«لسنا خائفين، وسنشارك في كافة التظاهرات والاحتجاجات المقبلة، دفاعا عن المعتقلين وشرف ساكنة آيت باعمران»، بهذه العبارات تحدثت سميرة ذات السبعة والعشرين ربيعا، وهي في طريقها عبر سيارة الأجرة الكبيرة إلى مدينة سيدي إفني التي ذاع صيتها بعد أحداث ما بات يعرف بالسبت الأسود. حرارة النقاش الدائر داخل سيارة الأجرة الكبيرة حول الأحداث الدامية أنست الجميع حرارة الجو المفرطة، وأكدت الرغبة الجامحة لدى الركاب في تذكر الماضي بتفاصيله الأليمة وعدم نسيان جزئياته الدالة، كما أكدت رغبتهم في نقل أجوائها إلى الأجيال المقبلة دون مساحيق، فالسائق الذي يضع نظارة سوداء على عينيه تقيه شر أشعة الشمس الحارقة، عبر عن تأثره الكبير لسماع قصص مثيرة من أفواه العديد من الركاب الذين تعرضوا لاعتداءات القوات العمومية، أو شاهدوا جزءا منها بشكل مباشر أو غير مباشر، فالكل مجمع يقول مولاي إبراهيم سائق الطاكسي على فظاعة ما وقع، وصعوبة الاستمتاع بالصيف، كما كان الحال سابقا، حتى الرواج داخل المحطة تأثر هذا الموسم بشكل كبير لا ينكره إلا جاحد، يقول السائق وهو يشير بالتحية إلى دورية الدرك الملكي المرابطة بالطريق الواصلة بين مير اللفت وإفني. احتفالات مع وقف التنفيذ وبالرغم من توافد العديد من أبناء المنطقة المتواجدين بديار المهجر على المدينة إلا أن العديد من أفراد العائلة الذين اعتادت سميرة على رؤيتهم خلال العطلة الصيفية لم يحضروا هذه السنة بسبب الخوف من تكرار الأحداث وتجدد الاشتباكات، فالثقة حسب تعبيرها «مفقودة إلى إشعار آخر»، والحفلات والأعراس التي تنظم حاليا بالمدينة، «لن تنسينا ماوقع لإخواننا وأخواتنا، ولن تنسينا المعتقلين، وخاصة خديجة زيان التي تأبى الخنوع وترفض الانحناء لعاصفة اسمها الذل والهوان... ما يمكنش نساو هادشي، حنا راه تكوينا، ولكن ما عندنا ما نديرو، لابد نعيشوا حياتنا، واخا الخاطر خاسرة...». ظلت سميرة تحكي طيلة ساعة من الزمن قصص رفيقاتها مع القوات العمومية، فيما ظل الركاب الآخرون يتجاذبون أطراف الحديث الثنائي حول إفني وأجواء الصيف بها، فأحمد الذي كان يرتدي تنورة صفراء قال بصوت جهوري إن الصيف بإفني «لا طعم له بعد الأحداث، ورغم أنني أختلف مع السكرتارية في طريقة احتجاجها على التهميش الحاصل بالمدينة إلا أن المطالب لاتحتمل مزيدا من التأجيج، والأوضاع لا تحتمل مزيدا من التأجيج، وتتطلب من الجميع أخذ العبرة، وتجاوز نبرة التصعيد المجاني، حتى لا نقدم خيرة أبنائنا قربانا لاحتجاجنا الجماعي»، أما السائق الذي ظل مشغولا طيلة الوقت بالعرق الذي يتصبب من جبينه، فقد لزم الصمت في النصف الثاني من الطريق إلى أن بلغنا منطقة شاطئية تدعى «الجزيرة» فقال متنهدا إن «الصيف ديال هاد العام ناقص بزاف»... وهكذا استمر الحديث إلى أن افترق الركاب المنحدرون من إفني آيت باعمران على أمل عودة المدينة إلى وضعها الطبيعي صيفا وشتاء، لكن سميرة ظلت متشائمة رغم أنها رجعت للتو من مدينة تيزنيت بعد اقتنائها خاتما للزواج هدية لأحد أقاربها القاطنين بالصحراء، وقالت مودعة «ماكاين والو...». هدية الزواج وإذا كانت سميرة قد تجاوزت عقدة الفرح واقتنت خاتما ذهبيا لأحد أقربائها على أساس تنظيم وليمة العرس، فإن «إبراهيم أروفا» اختار طريقته الخاصة للاحتفال بعقد قرانه بعد عودته من ديار المهجر، حيث قام رفقة عروسه بعد ساعة من دخوله قفص الزوجية بزيارة المعتقلين السبعة المتواجدين بسجن إنزكان، وقال في اتصال معه إنه «لن يحتفل بزواجه مادام هناك شخص واحد يقبع وراء القضبان بسبب المطالب المشروعة لساكنة آيت باعمران»، مضيفا بنبرة ملؤها الفخر والاعتزاز أن «أحسن هدية يمكن أن نقدمها للموقوفين هي إشراكهم في أفراحنا ومسراتنا». أما جمال الوحداني، شقيق محمد الوحداني عضو السكرتارية المعتقل على ذمة الأحداث الأخيرة، فقد اكتفى هو الآخر بعقد قرانه دون تنظيم حفلة للزفاف، وقال في لقاء مباشر معه إن «الاحتفال لا يجوز في مثل هذه الظروف التي نعيشها»، مضيفا بنبرة هادئة وهو يخلل شعر لحيته السوداء أن «الزمن الحالي هو زمن النضال حتى تحقيق المطالب، وأنا متأكد من أن الانتصار سيكون حليفنا». إلا أن حديث السجون والاعتقالات والأحداث الدامية التي عاشتها المدينة لم يمنع أشخاصا آخرين من الاحتفال بزواجهم رغم الغصة التي يحسون بها في حلوقهم، واستعدادهم للمشاركة في جميع الأشكال النضالية المعلنة، ف «س.م» العائد هذه السنة من جحيم الهجرة غير الشرعية بأحد البلدان الأوروبية التي مكث فيها زهاء 5 سنوات، أكد في معرض حديثه أنه كان يرغب في الاتشاح بالسواد ليلة زفافه عربونا على حزنه لما آلت إليه الأوضاع بمدينته التي تركها هادئة فوجدها مدينة صاخبة، ملأت الدنيا بآلامها وأحزانها دون أن تكون قادرة حسب قوله على مسايرة الأحداث ومواكبتها بالسرعة اللازمة، ومشيرا إلى أن الضغوط التي تلقاها من بعض أفراد العائلة منعته من تنفيذ فكرة اللباس الأسود ليلة الزفاف، وفرضت عليه الرضوخ للأمر الواقع، حفاظا على اللحمة العائلية من التصدع الذي قد يطالها جراء التعنت». أما العريس (ب.ر) فأشار إلى أنه احتفل هذا الصيف بزواجه بشكل عادي دون أن يتأثر بالوضع العام للمدينة، فقال وعيناه تنظران إلى علياء السماء: «هذه فرصة العمر، ولا يمكنني التنازل عنها أو تفويتها بهذه السهولة، كما أنني لم أرتكب أية مخالفة أستحق بسببها التوبيخ، لأنني شاركت رفقة عدد من المهاجرين في المسيرة الشعبية التي نظمت خلال هذا الشهر، وتضامنت مع مدينتي كما تضامنت معها سابقا في العاصمة باريس»، وعلى غرار (ب.ر) سار على نهجه كثيرون من أبناء وبنات المدينة بأحياء بولعلام والقاطع والبرابر وكولومينا، فاحتفلوا بقرانهم بشكل عادي حضره المدعوون من أبناء المنطقة ورددت الزغاريد ورفعت السيارات زعيق أبواقها، كما زف العرسان إلى بيوتهم في كامل الأناقة والجمال. الصيف الحزين ولم يقتصر الفتور على الأفراح الخاصة بالمواطنين، بل تجاوزها إلى مختلف مظاهر الحياة العامة التي أصيبت هذا الصيف بفتور غير مسبوق يقول سعيد (33 سنة) والمرارة بادية على قسمات وجهه الدائري، فالساحات العامة أصبحت قاحلة كالصحراء، غابت عنها الاحتفالات والأفراح الشعبية، كما غاب الموسم التجاري الذي اعتادت المدينة تنظيمه في الثلاثين من يونيو من كل سنة تزامنا مع ذكرى استرجاع المدينة، وأصيبت معه عجلة الاقتصاد بكساد غير مسبوق. يقول سعيد والأسى يعتصر قلبه، إن «إفني مدينة حزينة، صيفها حزين ومنظرها حزين، ولا شك أن الناظر إليها سيصاب بحزن عميق... وغياب الاحتفالات العامة طقس غير عادي بمدينة ساحلية معروفة بالإقبال الكبير عليها من طرف السياح المغاربة والأجانب». لكن الإقبال الضعيف على عملية الاصطياف بالمدينة أثر على المدخول الاعتيادي للأسر، حيث انخفض الإقبال على دور الكراء الصيفية والليالي السياحية بالفنادق المتواجدة بالمكان، كما أغلقت المؤسسات التعليمية في وجه المصطافين من رجال ونساء التربية والتكوين بعد أن اختار أغلبهم الاصطياف بالشواطئ الهادئة كميراللفت وأكلو، وألغت مندوبية الشبيبة والرياضة مخيماتها الصيفية المبرمجة سلفا بالمدينة، بسبب الانفلاتات الأمنية التي تقع بها دون سابق إعلان. ومن مظاهر الصيف الحزين بالمستعمرة الإسبانية السابقة: غياب فضاءات ترفيهية لتزجية الوقت واستثماره في ما يعود بالنفع العميم على الساكنة بمختلف شرائحها الاجتماعية، فالبعض يلجأ إلى الجلوس لاحتساء الشاي وتبادل أطراف الحديث بمنطقة تدعى «الطريسيرا» (توجد بالجهة الغربية للمدينة، بعيدة نسبيا عن أعين المارة)، فيما يفضل البعض الآخر التجول بالشوارع الرئيسية للمدينة، وخاصة في منطقة تدعى «الباراندية» ومعناها بالعربية الشرفة المطلة على البحر، حيث يقضي السكان معظم وقتهم في عبورها جيئة وذهابا، فيما يفضل بعض المثقفين المكوث في المقاهي المجاورة لها والتمتع بمنظر الغروب الساحر الذي يغطي المكان، ويملأ عين الناظرين بأشعته الذهبية. يسير الجميع ذكرانا وإناثا دون كلل أو ملل إلى وقت متأخر من الليل، كأنهم ينتظرون شيئا ما يخرج من أعماق البحر، يقول أحد الشباب ذوو الأصول الصحراوية وهو يمازح صديقه، «واقيلا هاد الناس كيتسناو اسبانيا تخرج عاوتاني من جهة البحر... راه ما كاين والو...». وعلى مقربة من «الباراندية» أشار رفيقي سالم إلى بعض الأجانب الذين يسيرون بخطى ثقيلة شبيهة بخطى السلحفاة، وقال إنهم إسبانيون لكنهم «أولاد إفني»، اعتادوا على زيارة المدينة التي رأوا فيها النور إبان الحقبة الاستعمارية، واعتاد السكان عليهم باعتبارهم جزءا من الذاكرة الحية للمدينة، وقد أسسوا مؤخرا جمعية إسبانية تعنى بشؤون الفئة المزدادة بإفني وتهدف إلى إحياء التاريخ الإسباني بالمنطقة. يقول رفيقي سالم وهو يرتشف فنجان القهوة إن «الإسبان تركوا عددا من البنيات التحتية بهذه المدينة الصغيرة»، وللدلالة على ذلك أورد أمثلة من قبيل «الميناء المتحرك، المطار، الحي الإداري، الملعب الرياضي المعشوشب، حديقة الحيوانات، حامية عسكرية، مراكز للتدريب العسكري والحربي، السينما...». لكنه استدرك قائلا بعد أن أخذ نفسا عميقا وتساءل عن السر الكامن وراء «إنجاز الإسبان لهذا العدد الهائل من البنيات التحتية رغم يقينهم بأن دوام الحال من المحال»، واستغرب في المقابل «تخلف الدوائر الرسمية عن ركب التنمية المحلية للمنطقة، وعدم الاستجابة لعدد من المطالب الاجتماعية لإفني آيت باعمران التي لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة». «المدينة تراجع دورها التجاري، فتحولت من دور الموزع إلى دور المستقبل، بعد أن تم تحويل اتجاه المركز التجاري بها إلى مدينة العيون». «المدينة تراجع دورها السياحي، رغم المؤهلات الطبيعية التي تتوفر عليها، ورغم مناخها المعروف بانخفاض درجة الحرارة في فصل الصيف». هذه بعض من العبارات التي ظل سالم يرددها بقناعة راسخة، مرتشفا بقايا القهوة العالقة بجنبات الكأس الأولى، قبل أن ينادي على نادل المقهى لأجل إعداد كأس من الشاي. الاحتجاج المتوارث بقينا زهاء ساعة من الزمان نتجاذب أطراف الحديث حول مستقبل الوضع الميداني بالمدينة، قبل أن يلتحق موظف بالمستشفى المحلي بطاولة الحديث ويحمل الدولة بأعلى صوته مسؤولية الوضع الأمني بالمدينة، فيما عبر حسن زيان، الشقيق الأكبر للمعتقلة خديجة زيان، عن المعنويات المرتفعة لشقيقته رغم ظروف الاعتقال القاسية ومنع الزيارة بالجناح النسائي باستثناء مرة واحدة في الأسبوع، أما حسن شهيد، عضو المجلس البلدي لإفني، فشدد على مسألة الاحتجاج المتوارث، حيث إن الأطفال الصغار بإفني أصبحوا يرددون الشعارات الاحتجاجية بدل الأناشيد المدرسية، كما بدأت ألعاب جماعية جديدة في صفوف الصغار تجسد المواجهات التي حدثت بالمنطقة بين المحتجين وعناصر القوات العمومية، كما لوحظ إقبال الصغار الذين عايشوا الأحداث وأصيبوا بالفزع على اقتناء المسدسات والعصي البلاستيكية والكارتونية، فيما يلجأ البعض الآخر إلى صنعها من المتلاشيات وبقايا المواد البدائية. الهدوء والعاصفة الشيء المؤكد بإفني أن أجواء الصيف الساخنة تناغمت بشكل كلي مع التطورات الميدانية القابلة للانفجار في أية لحظة، جراء انعدام الثقة السائدة بين مختلف الأطراف المتدخلة في الميدان الرسمي والشعبي بإفني، ونتيجة لذلك أكد العديد من المتتبعين أن المدينة تعيش منذ 2005 على إيقاع الهدوء الذي يسبق العاصفة، فأين ستصل الأوضاع المتأججة دوما، وماهو الأفق المنظور للاحتجاج، وكيف السبيل لمعالجة الاحتقان المتنامي بالمدينة قبل وصولها إلى الباب المسدود.