الرحيل صيفا الصيف ملاذنا الجميل، أفق أفراحنا ومشاريعنا المؤجلة.. ننتظره بشغف، ونحرص على ألا يمضي بين أصابعنا حتى نستثمر كل دقائق لحظاته.. هكذا كان الصيف بالنسبة إلينا.. لكنه صار يرهبنا يرعبنا.. نتابع مسيره بأبصار شاخصة وأيدينا على القلوب حزنا على من سيرحل معه.. الصيف مغَيِّبُ الأحبة.. كأنما مهمته الأولى أن يحجب الوجوه والأطياف إلى الأبد.. ذات بداية صيف غاب الرائع محمد الكغاط.. قبله غاب الفارس سعد الله ونوس مع بوادر صيف.. وصيفا غادرنا نجيب محفوظ ومحمود درويش.. في مطلع صيفنا هذا غاب الجابري وفي نهايته أخذ معه محمد أركون.. وبينهما رحل الطاهر وطار ونصر حامد أبو زيد وحسن عريس وعائشة مناف.. صيف استثنائي بدرجة أقصى في الحرارة، وأقسى في الحزن.. ما كل هذا الكم من العداء/ من العزاء تحمل إلينا؟!!.. في 30 غشت رحلت عائشة مناف إلى جوار ربها.. في التاريخ نفسه من سنة 2006 رحل عن عالمنا نجيب محفوظ..أي صدفة هذه بين ذكرى رحيل مبدع عملاق، ورحيل قارئة نهمة وعاشقة لأدبه؟!.. في اللحظة التي سكننا أمل كبير في شفائها، أسرَّت إلى صديقتها نادية الممرضة: «أحس بقرب أجلي..سأموت خلال رمضاننا هذا»..غالبت نادية الإحساس الحزين بالضحكة المجلجلة: «أحسن!.. وخذيني معك لنتمتع بحور العين سريعا»..لكن السر الإلهي وافق ما أسرّت به عائشة.. وانتقلت إلى جوار ربها في مطلع العشر الأواخر من الشهر الفضيل..وكان الصيف مازال يزهو بحرارته القصوى!! الأمومة المبكرة والفرح المؤجل كانت عائشة أمَّ الجميع.. لا علاقة للأمومة بالسن.. كأنما تستطيب هذه الأمومة، وتعمل على ممارستها بكامل المسؤولية رغم أن أمومتها المبكرة هذه تأتي على حساب لحظات الفرح التي تنتابها لماما.. كانت عائشة تحمل حزنا غريزيا عميقا. ورغم ضحكاتها المجلجلة، فدموعها أقرب من الأشفار.. لذلك كانت دائما تؤجل لحظات الفرح.. أو تستحضر حزنها الفطري وسط هذه اللحظات رغم قلتها.. تراها دائمة الانشغال بدراسة ياسين أو مشكلة الحسين.. دائمة القلق بشأن صحة رقية أو سعيدة..دائمة الأسى والأسف على مصطفى الذي يستحق مراتب أرقى توازي كفاءاته وذكاءه... حتى في الفرقة، عائلتها الثانية (أو الأولى لست أدري!!) تراها دائما تنصح هذا وتشجع ذاك وترفع معنويات تلك.. كانت أما حقيقية للجميع..لأسامة ومنير ويوسف.. رغم أن طول بعضهم يضاعف طولها ويزيد.. وعلى قدر أمومتها على قدر فداحة الغياب.. نُعِدُّ الغياب بالأيام، وسيصير بالشهور ثم الأعوام.. وما أقسى الزمن في العَدِّ حين لا أفق لأجل محدد في العودة.. آه كم نشتاق وجودك عائشة، أُمّا كنت أو طفلة آخرة العنقود!! خبط الأقلام ونفاق الوجوه المرض اللعين ينمو ببطء وبخلسة الجبناء.. الأقلام خجلى في المتابعة.. المرض الخبيث يعلن نفسه بطريقة مسعورة.. الحملة الإعلامية تصير محمومة حول عائشة ومرض عائشة.. حوارات.. جمع أخبار.. بحث عن صور.. سيل لا ينقطع من المكالمات.. صفحات على الفيس بوك.. حملة إعلامية محمومة فاقت تطور المرض اللعين.. لا أحد ينكر أهمية هذه المنابر الرائعة في نقل معاناة عائشة.. والدور الجميل في إيصال صوت هذه المعاناة حتى حظيت برعاية سامية ردّت لها الأنفاس. لكن أقلاما ملتبسة في انتمائها إلى الجسم الصحفي كانت تخبط خبط عشواء بحثا عن سبق صحفي دون سند حقيقي، وركبت الإشاعة، واستقت أخبارا من غير مصادرها.. ولعبت على صورة «خميسة» التي وجدت ترحيبا عند الجمهور المغربي.. بالموازاة مع خبط الأقلام هذا، بدأت وجوه «فنية» تركب، بدروها، موجة الحدث بحثا عن ظهور مجاني على حساب المرحومة. في الوقت الذي سارع فيه فنانون حقيقيون وأناس عاديون إلى المساندة الفعلية لعائشة في محنتها ماديا ومعنويا (واختار الكثير منهم الظل والكتمان وهو يمارس هذه المساندة) بالمقابل، تحول أشباه فنانين إلى «سائحين يعشقون جمع الصور» وحوّلوا عائشة إلى فرصة لالتقاط الصور أمام عدسات هواتفهم النقالة أو أمام عدسات بعض الصحفيين، وكأن عائشة صومعة حسان أو «نافورة لحمام أو حمام النافورة» - لست أدري - وحين ينفض الجمع وتختفي العدسات، يختفون بدورهم، وتظل عائشة وحدها تبحث عن سلة مهملات ترمي فيها ضجيجهم، أو تلوذ بإحدى حلقات «حديدان» تسترجع من خلالها أطياف وجوه رائعة لا تتقن الرياء ولا النفاق ولا التنكر.. وتستسلم لنوم لم يكن عميقا ولا مريحا، لكنه لحظة من لحظات الاغتسال من نفاق وتنكر تدركه ويحز في نفسها.. ومع ذلك تتجاوزه بجرعة ماء غير مثلوجة..وبصر شاخص نحو السقف..وصمت حارق لا يقل وخزا عن المريض اللعين.. المسار الفني مسرحيٌّ بامتياز رحلت عائشة ومسارها الفني كجبل المحيطات لم يظهر إلا قليله.. لم تتقاسمه مع كل جمهورها، لأن أعمالا تلفزية قليلة هي التي وصلت الجمهور العريض.. وعلى قلّتها لم يرسخ منها إلا «خميسة» حديدان وجزءا من «رمانة وبرطال».. لأنها للأسف لم تحظ بأدوار بطولية أو ذات بروز واضح. لذلك لم تأخذ حقها في الأعمال التلفزيونية كاملا.. لم تُسْتَثمر كل طاقاتها في هذا المجال.. لذلك فالمسار الفني لعائشة مسرحيٌّ بامتياز.. في المسرح كانت تحيى وتتنفس بمطلق الحرية وفي أوسع مساحة.. في المسرح كانت تصول وتجول وتبدع وتعيد..في المسرح كانت تبحث وتتجدد وتتطور.. لأن العرض المسرحي يستمر، يعيش لمدة أطول وبآفاق أوسع.. في المسرح اختبرت جمهورا متعددا ومختلفا في مدن كبرى وأخرى صغرى.. في مسارح حقيقية وفضاءات عرض تقريبية.. داخل المغرب وخارج المغرب.. أمام الجمهور العريض وجمهور النخبة والطلبة والنقاد ومُهْتَمّي المسرح.. لذلك كانت أوجه الانتشاء لديها متعددة أيضا بتعدد أوجه الجمهور الذي قدمت أمامه.. المسار الفني مسرحيٌّ بامتياز!! بدأ هذا المسار في سن مبكرة من حياة عائشة بين أحضان مسرح الهواة بالجديدة حيث كان هذا المسرح متأرجحا بين صعود لافت وهبوط مفجع.. ورغم هذا التأرجح، تميزت عائشة في عملين «الدجال والقيامة» و»اسمع يا عبد السميع»، ثم عاشت تجربة احترافية في أحضان الفرقة الجهوية لدكالة عبدة من خلال ثلاثة أو أربعة عروض لمسرحيتي «خربوشة» و»جذبة الشياطين». ثم شاركت في مسرحية «تلالايت» مع الفرقة الجهوية بسوس، وهو العمل الذي ظلت تحمل حسرته في قلبها لعدم تقديمه أكثر من عرض يتيم رغم الجهد في التداريب والإبداعية في البحث..وسرعان ما وجدت عائشة ضالتها في أحضان «مسرح أبعاد» حيث شاءت ظروف الاشتغال وطبيعة الأعمال والأدوار التي اقترحت عليها أن تجعلها عنصرا هاما، وفاعلية إبداعية متميزة داخل هذه الفرقة. كما وجدت ما كانت تطمح إليه مسرحيا من كثرة العروض وتنويع الجمهور وحب متبادل بين عناصر الفرقة..إضافة إلى كونها التحقت بأبعاد في لحظة تحول، فصارت عنوانا بارزا في أعمال الفرقة وحضورها داخل وخارج المغرب وأمام الجمهور العام وجمهور المهرجانات..وقدّمت مع «مسرح أبعاد» عشرين عرضا ل»يوم من زماننا» في دور «الست فدوى»، وسبعة عشر عرضا ل»بروتوكول» في دور الملكة منها عرض بسلطنة عمان، وأربعة وثلاثين عرضا ل»كلام الليل» في دور «شمس» منها عرض بمهرجان أريانة وآخر بمهرجان حمام الشط وكلاهما بتونس، وستة وعشرين عرضا ل»نيكاتيف» في دور «براسكوفيا» منها عرض بدمشق وآخر بحمص بسوريا.. ومنها أيضا العرض الأخير الذي احتضنته خشبة خميس الزمامرة في نونبر 2009 حيث كان آخر ما قدّمت، وآخر ظهور فني مباشر لها قبل العملية الجراحية الثانية وبعدها الرحيل إلى دار البقاء، لتشاء الظروف أن تختم مسيرتها الفنية بالمسرح كما بدأت بداية مسرحية.. وكانت قد بدأت الاشتغال الأول على دور «مرمر» في مسرحية «طعم الطين» لكن المرض اللعين لم يمهلها لتستمتع بهذا الدور الذي رسمت تفاصيله بعناية فائقة على نار هادئة وفي زمن طويل. بهذا التراكم لمسرحي المتنوع، من مشارب مختلفة، داخل فرق متعددة، بجدية في العمل ورغبة في الإتقان وحسن الإنصات والملاحظة، استطاعت عائشة أن تكون متميزة وقوية أمام الكاميرا.. بالأساس المسرحي الصلب، وما أخذت منه من تركيز واهتمام بالتفاصيل وعدم ترك أي شيء للصدفة، استطاعت أن تقدم أدوارها التلفزية بتميز وسهولة وسلاسة ودون تعقيد.. رغم أن الأدوار التي قُدِّمت لها كانت أقل من إمكانياتها بكثير، ولم يمهلها الزمن لتقديم ما يناسب طاقاتها الإبداعية.. لذلك ظل المسرح ملاذَها الأثير رغم أنه في بلد ليس للمسرح فيه نصيب كبير.. آثرت أن تتمسك بالخشبة ملاذا إبداعيا في تواضع وجدية لا مثيل لهما.. لم تستهوِها الشهرة ولا التهافت ولا الجوائز.. اختارت الظِّلَ، لأنها كانت تدرك أن النبتة التي تنمو في الظل تعمِّر طويلا.. وكذلك كان وسيكون.. ستُعَمِّرين عائشة بيننا طويلا.. ستظلين «نوّّارة أبعاد» وشجرتها الوارفة الظلال التي تحتل الوسط العميق فينا.. ستظلين الاسم المسرحي الراسخ وعنوان «أبعاد» البارز.. أعدك ألاّ يطالك النسيان على الأقل ما حييتُ وأعدك أيضا ألا أدع خبط الأقلام يمُرُّ بحبره الخاطئ.. سأصحح ما استطعت معلومات عنك وعن أعمالك وعن أحلامك.. سأقول لهم: عائشة من مواليد الثلاثاء 21 مارس 1972 (وليس 1978)، وانتقلت إلى جوار ربها يوم الاثنين 30 غشت 2010 (وليس 30 يوليوز) وعاشت تحديدا ثمانية وثلاثين عاما وخمسة أشهر وتسعة أيام (وليس 32 سنة) وهي من مواليد الجديدة (وليس الدارالبيضاء) ودفنت بمقبرة سيدي موسى بالجديدة (وليس بسيدي بنور) و...هل هذا يكفي؟؟.. ربما.. لكِ المغفرة والثواب، ولنا الصبر والسلوان.. وكل أربعينية وأنتِ في رحمة الخالق.. وإنا لله وإنا إليه راجعون.