عندما ركب الحافلة، من محطة قريته الصحراوية، لم يكن ثمة ما يؤشر على أنه سيصبح شخصا مهما. المحطة هادئة في الصباح. الطاكسيات الكبيرة ذات اللون الرمادي غير مستعدة للحراك. أغلب زبنائها من مهربي السجائر والويسكي، والجنود الباحثين عن ملذات تُذهب قهر الصحراء و السيرفيس والبعد عن الأهل. ذلك لا يحصل إلا ليلا، والليل ستار. الحافلة الصدئة، والشهيرة ب«كار الحاج عبو»، تُهرهر كأنها دبابة تستعد للإطلاق. الركاب في الداخل صامتون في وجل. صوت الجابي وحده يسيطر. من أعطاه الحق في ذلك؟ كونه يعمل على الخط عدة سنوات، أم كونه الوحيد الذي يعرف أخبار الطريق و سر الوصول؟ يرتب المسافرون أغراضهم في صمت، ويجبرون أطفالهم على الخضوع للطقس. الرجال والنساء، كل يعرف دوره. ترتب المرأة، على اليسار، أغراضها: تضع في حجرها علبة زيتون أسود و خبزة قمح، وبيضا مسلوقا؛ يبدأ تقشيره مع انطلاقة الحافلة. الزوج الأسمر، ذو الملامح الطفولية يهرول جيئة وذهابا بين الكشك والحافلة. يشتري سجائر وعلبة لانشون ومملحات. يجلس قرب زوجته، ويتهامسان بحب وفرح، ثم يقوم من مكانه على عجلة كأنه نسي شيئا. ثم يعود وقد اشترى قارورة عصير. يفتحها بسرعة. يدفع بجرعة، أولى، عبر حلقه فيتذكر أنه نسي بقية النقود عند صاحب الكشك. ينزل مهرولا فزعا. تطل زوجته من النافذة قلقة. يعود لمكانه ويعد نقوده فتتنفس زوجته الصعداء. ينظران لبعضهما في صمت كأنهما يصليان حمدا لله. يشعر هو برجولته فيشعل سيجارة، ويتكئ على المقعد الجلدي المنهك. الجار على اليمين لم يكن يحمل معه أي شيء مما يحمله المسافرون، في هذه الطريق، عدى ملفا أخضر يمسكه بقوة وتوجس. لا أحد، حتى الآن، يجلس إلى جانبه. ذلك لا ينقص من قلقه. وهاهو يخرج من معطفه سيجارة منكمشة، يمددها ويجر نفسا عميقا فتبدأ أزرار حلمه بالانفكاك: الذهاب للدار البيضاء واتخاذ مكان بين الناس الألبة، ولطالما سمع من أصحاب السبق، من أهل القرية، عن المصائر التي تتغير في الدارالبيضاء. والنساء المتحررات، والخمور التي تشرب كما يشرب الشاي في بلدته. الملف الذي بين يديه كفيل بأن يحقق له كل ذلك. فيه ما فيه: الباكالوريا وخطاب التعيين في مديرية الضرائب. الاثنا عشر ساعة التي قضتها الحافلة إلى الدارالبيضاء، كانت كافية كي تفك أزرار حلمه؛ أن تغير ملامحه: تلبسه لحية وبورنيطة. ثم تنزع لحيته وتلبسه ربطة عنق تتدلى فوق الكرش الكبيرة. ثم تزيل كل ذلك، وتلبسه شارْبا خفيفا وقميصا نصف مفتوح على شاكلة رشدي أباظة. ثم تدور حوله الحسناوات بكؤوس تَدوخ الرأس من قرقعاتها، قبل بدأ شربها. الزحام في محطة الدارالبيضاء. زحام الأصوات و الناس المتراكضة. ينزل ركاب «كار الحاج عبو» مندهشين، تعرقل أقدامهم من عياء السفر واختلاط روائح البيض المسلوق، و السجائر، و قيء الأغلبية التي لم تجرب السفر لمسافة بعيدة. الوجهة محددة بالنسبة له. خبراء القرية أوصوه بالتوجه للحي المحمدي، حيث يمكنه العثور على سكن رخيص، ومن ثم يمكنه التوجه لاستلام عمله في مديرية الضرائب... ثم التوجه لأقرب حانة لشرب أول بيرة باردة، علنا وبعيدا عن كل وصي. ثم ربط صداقات بزملاء يعرفون أسرار المدينة وأبوابها الليلية و النهارية. ثم يتعرف على زوجته المستقبلية فتذيقه من كل شراب، وتعرفه على أصحابها، وتنجب له ولدا. ثم ينخرط في حزب مهم، فيكبر فيه ويتولى مهام أساسية. ثم يناضل مع المناضلين. ثم يتوب المناضلون عن نضالهم فيتوب معهم، ويأكل التورتة. ثم يكبر ولده، ويهاجر للنمسا في إطار بعثات يكفلها الحزب للمناضلين. ثم تستحوذ زوجته على المنزل، الذي اشتراه من حر نضاله، فتعاشر فيه صاحبه رضوان الذي أدخله الحزب و كشف له أسرار المدينة. هذا ما لم يقله خبراء القرية.