا و تشابكا. لا بل إن من ضمن أكثر الأشياء التي آخد عليها فلاديميرلينين "اليساريين" محترفي لوثة "الجملة الثورية"، غضهم الطرف عن حقيقة : "أن جميع الحدود الفاصلة سواء في الطبيعة أو في المجتمع، هي حدود متحركة، و أنها نسبية لدرجة معينة."(1) إذ إن ما قد يبدو، عن سوء قراءة و تقدير، موقفا صحيحا –أقله على صعيد الظاهر من الأحداث أو الأفعال– يكون بعين الوعي النظري، التي تغوص إلى جوهر الواقع و لا تنخدع بظاهره الحدثي، انحرافا أو خيانة مدوية. و السبب أن جميع الأشكال و العناصر القديمة و المفاهيم النظرية تمتلئ بمضامين جديدة، و تتبادل مواقعها و مواقفها باستمرار، ما يتطلب مواكبتها بالدراسة و التحليل، مع التركيز على علاقة الواقع بالفكر و مفاهيمه العلمية، و كيف تتغير مضامينها الطبقية بارتباط مع الحركة الدائمة للواقع الذي تعكسه. وهنا سنحاول مناقشة أحد هذه المفاهيم كثيرة الإستعمال من قبل الكتاب و المدونين، رغم أنه قلة قليلة منهم فقط من توظفه في محله. ألى و هو مفهوم الرجعية. لا يستحسن، في نظرنا، تحديد معنى مفهوم الرجعية استنادا إلى الإختيار الإيديولوجي للفرد أو الجماعة –موضوع التقييم-، لسببين على الأقل ; الأول : لخطأ ذلك المنهج الذي يكتفي بالتنقيب عن الحقيقة في الأفكار و لا يوسع مجال بحثه ليشمل العلاقات المادية و الممارسة العملية. أي أنه يجعل الوعي محددا للوجود الإجتماعي و ليس العكس، فيبدو له البشر مقلوبون على رؤوسهم. بينما الأسلم أن "لا يحكم على الناس وفقا لآرائهم عن أنفسهم، بل وفقا لسلوكهم السياسي"(2). الثاني : لورود إمكانية التداخل بين الخطابات في مرجعياتها و قناة إتصالها، وحضور أحدها في بنية خطاب الآخر بشكل "يمكن تتبعه على مستوى البنية و السرد ، إن لم يكن على مستوى "المنطوق و المفهوم" كذلك. هذه الحقيقة البديهية البسيطة ترتد إلى حقيقة أن الخطابات –في سياق ثقافي حضاري بعينه- تشترك إلى حد كبير في طبيعة الإشكاليات التي تحدد منطوقها و مفهومها و بنيتها."(3) و الخطاب الماركسي نفسه لا يسلم من أسر تبادل التأثير و التأثر بخطاب الخصم خاصة مع التهاون في إعمال مبدأ الحد المعرفي الفاصل. الرجعية ليست صفة عضوية لصيقة بطبقة معينة، أو مختصة بفترة السيادة الطبقية. بل هي مرحلة من تعطيل تطور قوى الإنتاج أو محاولة الرجوع بها للخلف، تصير إليها كل طبقة اجتماعية لدى بلوغها طور الأزمة فيما يتمرأى لها حلا للتناقض الحاصل بين علاقات الإنتاج و القوى المنتجة يسعفها في تجديد و تأبيد سيطرتها السياسية كطبقة أضحت لا مجدية بميزان منطق التاريخ. إذن فهي بدء : إجراء اقتصادي و سياسي لكنه يتخذ منحى المحافظة و العداء المزمن للتقدم. فيكتسب الصراع بذلك شكله الإيديولوجي. لكن هذا لا ينفي –بل يؤكد- واقع تأثر العديد من الحركات السياسية و المجتمعية بتلك المقولات الظلامية عن صراع "التجديد و التقليد"، "الأصالة و المعاصرة"، "العقل و النقل"،...و الدفاع عن "أمجاد الماضي التليد". إلا أن الأساس المادي هنا يختلف عنه في الحالة الأولى الأصل. إذ ليس ثمة من سيادة طبقية يجري الدفاع عنها أو موقع سياسي/سلطوي تطمح لتأبيده. بل الأمر يتعلق فقط إما بضلال و تيه معرفي ناتج عن كثافة الضخ الدعائي العدائي الذي تعرضت جراءه لغسيل ذماغ شامل، أو استعارة واعية لتلكم الشعارات بغاية التسلق الطبقي سلميا كوهم بورجوازي صغير. و في كلى الخيارين يمكن ملاحظة خلافات جوهرية بين هذه الحركات بعضها البعض، و حتى فيما بين كوادر الواحدة، في تنزيل شعاراتها على أرض الواقع و صياغة برنامج سياسي للحكم. ما يزيد في تعرية موقعها الإجتماعي الوسطي، و يعزز ضرورة فصلها و تمييزها، كظاهرة طارئة، في نشوئها و مغزاها عن رجعية الطبقات السائدة في التاريخ. و بتعبير مهدي عامل : "ليس كل فكر مناهض للعقل، بالضرورة فكرا "رجعيا". بل، بالعكس، يمكن أن يكون لمناهضة العقل، في شروط محددة، طابع "تقدمي"، إذا كان هذا العقل، مثلا، عقل الإستبداد و نظامه، و يمكن، بالتالي، أن يكون للعقل، إذا كان العقل هذا العقل مثلا، طابع "رجعي" : هذا يعني، ببساطة، أن الأمور تختلف باختلاف شروطها الفعلية، و من الخطأ الحكم عليها بالمطلق، بمعزل عن هذه الشروط".(4) بالإنتقال من لجة التجريد النظري إلى نار الواقع المشتعل، أمكن القول باطمئنان و بلغة سياسية صريحة، إن الموقف من الإمبريالية و الصهيونية، هو مقياس رجعية أي حركة أو نظام من عدمها. أي أن القضية الفلسطينية في موضع القلب من الصراع الدائرة رحاه أمميا بين هيمنة العدوان و التبعية و الإستغلال.. و كفاح قوى السلم و التحرر و العدالة الإجتماعية، و الذي تمخض، في منطقة الشرق الأوسط، عن محورين : محور المقاومة و الممانعة بقيادة إيران، سوريا و حزب الله. و محور الخضوع و المساومة الذي يضم تركيا، قطر و السعودية. ففي حين يتلقى هذا الأخير دعما و تأييدا مفضوحين من الإمبريالية الأمريكية و الأوروبية، و يزيد في توسيع قواعدها العسكرية على أراضيه بما يرسخ إرتهانه لها أكثر فأكثر، و يهدد أمن الجماهير الشعبية و مقدراتها الثروية. يعمل الأول، وفق منظور استراتيجي، على تشبيك علاقاته مع مجموعة "البريكس" (روسيا، الصين، الهند، جنوب إفريقيا و البرازيل) من أجل ضمان مخزون أمنه الغذائي و تعزيز قدراته القتالية لإخلال موازين الصراع الإقليمي ضد العدو الصهيوني، و ترجيح كفتها لصالح تحرير جميع الأراضي العربية المغتصبة و إنهاء الإحتلال الإمبريالي لها. إن هذه القوى الدينية و القومية التي تقف صفا واحدا في معاداة الإستعمار سياسيا و عسكريا، لا تعود بعد رجعية بحجة غيبيتها أو تحت ذريعة شوفينيتها إلا لدى من ينشغلون بمحاكمات من النوع الرخيص للفكر و يهملون الواقع نفسه كمحدد أساسي و منتج للفكر. إنها ليست كذلك إلا عندما تقف عائقا أمام التحرر، أو تلهث لتثبيت واقع التبعية و الإستغلال بالعمالة للإمبريالية و التطبيع مع الصهيونية (نموذج "الإخوان المسلمين" و التيارات الوهابية). أما وهي تدك أعدى أعادي البروليتاريا العالمية، و تسحق بلا رحمة مشاريع الرجعية الخليجية و إرهابييها على السواء، فما على كل ملتزم فكر و مصلحة الطبقة العاملة إلا أن يشجعها على الذهاب بالمواجهة أبعد من ذلك، إلى حيث تبرز التناقضات بحدة، و تتضح التموقعات بجلاء. و يصبح في مقدور جموع الشغيلة الإنقضاض على الطرفين معا و التطويح بهما و إقامة سلطتها الشعبية. ليست القيادة الحالية (الدينية و القومية) لحركة التحرر الوطني شرا، إلا بمقارنتها مع القيادة العمالية كبديل ثوري، أما بالمقارنة مع مشيخات النفط القروسطوية و أمراء النزعة الطائفية، فهي الخير، كل الخير. و نحن إذ نعلم هذه الحقيقة التي استقيناها من التجربة، فينبغي لنا أن نضع نصب أعيينا أننا إذ ندفع هذه القوى للمضي في طريق المقاومة و الممانعة، فلا يعني ذلك البتة أن نلغي تمايزنا، أو نتخلى عن نقدها بشدة، كما لا نخدع أنفسنا بوهم بقائها وفية لنهجها حتى النهاية، لذا نسارع للتنبيه أن موقفنا هذا منها مرحلي و رهين في الأساس بموقفها هي من القضية الفلسطينية و ثالوث الإمبريالية و الصهيونية و الرجعية العربية لا أقل و لا أكثر. فما الذي يريده مثقفوا الخردة بدفاعهم عن المحور الآخر ؟ هوامش : 1- لينين، مرض "اليسارية" الطفولي في الشيوعية، دار التقدم – موسكو، ص : 60 2- لينين، في الأممية البروليتارية، دار التقدم – موسكو، ص : 49 3- نصر حامد أبو زيد، الخطاب و التأويل، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 2000، ص : 25 4- مهدي عامل، نقد الفكر اليومي، دار الفارابي، الطبعة الأولى، ص : 251 سعيد أحنصال 26/11/2012