بين الفينة والأخرى، تشن السلطات الأمنية بمختلف المدن المغربية حملات ضد المتاجرين في السجائر المهربة. وتنطلق بذلك لعبة مسلية تذكر بسلسلة «طوم إي دجيري». وينتهي الأمر ببعض «الكلايا» من أبناء طاطا إلى متابعات قضائية. لكن هل يعتبر المروجون الصغار لبضع عشرات من سجائر «الضيطاي» وحدهم مسؤولين عن استمرار التهديد الذي يطال رئتي مدخن باحث عن نشوة عابرة بأقل تكلفة؟ فالتبغ المهرب يأتي من الجنوب وليس من الشمال على غرار باقي المواد المهربة. وخارطة التهريب تنطلق من ميناء نواذيبو الموريتاني نحو مدينة الزويرات، ومنها إلى بير مقرن وبير أم كرين شمال شرق موريتانيا. ويمر تحت أنظار الجيش المغربي وبعثة الأممالمتحدة. يستنشق المغاربة سنويا دخان أزيد من ستة عشر مليار سيجارة، وتختلف «جودة» ونوعية ما يدخنونه حسب مستوياتهم الاجتماعية وقدرتهم الشرائية، على غرار كل دول العالم، خاصة منها تلك المسجلة في لائحة البلدان النامية. وبغض النظر عن العواقب الصحية للتدخين بجميع أنواعه، يندرج تسويق السجائر ضمن الأنشطة الاقتصادية للمملكة، المتميزة باندراج جزء منها ضمن سوق «سوداء»، غير مهيكلة، خارجة عن رقابة الدولة القبلية والبعدية. ليعرف المغرب دخول ملايين السجائر المهربة إلى أسواقه، مستفيدة من شبكة توزيع فعالة، تجعل من محلات البقالة والفواكه الجافة و باعة السجائر بالتقسيط (الضيطاي) قنوات لتصريف فعال ومكثف لبضاعة «ممنوعة»، رغم أن معاملاتهم قد تتم في الشارع العام و مداخل المؤسسات العمومية والأمنية. «واش صاكة؟» سؤال يتردد كثيرا على لسان زبناء يحتمل أن تسجل أسماؤهم ضمن المليار شخص، الذين سيقتلهم التدخين في القرن الحالي. وبعضهم يسارع، بكل ثقة، إلى استدعاء خبرته والتحديق في السيجارة قبل أن يقدم على اقتنائها، بدعوى تأكده من أنها «صاكة»، أي غير مهربة. فيما تؤكد معطيات رسمية أن السجائر المهربة تمثل حوالي ربع الاستهلاك المحلي، في أفق انتهاء منظمة التجارة العالمية من إعداد المعاهدة الدولية حول تهريب السجائر، والتي ينتظر أن يوقعها أعضاء المنظمة سنة 2010. في انتظار ذلك، لماذا تستمر السيجارة الشقراء في عبور طرق الاتجار الدولي غير المشروع نحو أسواق المملكة؟ هل لعجز أمني أم لاختلال في ضبط منافذ سلعة يقول الجميع إنها قاتلة؟ وتصبح قاتلة أكثر حين لا تحترم سلطة القانون، فتُستهلك فاسدة أو حاملة لجرعات مضاعفة من السموم. ثم هل يعتبر المروجون الصغار لبضع عشرات من سجائر «الضيطاي» وحدهم مسؤولين عن استمرار التهديد الذي يطال رئتي مدخن باحث عن نشوة عابرة بأقل تكلفة؟ وهل يكفي ما يمثله التهريب بصفة عامة من نسب مرتفعة ضمن المعاملات التجارية للمملكة لتبرير هذا النشاط الخانق؟ البوصلة تشير جنوبا قام المغرب، منذ بضع سنوات، بتخصيص تجارة وصناعة السجائر لشركة إسبانية تسمى «ألطاديس». ودخلت المملكة بذلك عهدا جديدا لم يعد معه مجال التسامح وغض الطرف عن تجار الدخان المهرب أمرا مغربيا، بل أصبح من واجب الدولة حماية مصالح شركة دولية دفعت الملايير في مقابل احتكارها لهذا النشاط. الشركة الجديدة سارعت إلى تشخيص سوقها الجديد، واكتشفت منذ البداية أن التبغ المهرب يشكل أزيد من ثمانية وعشرين في المائة من إجمالي المبيعات، مقابل ما اعتادت عليه في إسبانيا، حيث لا تتجاوز هذه النسبة 0،6 في المائة، علما بأن إسبانيا هي المصدر الأول لكل ما يهرب نحو المغرب، عن طريق المدينتين المحتلتين، سبتة ومليلية. لكن ما خلصت إليه تحريات الشركة، بتعاون مع جهات أمنية، كان مفاجئا. التبغ يشكل الاستثناء ولا يدخل الأسواق المغربية من المدينتين فقط، بل يأتي أساسا من الجنوب: طرق التجارة الصحراوية القديمة مازالت حية. مفعول المفاجأة يزول بسرعة عند القيام بتحليل منطقي لهذا المعطى: فالأسواق الإسبانية محمية بشكل جيد من رواج السجائر المهربة. وبالتالي وجب البحث عن المصدر الحقيقي شرقا وجنوبا. فالحدود المغربية الجزائرية ظلت تعتبر منفذا آخر للتهريب رغم إغلاقها المفترض. وحدود المملكة الجنوبية تبقى مفتوحة على كل الاحتمالات بفعل اللااستقرار الذي يطبعها. الجزائر تحاصر وموريتانيا عاجزة وعلى عكس الجارة الشمالية، عرفت الجزائر في العقد الأخير ارتفاع نشاط تهريب السجائر بنسبة 400 في المائة، بل إن الشركة الوطنية للتبغ هناك تعاني من مشكلة أخرى، هي تزوير منتوجاتها في دول جنوب الصحراء، مثل موريتانيا ومالي والنيجر. أكثر من ذلك، فإن حلفا استراتيجيا تأكدت ملامحه بين الجماعة السلفية للدعوة والقتال وعصابات تهريب الأسلحة والمخدرات والسجائر، تحمي بموجبه الجماعة نشاط تلك العصابات عن طريق تأمين الطريق والحماية المسلحة، مقابل حصولها على مداخيل مالية استثنائية. وضع لم يدم طويلا، حيث سرعان ما ضيق الطوق الأمني الخناق على هذه الأنشطة، خاصة مع المستوى العالي للتنسيق الأمني بين الجزائر وليبيا. ليتم في سنة 2007 وحدها حجز أزيد من خمسة ملايين علبة (كارتوش) سجائر، ويتراجع بذلك هذا النشاط في الحدود الجنوبيةوالشرقية للجزائر. بالمقابل، كشفت يومية إلباييس الإسبانية، في عددها لسابع يونيو من السنة الماضية، أن واردات موريتانيا من السجائر قاربت العشرة مليارات سيجارة عام 2004، بعد أن كانت لا تتجاوز الثمانمائة مليون عام 1995، أي أن حجم وارداتها تضاعف إحدى عشرة مرة، والحديث هنا فقط عن الكميات التي تصل إلى موريتانيا بشكل قانوني و ترصدها السلطات الجمركية، بينما لم يتجاوز النمو الديمغرافي في هذه الفترة الخمسين في المائة، وعدد السكان لم يتجاوز الثلاثة ملايين، مما يعني أن جزءا هاما من تلك الواردات ينتهي في أسواق المملكة. عاصمة التبغ المهرب زيارة أولية إلى مدينة العيون، عاصمة الجنوب المغربي، تكفي لتطلعك من الوهلة الأولى على حجم «التعاون» الاقتصادي الوثيق الذي يربط المنطقة بالجارة الجنوبية. وعلى غرار لوحات السيارات الزرقاء، ذات الترقيم الموريتاني التي تملأ شوارع المدينة، يمكنك بسهولة أن تشتم رائحة دخان مهرب يملأ المقاهي والقصبات الهوائية لأبناء المنطقة. أحد أبناء المدينة والعارفين بخبايا أنشطة التهريب، مثلما يبدو مطلعا على علاقات المنطقة المتشعبة مع الضفة الشرقية للحدود الجنوبية، يسارع منذ الوهلة الأولى إلى عرض خدماته، من خارطة المتعة الليلية وصناعها إلى مصادر التموين بكل أنواع المخدرات، بل و كيفية ربط الاتصال ببني العمومة في تندوف؛ وأسهل خدمات ه.م أن يمكّنك من ملء حقيبتك بعلب السجائر المهربة من أرقى الأنواع وبأبخس الأثمان. نتيجة سياسية حساسة كانت قد خلصت إليها شركة ألطاديس منذ شهورها الأولى: التبغ المهرب يأتي من الجنوب وليس من الشمال. وبالتالي، فإن الثمن الذي يؤدى في مقابله يذهب جنوبا. وما إن بلغت خلاصات تقرير ألطاديس علم محمد السادس، حتى أصدر أوامره إلى الجيش بتشديد المراقبة على الحدود وتنقيل مسؤوليه المشكوك في تواطئهم، قبل أن يسارع إدريس جطو عند متم سنة 2003 إلى تشكيل لجنة تولى رئاستها، وضعت خطة للتنسيق بين مختلف الأجهزة الأمنية والجمارك للحد من تلك الأنشطة. وتقفز بذلك الكمية المحجوزة من اثني عشر مليون سيجارة عام 2004، إلى اثنين وخمسين مليونا عام 2005. فألطاديس المغرب، التي دفعت قرابة مليار وثلاثمائة مليون أورو مقابل ثمانين في المائة من رأسمال شركة التبغ المغربية عام 2003، لم تكن لتقبل باستمرار حوالي سبعة ملايير درهم من معاملات التبغ المهرب خارج رقابتها، وسعت إلى إنهاء ذلك بتركيزها على الثلاثة مليارات درهم التي تخسرها خزينة الدولة سنويا جراء ذلك، من أجل الضغط والإغراء. خارطة التهريب، كما رسمتها شركة ألطاديس، تنطلق من ميناء نواذيبو الموريتاني، حيث تحمل شاحنات متخصصة السجائر المستوردة نحو مدينة الزويرات، ومنها إلى بير مقرن وبير أم كرين شمال شرق موريتانيا. وهنا، تتفرع الطرق المؤدية إلى مدينة العيون، بعد تجاوز الجدار الأمني الذي بناه المغرب متم عقد الثمانينيات. لكن المثير في الأمر أن المرور عبر منطقة تيفاريتي وتيندوف يبقى ضروريا في أغلب الحالات. فباستثناء الكميات التي تدخل إلى التراب المغربي على ظهور الجمال مباشرة في أقصى الجنوب المغربي -جمال غالبا ما تكون بدورها مهربة، يتم استغلال ظهورها لحمل سلعة من نوع السجائر المهربة- فإن الكميات الأهم تدخل على متن آليات وشاحنات تعبر الجدار الأمني نحو السمارةوالعيون، وأخرى تلج مباشرة التراب المغربي نحو شرق المملكة. وهنا، تبدأ القصة الخطرة. صفقات لا تعترف بالجدار الذي يرتبط بعلاقات أسرية مع بعض من أفراد جبهة البوليساريو، والذي قام بزيارة طويلة إلى مخيمات تندوف واشتغل في محطة للحافلات في المنطقة السابعة، يروي بعض تفاصيل رحلة السيجارة المهربة نحو مدينة العيون، حيث ترتكز العملية في الأساس على تنسيق محكم ودائم بين طرفي العملية في كل من التراب المغربي ومخيمات تندوف. وبالإضافة إلى خدمات الهاتف، تستخدم الشبكات الكبرى تقنيات متطورة للاتصال عبر الأقمار الاصطناعية وموجات الراديو. فتبدأ الصفقة باتصال بين الطرفين تحدد فيه الكمية المطلوبة والسعر المناسب حسب الظرفية الاقتصادية والأمنية. بعد ذلك، يتصل الطرف «المستورد» بعناصر الشبكة في التراب الإسباني، حيث يتم تحويل ثمن الصفقة إلى حساب بنكي، قبل أن يتلقى «المصدرون» فوق التراب الموريتاني أو مخيمات تندوف أمرا بتسليم البضاعة. هنا يحيلنا ه.م على شيخ من العارفين بجغرافية المنطقة وعلاقات أطرافها المتشعبة. وهذا الأخير يستدعي خبرته الطويلة ليخلص إلى أن البوليساريو طرف أساسي في العملية، لكن بتواطؤ بيّن من جانب عناصر من الجيش المغربي، ذلك أنه بعد إتمام عقد الصفقة، يتم الاتصال بالمسؤول عن أهم محاور الطريق، والذي يتسلم ثمن خدماته. وتتم عملية التسليم بطريقة غريبة، حسب روايات من عين المكان. فلا حاجة إلى لقاء بين الطرفين بما أن المعاملات المالية تتم عن بعد، وسيكون من «الغباء»، حسب أحد المصادر، أن يجازف الطرفان بتواجدهما معا في مكان التبادل مع احتمال مفاجأتهما بتدخل أمني يحاصرهما معا. والحل أن الطرفين متفقان على مكان معلوم، يأتي إليه أصحاب البضاعة «بعيدا» عن أعين الجيش المغربي، وتحت أنظار قوات المينورسو التي «لا يدخل ذلك في اختصاصاتها»، حسب مصدر آخر. ووضع الكمية المتفق عليها في المكان المعلوم الذي غالبا ما يكون في كلتة زمور. وبعد أن تصل الإشارة إلى صاحب الطلب بوصول البضاعة إلى مكانها، يذهب لأخذها من هناك، حيث لا يوجد أحد. وتنطلق بذلك رحلة تهريب جديدة للمارلبورو ووينستون وكاميل وغيرها من أرقى وأبخس الماركات، حيث يمكنك هنا في العيون أن تقتني علبة (كارتوش) من مارلبورو بمائة وخمسين درهما كأعلى سعر بينما يقارب ثمنها الحقيقي في «الصاكة» الأربعمائة درهما. فيما يتم التخزين في انتظار التوزيع في قلب الأحياء الفقيرة للمملكة مثل مخيمات الوحدة، حيث الوضع الأمني جد مضطرب وسخط السكان غالبا ما يتحول إلى ميولات انفصالية تتمظهر في سلوك معاد لكل مظاهر التدخل الأمني. ماذا بعد العيون؟ البعض في مدينة العيون يتحدث عن مصادر أخرى لإدخال السجائر المهربة، مثل ميناء المدينة، حيث نشاط التهريب يمتد ليشمل البنزين الذي يأتي محملا على البواخر العائدة من جزر الكناري، حيث تفرغ حمولتها من الرمال. وآخرون يسهبون في وصف طرق إدخال المواد المهربة من سجائر وبنزين وغيرهما إلى الجزء الشمالي للمغرب، مرورا بكل حواجز الدرك والأمن بمداخل المدن. لكن المؤكد أن ملايين السجائر تنتهي محترقة في رئتي المدخنين المغاربة بكل ما تحمله من أخطار مضاعفة، فيما تنتهي الملايير في جيوب المتاجرين فيها، والملايين في أيدي الوسطاء والمتواطئين.