ليلة سمر.. في بيت الوزير عندما عدت إلى المنزل ليلا ، كان رشيد ينتظرني وهو يرتدي اللباس المغربي – البلغة والجلابية – فاجأني بأننا سنتناول العشاء عند وزير الغابات والخشب . والجدير بالذكر أن أكثر من 80% من أراضي الغابون تغطيها الغابات التي تنتج حوالي 800 نوع من الخشب الأكثر شيوعا والأفضل جودة. و يتم نقل الخشب الخام عبر مياه نهر « أوكووي» في شكل عوامات ضخمة تطفو على سطح الماء حتى تصل إلى مدينة « بورجونتي». حيث يتم تقطيعها قيل تصديرها. عند وصولنا استقبلنا أحد المقربين من الوزير مرحبا.. ولجنا إلى الداخل .. ساحة فسيحة .. نصبت بها بعض الخيام البيض .. تحتها طاولات وضعت عليها المشروبات الكحولية والصودا .. وحولها نساء ورجال من مناضلي الحزب الحاكم وساكنة الإقليم .. قادنا أحد الرجال إلى قاعة مخصصة لضيوف الوزير من سلطات إقليمية ومحلية ومنتخبين ورجال أعمال .. وما هي إلا هنيهة حتى دخل الوزير وزوجته مرفوقا بالوالي وزوجته ورئيس المقاطعات ورئيس المجلس البلدي وشخصيات أخرى . على الجانب الأيمن من القاعة طاولات صفت فوقها أنواع من المأكولات المحلية .. الخدمة ذاتية والنساء أولا .. كنا – أنا ورشيد – حذرين في اختيار المأكولات ،، و حتى لا نقع في المحظور ونأكل من لحم الخنزير فقد استعنا بإرشادات رئيس المقاطعات الذي كان بجانبنا .. شخصيا اخترت لحوم الأسماك وبعض الخضراوات .. ذكرني رشيد بالوجبات التي تقدم للمدعوين في المناسبات الرسمية – وكان قد حضر إحداها بمقر إقامة والى جهة كلميمالسمارة - أكلات فاخرة .. من الخرفان المشوية إلى فواكه البحر الأغلى ثمنا مرورا بالبسطيلة و أنواع من الحلويات والفواكه والمشروبات غير الكحولية طبعا.. بعد وجبة العشاء خرجنا جميعا إلى الساحة حيث ألقى الوزير كلمة رحب فيها بأهالي إقليم « لوموايان أوكووي» الذين لبوا دعوته واستعرض أمامهم شروط جعل بلادهم في مصاف الدول السائرة في طريق النمو كما حددها الرئيس الغابوني علي بونغو اوديمبا .. موضحا – بنوع من الديماغوجية – أن دولا أخرى كانت تستغل موارد بلاده – الخشب كمثال- وأن الوقت قد حان ليستفيد الشعب من هذه الموارد من خلال حظر تصديرها خاما إلى الخارج وضرورة تحويلها وتصنيعها قبل تصديرها. بعد ذلك انطلقت السهرة الفنية .. خمس رقصات شعبية تمثل التنوع الاثني للإقليم .. والغنى الثقافي لجمهورية الغابون .. وإذا كان من الصعب تحديد قائمة متكاملة بكل الاثنيات العرقية التي تشكل ساكنة الغابون فان العديد من الدراسات والأبحاث الأكاديمية حصرتها في حوالي 50 جماعة عرقية تبقى العديد منها مجرد مجموعات فرعية.. قليلة العدد .. أغلبها بدأ يفقد خصوصياته .. ويمكن التمييز بين هذه الجماعات من خلال اللهجات والتقاليد والممارسات والطقوس المتداولة فيها.. ولعل أقوى هذه الجماعات من حيث العدد هي « الفانك» التي تحتل الشمال والشمال الغربي من البلاد و» بونو» التي تستقر في الجنوب حيث السافانا وحوض نكونيي و» كالوا» التي تنتشر في منطقة البحيرات ثم « مييني» التي اختارت الاستقرار في ليبروفيل وعلى طول الساحل إلى الجنوب وهناك « أندازا» التي تعيش شرق البلاد و « كانينجي « التي توجد وسط فرانس فيل مثلها في ذلك مثل « ندومو» . أما مجموعات الأقزام أو « البيكمي» فلا يشكلون سوى 1% من ساكنة الغابون ويكادون يختفون وسط الأسر المختلطة .. إلا أنهم يتمركزون أساسا في أقاليم « وولو –نتيم « في الشمال و»أوكووي ايفاندو» في الشمال الشرقي و» نكونيي» في الجنوب و» هوت أوكووي» في الجنوب الشرقي .. يعاني الأقزام من الدونية و عدم الاعتبار. دامت السهرة ما يقارب الثلاث ساعات وتميزت بالرقصات الفلكلورية المصحوية بالأهازيج والحكي. والراقصات المتزينات بألياف النخيل كأزياء وإكسسوارات وبنوع من الماكياج التقليدي أما الآلات الموسيقية فقد بقيت دون تغيير لدى كل المجموعات الفولكلورية وتتكون أساسا من الطبول أو تام تام. كان الحاضرون ينهضون وهم يتمايلون على أنغام دقات الطبول .. يضعون أوراقا مالية وسط الراقصات أو يعلقونها بين النهود . وإذا كان الفولكلور عنصرا هاما في ثقافة الشعوب .. فهو - في الغابون - من بين كل الأشكال التعبيرية الأخرى.. الأكثر عفوية .. التي بواسطتها يحتفل المجتمع بالحياة وبالطبيعة .. ويعبر عن هويته وشخصيته.. ويتضمن الفولكلور الغابوني – مثل بقية البلدان الإفريقية - العادات والأساطير وكل الفنون التي بها تترجم مختلف جوانب الحياة الشعبية. الرجال في الغابون يضعون في مقدمة أولوياتهم : الخمر والنساء والموسيقى ، أما النساء فيعتنين كثيرا بشعورهن وزينتهن.. فتجارة الشعر المستعار مربحة هنا و مجال الحلاقة العصرية يدر على العاملات فيه مداخيل محترمة. إلى « ندجولي» و محطة القطار في اليوم الموالي ، كان علي قطع مسافة تتجاوز المائة كيلومتر لاستقل القطار المتوجه شمالا إلى « فرانس فيل» ، عاصمة اقليم «هوت أوكووي»، حيث ينتظرني أخي عبد الله .. وتبعد هذه المدينة بحوالي 780 كلم عن العاصمة ليبروفيل .. ترتوي من نهر « مباصا» ولا يتجاوز عدد سكانها 40000 نسمة .. وتشكل فرانس فيل المحطة الأخيرة سواء للسكة الحديدية العابرة للغابون أو للطريق الوطنية « 3N». وتحتضن «فرانس فيل « المركز العالمي للأبحاث الطبية CIRMF الذي يستقبل أحد الأنواع الناذرة من القردة المعروف باسم HECUS SOLATUSTCERCOPI « القرد ذو ذيل الشمس « . و بهدف اغناء المعلومات والمعارف المفصلة حول هذه الفصيلة وسلوكاتها وأيضا التأثيرات التي يمكن أن تمسها جراء استعمال المجال واستغلال الموارد الطبيعية من طرف الساكنة، فقد أنشأت الحكومة مشروع ECOSOL في شهر ابريل من العام الماضي . ومعلوم أن 19 نوعا من أصل 26 المعروفة اليوم في افريقيا الوسطى تم إحصاؤها بالغابون . وحيث أن التنوع البيولوجي واقع استثنائي في الغابون فقد تم إحداث 13 حديقة وطنية موزعة على كامل التراب الوطني الغابوني لحماية هذه الثروة الهائلة التي تستأثر بها الغابات البكر الممتدة على مساحات شاسعة بحوض الكونغو والتي تشكل ثاني أكبر غابة استوائية بعد غابة الأمازون. استيقظت على الساعة السادسة .. لكن سائق التاكسي لم يحضر إلا في الساعة السابعة .. فانطلق بنا – أنا ومصطفى – عبر جسر « الخفافيش» متوجهين إلى « ندجولي» ..كانت القرى تتوالى أمامنا تباعا.. تجمعات سكنية لا تتجاوز 30 منزلا من الخشب.. منتشرة على طول الطريق إلى « بيفون» .. تجاوزنا حاجزين للمراقبة الطرقية .. أحدهما تابع لبلدية لامباريني و الأخر للدرك .. الطريق معبدة لكنها كثيرة الالتواء كأنها أفعى تزحف بقوة وسط الغابة ..من حين لآخر تمر شاحنات محملة بالخشب .. بعد أن قطعنا حوالي 70 كيلومترا .. وصلنا إلى بلدة « بيفون» .. حيث تتقاطع الطرق المؤدية إلى ليبروفيل غربا والى « اوييرن» في الشمال و «ندجولي» وفرانس فيل شرقا.. سوق قديمة تتوسطها صخور كبيرة مصبوغة باللونين الأحمر والأصفر ، وغالبا ما تشكل مقاعد لشباب القرية أو مأوى للماعز .. بضع حانات ومتاجر .. وبائعو الفواكه على جنبات الطريق.. انعطف السائق ،دون توقف، جهة الشرق .. وواصل الطريق وسط الأشجار والأحراش في اتجاه بلدة « ندجولي» التي وصلناها دون عناء.. هذه البلدة الصغيرة ذات الموقع الاستراتيجي الهام على نهر «أوكووي» ..لا يتعدى ساكنتها بضع آلاف.. تفتقر إلى العديد من المرافق الحيوية .. لكن السلطات تعقد أهمية بالغة على مناجم المنغنيز التي تم اكتشافها بجبال «بيمبيلي» على بعد حوالي 36 كيلومترا من « ندجولي» ..وستبدأ إحدى الشركات الصينية في تشغيلها واستغلالها شهر اكتوبر المقبل مما سيعزز الهياكل التنموية بهذه المنطقة وسيساهم في بناء المدارس والمستشفيات والطرق حسب المسؤولين، كما سيوفر 300 منصب شغل للغابونيين. ومع ذلك فان المدافعين عن البيئة لا يخفون مخاوفهم من هذا الاستغلال المنجمي الذي قد تكون سلبياته كبيرة على الوسط البيئي إذا لم تتخذ الاحتياطات اللازمة.وسط البلدة ..ساحة فسيحة ، لكنها متربة .. على اليمين محطة للوقود وبجانبها سوق عصري .. وعلى اليسار فضاء مغطى تعرض فيه عدد من النسوة بضاعتهن من الخضر والفواكه والأقمشة وغيرها.. مررنا بوسط البلدة مرور الكرام ثم انعطف بنا السائق يسارا في طريق مهملة .. مليئة بالحفر.. وبقع معبدة وحادة تفرض على السائق السير بتأن والالتواء يمبنا ويسارا .. وأخيرا وصلنا محطة القطار.. وأي محطة ؟ بناية من الخشب لا تتعدى مساحتها بضعة أمتار.. ترتفع حوالي متر عن سطح الأرض .. يتم الصعود إليها عبر سلم خشبي .. المكان فارغ إلا من موظف محشور في مكتب صغير.. وبعض الكلاب في الجوار.. انتابني شعور بأن القطار الذي ننتظره لن يأتي أو أن موعد وصوله سيتأخر كثيرا.. استفسرنا الموظف القابع أمام حاسوبه.. أخبرنا بأن القطار لن يدخل إلا في الساعة الثانية بعد الزوال .. استغربنا للأمر واستوضحناه عن السبب .. فأسقط في أيدينا عندما علمنا أن القطار المتجه إلى فرانس فيل لن يكون إلا يوم غد ، أما هذا الذي سيمر من هنا اليوم فسيتجه إلى ليبروفيل قادما إليها من فرانس فيل. عدنا إلى وسط البلدة وانتظرنا قرابة نصف ساعة قبل أن ينضاف إلينا امرأتان ورجل.. ثم تابعنا الطريق عائدين إلى « لامباريني».