"إن المعالجة التاريخية للحدث لا تكتسب طابعها العلمي إلا برد الحدث إلى تربته التي هي واقعه الفعلي" - مهدي عامل ، "في علمية الفكر الخلدوني" ( الطبعة الثالثة 1990 ، ص : 13 ) أمر بديهي أن يكون المرء مناهضا "للثورة" في بلد ما و مؤيدا لها - في الآن نفسه - في بلد آخر ، حتى لو بدا في الموقفين تضارب و هلهلة لمن إعتاد قراءة الواقع بعين ميكانيكية لا جدلية . فما من ظاهرة إلا و تستطيع الانقلاب إلى نقيضها إذا توفرت لها شروط ذلك مادامت جميع الحدود الفاصلة - كما تؤكد قوانين الديالكتيك المادي - سواء في الطبيعة أو في المجتمع متحركة و نسبية لدرجة معينة بشكل تستحيل معه المساواة بين "الثورات" كافة أو النظم كلها جميعا ، لا فرق فيها بين نقيض و نقيض و لو بدت على عكس ذلك على صعيد الظاهر من الأحداث .فما اكثر تلك "الثورات" المخملية الوردية الزائفة التي فجرتها الإمبريالية في بلدان عدة تبشر بالحرية و تعد بالديمقراطية و كشف الواقع عهرها الفاضح ، بدء مما سمي "الثورة العربية الكبرى" (1916) بقيادة شريف حسين و بتوجيه من لورانس العرب ، و "ربيع براغ" بتشيكوسلوفاكيا (1968) ، و "ربيع بكين" بالصين الشعبية (1989) ، و "الثورة البرتقالية" لفيكتور يوشينكو ضد فيكتور يانوكوفيتش بأوركرانيا نهاية 2004 ، "ثورة الأرز" بلبنان سنة 2005 ... و ليس انتهاء بالتدخل العسكري المباشر أو شبه المباشر : "الثورة البيضاء" التي قادتها القوى الرجعية بدعم من 14 دولة خارجية ضد سلطة البلاشفة ، أو إغتيال لويس لومومبا رئيس وزراء الكونغو الديمقراطية 1961 ، أو الانقلاب العسكري لبينوشيه ضد حكومة سلفادور أيندي المنتخبة بالشيلي عام 1973 ، أو محاربة "المد الشيوعي" في أفغانستان التي ساهم فيها العرب ب 22 مليار دولار و 50 ألف "مجاهد" سنة 1979 ، أو إختطاف هوغو تشافيز رئيس الجمهورية البوليفارية الفنزويلية و نفيه خارج البلاد ، أو الاطاحة بمانويل زيلايا في الهندوراس (2010) ... إلخ . هكذا كانت تجري خدمة مصالح الامبريالية تحت مسميات براقة تبهر الألباب ، و سيرا على المنوال نفسه يجري اليوم إفراغ "الربيع الديمقراطي" في بلاد الشرق الأوسط و شمال إفريقيا من محتواه الثوري التحرري لينصب في خدمة القوى الرجعية و الإستعمارية . فكيف و الحالة هذه يمكن التمييز بين الفعلين ؟ و مالسبيل لتفادي السقوط في هذا المنزلق النكوصي ؟ إن القراءة الصائبة تقتضي تناول كل ظاهرة على حدة بالتحليل الملموس لواقعها الملموس و عدم ممارسة إسقاط عليها إنطلاقا من حالة مشابهة . لذلك أضحى لزاما التركيز على المحتوى الطبقي لكل قضية من خلال تحديد نوعية الصراع الدائرة رحاه فيها و الكشف عن تناقضه الأساس و أطرافه و تهبيراتها السياسية كمدخل يمكن إعتماده منطلقا لمعرفة طبيعة المصالح المادية ، أي الدوافع الحقيقية ، المحركة للقوى المتصارعة و المحدد لسياساتها و ممارساتها .فقدرة كل قوة أو قوى "معارضة" على "التغيير" ، ليست غيبية فوق الإدراك و إنما تتحدد إنطلاقا من موقعها الطبقي في المجتمع ، و موقفها الإيديولوجي فضلا عن ممارساتها السياسية في حقول الصراع الطبقي : من يحتل موقع القيادة ، و تحت أي برنامج ؟ و على أساس أي تحالف طبقي ؟ و في البلدان التبعية - التي تختلف بنياتها الاجتماعية باختلاف شروطها التاريخية الخاصة بها و التي تتحدد فيها الإمبريالية و الصهيونية و الرجعية العربية كعدو مشترك - لا مناص لكل حركة ثورية من إتخاد موقف من هذا التناقض الغالب و توجيه جهودها ضد طرفه المسيطر كونيا . و يستحيل أن تتحول هذه القوى التي يقوم التغيير لتقويض مصالحها ، و التي تنتمي لمعسكر الثورة المضادة ، بدعم قوى التغيير الثوري و مساندتها . لكن بعض "اليساريين" المغاربة الموسومين بالغباء ، بتغييبهم لتلكم المحددات الطبقية ، و بإيعاز مما ينتابهم من هذيان محموم و اندفاع متحمس يعكس نفسا قصيرا و ضيق أفق تتميز بها الذات البورجوازية الصغيرة و بفعل بحثهم المستميت عن "ثورة" ( يفشون فيها خلقهم ) بأي ثمن و كيفما إتفق و لو كانت زوبعة في فنجان ، إنساقوا وراء دفوقات البروبكندا الإعلامية لدول مجلس التآمر الخليجي دون التشكيك في فحوى ما تضخه و بالأخص حول الوضع في سوريا و تعاملوا معها باعتبارها الحقيقة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها و لا من خلفها . و ينطلق هؤلاء "اليساريون" في موقفهم المساند للهجمة العالمية على سوريا الصمود و التصدي من مقارنة مجحفة يأباها منطق الحركة المادية للتاريخ ، بين النظامين في المغرب و في سوريا و من ضرورة عدم الإنتقاء في إعلان التأييد "المعارضات" في وجه "حكامها" ، فقط لأنها "المعارضة" فهي منزهة و لأنهم "الحاكمون" فهم الخاطئون !! ولو ضربنا صفحا عن التناقض الصارخ الذي يضع فيه المنطق هذا أصحابه بتنطعهم لاسقاط النظام في سوريا من جهة و الاحجام عن ذلك - تصريحا أو تلميحا - في بلادهم ، من جهة أخرى ، باعلانهم الدائم عدم أزوف ساعة الثورة ، و بالتالي عن ضرورة إرجائها إلى أجل غير مسمى . فإنهم يغفلون عن أهمية المنطقة الجغرافية التي تقع فيها سوريا ، كونها من أهم مصادر الطاقة في العالم ، و إحدى دول الطوق المجاورة لدويلة "إسرائيل" المصطنعة كقاعدة إرتكازية للامبريالية الأمريكية من أجل حماية مصالحها ما يجعلها - أي سوريا - في خط المجابهة الصدامية معها . إنه "الفهم للوهلة الأولى" لدى هؤلاء "اليساريين" و أحزابهم الإصلاحية ، أو للدقة ، فقل : هو العمى الإيديولوجي و الوهم الطبقي عندهم ما يقوم بدور العصا في عجلة التغيير الثوري الحقيقي فتستغل الامبريالية وعيهم الزائف هذا و تركبه لتحقيق مصالحها . خاصة و هم لا يفوتون فرصة إلا و يتهافتون خوفا و طمعا للارتماء في أحضانها و تسخير إمكانياتهم لتعبيد طريق الغزو أمامها كي تنهب ثروات و مقدرات الشعب السوري - و من قبله الليبي - و تصرف فائض إنتاجها بشكل يعيد "التوازن" ( الهش على أية حال ) لأسواقها الداخلية و لا يعيق السير العادي و السلس لتجارتها "الحرة" بما يخفف و يلطف حدة الأزمة الشاملة الخانقة التي تعصف بالديمقراطيات الفاحشة - و لا أقول "الليبيرالية" - من مشارق الأرض حتى مغاربها . لا غرو إذن أن تندفع الشلل اليسراوية التي إنخلعت عن الطبقة العاملة باعتبارها الطبقة الثورية حتى نهاية الشوط الأخير و ضيعت البوصلة أي ما يخلق تمايزها لتزج بنفسها في الأحلاف الاستعمارية و تستعطف حلف الناتو - الدراع الحربية للامبريالية - للتدخل العسكري و العدوان المباشر على السيادة السورية ، و تستجدي فرض حصار إقتصادي عليها و هو مالم تفعله - و لن تفعله - لصالح الشعب الفلسطيني المقاوم طوال 70 سنة من الشتات في مخيمات اللاجئين و الاقتيات على إعانات الأنروا ، كما لو أن الولاياتالمتحدةالأمريكية التي ظلوا يكتفون بنعتها أنها "مثيرة الحروب و عدوة الشعوب" كفت عن أن تكون كذلك ، لا بل و أضحت "معبودة الجماهير" ! فما أعظم الشبه بين تنظيماتنا "اليسارية" - التي في نفسها شيء من "حتى" - بالأحزاب "الاشتراكية الصهيونية" ! أو "الاشتراكية - الديمقراطية" الألمانية عشية الحرب العالمية الأولى التي تخلت عن النظرية الاشتراكية العلمية و خانت قضية الطبقة العاملة و استحالت جزء من المنظومة الرأسمالية الامبريالية العالمية ، و سخر من وضعيتها الرفيق لينين و تهكم حتى الثمالة و لم يتورع لحظة في هجوها بشدة ، إذ أصبحت لفظة "الاشتراكية" التي تلوح بها لغاية في نفسها من قبيل الاستغلال الديماغوجي . و حيث لم يكن يعترف باشتراكيتها المزعومة قائلا بصريح العبارة :"إن الاشتراكيين الصهاينة ليسوا إلا أحزابا بورجوازية" . و لم يأل جهدا لفضح عورة و توبيخ التائهين الضالين "الأنذال من شاكلة شيدمان و التافهين الضيقي الأفق من شاكلة كاوتسكي و كريسبين" زعماء "الأممية الثانية" و النصف . و مع إتفاقنا أن الوعي الطبقي ليس شرطا لازما لخوض الصراع الطبقي ، إلا أن الممارسة تلك يمكن أن تتحول - و لا بد لها و الحالة هذه من أن تتحول - إلى ممارسة خبط عشواء على غير هدى إذا لم تنر طريقها نظرية ثورية على هدي تجارب حركات التحرر العالمية ( التي أشرنا لبعضها في مستهل حديثنا هذا ) . إن قراءة الوضع السوري في سياقه التاريخي سواء العام أو الخاص يمكن أن يساعد على فهم بعض الأمور "الملتبسة"في هذا الشأن مثل التركيبة الغرائبية التي تتشكل منها قوى التآمر التي تعمل آناء الليل و أطراف النهار "لفرض" الديمقراطية على سوريا ، فقوى 14 آذار على سبيل المثال لم تستطع طوال حكمها أن تحل ولو أبسط مشاكل لبنان اليومية كمشكلة الكهرباء أو أزمة المازوت ، و السعودية هي نفسها التي أقفلت كل معاملها منذ سبعينيات القرن الماضي منعا لتمركز الطبقة العاملة ، أما الامارات ففيها يجري تجريم و تحريم الانتماء النقابي ، و قطر غير مسموح فيها بتأسيس أي حزب أو جمعية ... ، فكيف لفاقد الشيء أن يعطيه ؟ إنه و منذ إنهيار الاتحاد السوفياتي و تفكك المعسكر الاشتراكي و نهاية الحرب الباردة و القطبية الثنائية و في إطار التحولات العالمية الكبرى و الانتقال نحو نظام عالمي "جديد" متسم بهيمنة القطب الواحد بزعامة الو.م.أ. جرت عملية إدماج قسري لبلدان الهامش في منظومة العولمة و ما الغزو العسكري للعراق مطلع تسعينات القرن الماضي إلا مؤشر على ذلك سيجري بعدها الحديث عن دول "مارقة" و محور "للشر" و دول "راعية للارهاب" ليتم بموجبها تشديد الحصار الاقتصادي و السياسي على كوبا و فرض عقوبات إقتصادية على كوريا الديمقراطية و إيران ... قبل أن تنتقل المدفعية صوب سوريا التي عانت من تبعات خياراتها الممانعة طوال العقود الثلاثة الماضية ، أي منذ اللحظة التي فرت فيها "قوات الردع العربية" من لبنان الحرب اليومية و بقيت هي لوحدها تقاوم الاجتياح "الاسرائيلي" و تحارب النهج الكتائبي الفاشي بمعية القوى الوطنية الديمقراطية اللبنانية لتتوالى بعدها الأزمات المفتعلة لارباك النظام و دفعه لتبني خيار المساومة و التطبيع الذي سارت على ركبه "دول الاعتلال العربي" كافة : ( إتهام سوريا باغتيال رفيق الحريري و التهويل عليها بالمحكمة الدولية ، قصف إسرائيلي لما قيل إنها منشاة نووية ، قصف أمريكي لقرية سورية على الحدود العراقية ، إستقبال سوريا للاجئين عراقيين و اتهامها بدعم المقاومة العراقية ، حرب تموز 2006 ، غزو العراق 2003 ، ... ) . ورد في إحدى وثائق الأممية الشيوعية مايأتي : "من الضروري الفضح الدائب أمام الجماهير الكادحة في جميع البلدان المتخلفة ، لعملية الخداع المنظم الذي تمارسه الدول الامبريالية بمساعدة الطبقات السائدة في البلدان المضظهدة ، و التي تتظاهر بالدعوة لاقامة دول مستقلة سياسيا ، فيما تقيم في الواقع دولا تابعة لها كليا من جميع النواحي الاقتصادية و المالية و العسكرية ." فمتى ينتقل المتياسرون المغاربة و تنظيماتهم الهجينة من مستوى الانفعال بمظاهر الواقع السطحية التي لا تنتج سوى تصورات و تمثلاث غاية في الإجحاف و الرداءة معا ، إلى مستوى التحليل الشامل للوضع السوري ، و "للربيع العربي" ككل ، من كافة جوانبه و تدرك أنه مجرد نسخة كاريكاتورية مزيدة و منقحة لسايكس - بيكو ؟إن معارضة حزب البعث و نظامه السياسي ، لا ينبغي أن يدفعنا لتمجيد و التهليل للطرف الاخر بشكل يحجب عنا سلبياته الجليلة ، خاصة و نحن ندعي إمتلاك منهجية علمية في تحليل الواقع و تغييره . سعيد أحنصال 23 / 02 / 2012