ضمن إطار إعادة إنتاج الإرث الثقافي للراحل «بو علي ياسين»، صدر عن «دار المدى» كتاب «خير الزاد من حكايات شهرزاد». وهو بحث يدور على تحليل بنية المجتمع المعاش، في قصص «ألف ليلة وليلة»، ويستند ياسين في هذا البحث على أعمدة الحفر، والتفكيك، والتدوير، لبنية العلاقات الاجتماعية، والمعتقدات الدينية والشعبية، ومسائل الحياة السياسية والاقتصادية، من خلال دائرة النقد الموضوعي، للقصص المتداولة، في هذا السِفر الإشكالي. أوّل ما يأخذ على قصص المجتمع الشهرزادي، أنها وقعت في الماضي، وللتدليل على واقعية الأحداث أدخل الرواة، أشخاصا تاريخيين معروفين، على الرغم من وجود الخوارق والقصص شبه الواقعية، كما أن الحوادث التي تقع في القصص، لا تتكرر. ويظن ياسين بأن «للنساء دوراً أو تأثير في تأليف أصل الحكايات الشهرزادية، إلا أن الصراع الجنساني «بين الرجل والمرأة» لا يظهر «أي تأثير أو دور فاعل للمرأة في الخلق القصصي». بالإضافة إلى الطغيان المزمن، والهيمنة الذكورية، على تناول الحكايات. ونجد أن من خصائص المرأة في القصص، الشهوانية، وإذا كانت الشهوانية فاعلة أو منفعلة، فإنها في القصص، تظهر الجانب السلبي منها لدى المرأة -أي الجنسي- والقصص التي تتحدث عن كيد النساء، تدل على ذكاء المرأة، بعكس رواة القصص، الذين لم يروا هذه «الناحية الإيجابية، وهي الذكاء والشطارة، بل رأوا فيها فقط الناحية السلبية وهي المكر والغدر». ويظهر البطل الشهرزادي، عشقه للمرأة الجميلة، بعكس المرأة التي تظهر شهوانيتها، من خلال وصولها للهدف الأسمى»الجنس»، فأصل المشكلة في قصص «ألف ليلة وليلة» والمحرض الأساسي على روايتها، الصراع بين الجنسين. لذلك فإن أفضل النساء، الأكثر تديناً، إذ «يهيمن المعيار الديني ليصبح معياراً، ليس لصلاح المرأة فحسب، بل حتى لجمالها». وهو ما يجعل المرأة خاضعة لنظام التربية البطريركية، وتصور الحكايات المرأة الإيجابية مطيعة للرجل «حتى أنها مثلاً تقبل بطيب خاطر أن تتقاسم الزوج الحبيب مع امرأة أخرى». فما يريده الرجل الشهرزادي من المرأة، صناعة نمط حياة قسري لها. ورغم هذه الطهارة والورع، والالتزام الديني، تظهر بعض العلاقات الزوجية غير الشرعية، وهذه القصص برأي ياسين «من ناحية تحقق شروط الغرابة في الحكاية، وتعطي من ناحية أخرى مناسبة جيدة للعبرة والموعظة». ونلاحظ في حكايات الحب، المعاشة في القصص، أن مشاهد الحب والغرام، تنقلب إلى مشاهد مجون، وهو ما يعبر عن الظمأ الجنسي، وبنفس الوقت يدل، على الكبت والحرمان للمجتمع الشهرزادي. إن الإيديولوجيا المسيطرة على الحكايات «إسلامية بحتة». وتأتي هذه الهيمنة نتيجة الإيمان بالفضاء والقدر، وتظهر الحكايات مفهومين للقضاء والقدر «أحدهما قدري ضعيف الحضور والتأثير، والآخر جبري يهيمن على روح الحكايات وأبطالها». كما تظهر لنا الحكايات على أنها «جبرية شعبية واقعية علمية». وهذه الجبرية، لا تقول «بما يجب أن نؤمن فحسب، بل أيضاً ماذا نفعل تبعا لهذا الإيمان». وتبدو الجبرية الشعبية، قوة فاعلة تتحكم بمصير الإنسان الشهرزادي، وتتصارع في الحكايات نزعتان، الأولى دنيوية، والأخرى أخروية، وتكون «النزعة الأخروية فيها بمثابة المثل الأعلى، بينما تعبر النزعة الدنيوية عن الواقع». كما أن قارئ الحكايات يلتمس، وبشكل فاضح، قصص السحر والعفاريت، وطغيانها على كل ما تحتويه من إسلاميات، وإذ يمكننا اعتبار الإسلام في قصص شهرزاد «إيماناً وولاء»، فإن «الإيمان الأرواحي أعمق من الإيمان الإسلامي لدى العامة». ونتيجة التأثير الإسلامي على فكرة الجان، في القصص، تم فرزهم، إلى مؤمنين وكفرة، ف»الجني المؤمن يقف من بطل الحكايات موقفاً مسلما، إن لم يكن مساعدا، بينما يقف الجني الكافر موقفا عدائيا». كما أن رواة الحكايات، قاموا بوصفهم بما يشبه الإنسان، أو الحيوان، أو صورة إنسانية وحيوانية معاً. تكمن العصبية الإسلامية في قصص»ألف ليلة وليلة»، من خلال اتخاذ الآخرين ملامح» الكفار، المجوس، اليهود، النصارى». فبنفس البساطة التي يؤمن بها الشعب، يفهم أشخاص الحكايات، أهل الديانات المغايرة، فالكفر في الحكايات يعني «الخروج عن الملة الإسلامية، إما الخروج بالعضوية أو بالممارسات، ومن ثم فإن الإيمان بحد ذاته لا يلعب الدور الأساسي في تعريف الكفر». لأن الفهم الديني، الذي تبنى عليه هذه العصبية، فهم بسيط وساذج، وما يهمه في النهاية «أن يرفع «النحن» ويمجده، كيفما كان إيمان هذا النحن». ويظهر التعصب الشعبي، اتجاه أصحاب الديانات الثانية، أكثر مما تنص عليه النصوص الإسلامية، لتظهر على أنها «عصبية دينية بحته». ويؤكد ياسين على أن مجتمع شهرزاد، هو «إسلامي قبل كل شيء، وكل فرد يعرّف نفسه ويعرفه الآخرون بدينه». ويضيف ياسين إلى جانب العصبية الإسلامية، العصبيات المذهبية، والعصبيات الأقوامية، وتبدو هذه العصبيات متشابهة لكنها «تختلف عن بعضها بالدرجة أكثر ما تختلف بالطبيعة». إنّ البنية الاجتماعية والاقتصادية، للمجتمع الشهرزادي تشابه «المدينة العربية القروسطية». ويبرز السلطان في بنية المجتمع، على أنه الآمر الناهي، ويمنح سلطات غير محدودة، ولا مرد لأمره، إلا بوجود قوة ميثيولوجية خارقة، تقوم الحكايات بابتكارها، لأنه «لا توجد سلطة شرعية تمنع السلطان الشهرزادي من العبث بحياة الرعية وممتلكاتهم». على الرغم من وجود دستور يتم من خلاله تحديد عمل السلطان. ويعتبر ياسين حقوق السلطان على الرعية، حقوق إسلامية ضافية، إذ يتوجب عليهم، تقديم الطاعة له، وللرسول، ولله، كما أن «عليهم السمع والطاعة وبذل النفس دونه وإعطاؤه واجب حقه وحسن الثناء عليه بما أولاهم من عدله وإحسانه، وحق الرعية على السلطان حفظ أموالهم وصون حريمهم». فالسلطان «خليفة الله على أرضه». وهذا المبدأ، هو الأساس الإيديولوجي، لبنية المجتمع الشهرزادي، فابن المجتمع الشهرزادي، بقدر ما يستطيع الابتعاد عن السياسة، بقدر ما يعيش حياة آمنة وعادلة، وتبرز للجانب الاقتصادي نظرتان، الأولى ميثيولوجية، ترى بأن السلطان «المالك الأوحد للأرض ومن عليها». والثانية علمانية تعتبره «حكما بين الرعية موظفاً من قبلها». ويعد السلطان من المؤثرين الأساسيين، على بنية الهرم الطبقي للمجتمع «بسبب تأثيره البالغ على مصادر الدخول وجمع الثروات». أما الهرم الطبقي للمجتمع الشهرزادي فيتألف، من أهل الدولة، والتجار الذين ينحدرون من عامة الشعب، إلا أن القصص تقوم بتصنيفهم مع الباعة، قبل أي طبقة أخرى، ثم يأتي أهل الزراعات، فأرباب الحرف والمهن، وتتم معاملتهم كما يعامل التجار، يليهم الأجراء، الذين يعانون من قلة الأجر وطول ساعات العمل، ويأتي في النهاية قاع المجتمع، المتألف من المعدمين، ويرى ياسين بأنه ليس من السهل تحديد الوضع «الاجتماعي والاقتصادي لمن هم في قاع المجتمع بشكل دقيق لأن العلاقات هنا أقل وصفاً وأكثر تشابكاً مما هي في المجتمع الأم». استطاع صاحب «الثالوث المحرم». أن يقدم قراءة مغايرة، ودقيقة، لتراث «ألف ليلة وليلة» الإشكالي، من حيث إبرازه لنقاط الضعف، المستخدمة من قبل الرواة، وإذ أن هذا التراث، هو الغالب على وعي الإنسان العربي، من خلال الترسيب المتغلغل في جذور الفكر العربي، فإن هذه الدراسة قدمت رؤية شاملة، لواقع الحكايات، باستخدام المؤلف لثالوث «الدين، الجنس، السياسة». فالحدث الجديد لهذا البحث، هو طريقة الطرح والمعالجة لهذه القصص.