أوروبا تتخلص من نفايات الأزمة المالية العالمية على حساب الشعب اليوناني يبدو أن الصندوق نفسه حائرٌ أمام المعطيات المعقدة لمؤشرات أداء الاقتصاد العالمي في تقريره الأخير حول الاقتصاد العالمي الذي صدر الشهر الماضي قال صندوق النقد الدولي أن الاقتصاد العالمي سينمو هذا العام بمعدل أسرع مما كان متوقعاً ليحقق نسبة نمو قدرها 2.4%. وان الاقتصاديات الصاعدة، خاصة في آسيا، ستكون المحرك الأساسي لهذا النمو، حيث ستحقق الاقتصاديات الآسيوية الصاعدة نسبة نمو قدرها 7.8% في المتوسط (والصين وحدها 10%)، بينما سيكون النمو باهتاً جداً في بلدان منطقة اليورو، حيث لن يتجاوز 1%، ومعقولاً جداً في الولاياتالمتحدة، حيث يُتوقع أن يبلغ 1.3%. بيد أن الصندوق يستدرك ليحذر من التالي- مشكلة تزايد مستويات الديون الحكومية - استمرار تراجع القروض المصرفية - ضيق حيز المناورة في كثير من الاقتصاديات المتقدمة بعد أن استنفدت الحكومات كافة خياراتها واستخدمت كافة أدواتها المتاحة لإحداث التصحيح الاقتصادي لما أحدثته الأزمة المالية وتداعياتها، أو أن هذا الحيز أصبح محدوداً جداً -وهذا هو مصدر القلق الرئيسي الذي عبر عنه الصندوق. ويبدو أن الصندوق نفسه حائراً أمام المعطيات المعقدة لمؤشرات أداء الاقتصاد العالمي. فهو في الوقت الذي يشدد فيه على ضرورة العمل على خفض الدين العام، فإنه في ذات الوقت يناشد الدول المأزومة بألا تبدأ في خفض إنفاقها قبل العام المقبل. رئيس البنك المركزي الأوروبي، الفرنسي، جان كلود تريشيه أضاف في أحد تصريحاته الأخيرة تحدياً آخر لا يقل عن تلك التي وردت في معرض التقييم العام للاقتصاد العالمي الذي أورده صندوق النقد الدولي في تقريره سالف الذكر. يقول تريشيه أن ارتفاع معدل التضخم هو مصدر القلق للاقتصاد العالمي خاصة بالنسبة لارتفاع أسعار المواد الغذائية والسلع علماً بأن التضخم وصل الشهر الماضي إلى 2.3% في منطقة اليورو، وهو ما يفوق النسبة المرجعية لنظام النقد الأوروبي المُنْشِئ للعملة الأوروبية الموحدة -اليورو- وهي 2%. فيما بلغ في الولاياتالمتحدة 7.3% في يناير الماضي، وهو الأعلى منذ عشرين عاماً.++ ولم ينس تريشيه، وهو يرى الاتجاه الهبوطي لليورو، أن يضيف بأن الاضطراب الكبير وعدم الانتظام في الحركة في نظام سعر الصرف أمر غير مرغوب فيه بالنسبة للنمو الاقتصادي. ما ذكره صندوق النقد الدولي في تقريره الأخير وما ذكره رئيس البنك المركزي الأوروبي بشأن المخاطر التي لازالت تهدد النمو الهش للاقتصاديات المركزية (الرئيسية العالمية) ينم عن أن الأزمة المالية مازالت تمسك بخناق الاقتصاد العالمي، مع بقاء ثقل الأزمة الأكبر في خانة الاقتصاديات الأوروبية والأمريكية. بل إن هنالك من يشبه، عن حق، بين انهيار مصرف -ليمان براذرز- واندلاع شرارة الأزمة المالية العالمية في غشت عام 2008 وبين الانهيار المالي لليونان.++ فاليوم اليونان وربما يكون الدور القادم على البرتغال (التي خفضت وكالة -موديز- تصنيفها الائتماني) أو إسبانيا أو إيرلندا أو إيطاليا أو حتى بريطانيا (وكلها تعاني من انحدار عامل الثقة في سنداتها التي تصدرها لتمويل قروضها وإنفاقها الجاري والاستثماري). ولا أحد يستطيع التكهن بما ستفضي إليه خطة إنقاذ اليونان التي أقرها الاتحاد الأوروبي في بروكسل قبل أيام بمشاركة صندوق النقد الدولي. حيث اهتم المقرضون الأوروبيون والصندوق، بضمان استعادتهم لأموالهم مع فوائدها من خلال شروط صارمة تتقشف بموجبها اليونان حكومةً وشعباً.++ والحال ان الأزمة المالية مازالت تخيم على القطاع المصرفي، فهي فقط غيرت شكلها من أزمة صاخبة إلى أزمة صامتة لا يجري الحديث عنها بشفافية إلا لماماً وعندما يكون -الدخان قد دَل على الحريق- في بؤرة من بؤر القطاع. قبل أيام كشفت إحدى القراءات الواردة في أحد التقارير المصرفية الإقليمية بأن -الأزمة المالية العالمية استمرت بقوة في مجال الائتمان المصرفي على الرغم من الخطوات المهمة المتخذة لإعادة تنشيط الأسواق بعد أن كان للزيادة الحادة في تكلفة الإقراض أثر ضئيل على أحجام الإقراض، وإن ائتمان المصارف في معظم البلدان بقي راكداً، وقامت سوق السندات بتعويض نسبة ضئيلة فقط من هذا النقص، مشيراً إلى أنه في ظل غياب الوساطة المالية العادية، فقد عانى الانتعاش حتى تمكن من استجماع قواه وبقي معتمداً بشكل كبير على الدعم الحكومي، في وقت بلغت فيه الديون والعجز في القطاع العام في أغلب الاقتصاديات الغربية مستويات تاريخية، ورغم أن سعر الائتمان منخفض تاريخياً، فإن القروض الجديدة بقيت عند الحد الأدنى. في الوقت ذاته، وبعد أن دفعت ثمناً باهظاً لدعم المؤسسات المالية الرائدة، فإن بعض الحكومات تواجه بشكل متزايد متاعبها المالية الخاصة، مما يدعم ارتفاع نمو الائتمان. فتخفيض الديون السيادية اليونانية إلى حد جعلها بلا قيمة تذكر يتهدد بإشعال المرحلة المقبلة التي قد تكون أكثر خطراً من الأزمة ذاتها، حيث بلغت تكاليف إقراض اليونان 18% لسندات الخزينة لمدة عامين، وهي الأعلى سيادياً في العالم. لقد شكلت حزم التحفيز المالي التي استخدمتها بإفراط الحكومات الأوروبية لإطفاء حريق الأزمة المندلع في سبتمبر من عام 2008 ساتراً نجح في إخماد الأزمة، إلا أن استحقاق دفع فواتير هذه الاستدانات التمويلية قد فرض على هذه الحكومات التوقف عن الإنفاق بنفس مستويات ما قبل الأزمة، خصوصاً وأن المديونيات قد وصلت إلى أرقام فوق الطاقات المالية (التمويلية الانفاقية لبعض الاقتصاديات الأوروبية المنخفضة والمتوسطة الحجم). وهذا ما طرح إشكالية كيفية توزيع أعباء الأزمة اجتماعياً. وحيث إنه يعز على رأس المال التفريط في مكاسبه وهوامش ربحيته مهما كانت الظروف، فلقد وقع الاختيار، على جري العادة، لإلقاء جل هذه الأعباء على العامة. وبذا تكون الاحتجاجات الشعبية اليونانية ضد برنامج خفض وضغط الإنفاق الذي فرضه كل من الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي على اليونان ثمناً لإقراضها 146 مليار دولار على مدى السنوات الثلاث المقبلة، أولى الانتفاضات على الطريقة التي اعتمدتها الحكومات الأوروبية -للتخلص من نفايات- الأزمة المالية العالمية المتداعية فصولاً.