تحيا الممارسة السياسية عندنا في السنوات الأخيرة على الكثير من الضوضاء والتوتر وغياب التواصل بين الفرقاء، وهذا ما يفسر الكثير من الوضعيات والمآلات و... الانحسارات. لم نعد نقرأ تصريحات إلا وهي طافحة بالعدوانية وضراوة الكلام الموجه إلى فرقاء آخرين، وعندما تنقل الصحف أخبار توتر، حقيقي أو مفتعل، بين أطراف حزبية، فالتوتر يحتدم في الصباح وتشتعل حواليه كثير حرائق لفظية، وبدل المسارعة إلى احتوائه أو الحوار الصريح بشأنه، لا يزداد في المساء سوى اشتعالا ثم يتحول إلى أزمة أو جمود أو انغلاق تصل انعكاساته السلبية إلى كامل البلاد وحياتها السياسية والمؤسساتية. هنا غياب العقل يكون في عمق السؤال، وكل عنف الكلام أحيانا لا نستشف منه سوى تسيد الفراغ في العقول، وضعف التكوين وانعدام الشخصية واستقلالية القرار. لماذا صار عسيرا اليوم وجود تواصل منساب أو صداقات قائمة على الاحترام والثقة بين قيادات وزعامات عدد من أحزابنا الوطنية؟ ولماذا صار شبه مستحيل اللقاء بين بعضهم أو صياغة تفاهمات دائمة أو اتفاقات جدية فيما بينهم؟ هي ظاهرة تكرست فعلا على مستوى مشهدنا الحزبي في السنوات الأخيرة، وتستحق التأمل، والبحث لها عن تفسير في السياسة أو من خارجها. مع الأسف، إن ما يحكيه الناس عن العنف المقترف بين فتيان الحواري وسلوكات الاعتداء على المواطنات والمواطنين في شوارع المدن وأحيائها، يكاد اليوم يتجسد عبر الصحف وفي مواقع التواصل الاجتماعي، ويخرج من أفواه بعض الزعماء السياسيين في حق بعضهم البعض، وقد أقحمنا جميعا في حالة هيستيريا بلا معنى، أفقدت الكثيرين صوابهم وعقلهم، وأعمتهم عن النظر إلى المستقبل وإلى تحديات البلاد وانتظارات شعبنا، وإلى ... الحقائق، وباتوا كما لو أنهم قرروا عمدا السير عكس كل هذا، أي عكس التيار. السياسة اليوم في حاجة إلى الخروج من كل هذا التوتر الذي يلفها، وأن تستعيد الهدوء و... العقل. لقد عانت حياتنا السياسية وممارستنا الحزبية من خطاب الشعبوية وتبادل المزايدات بين الفاعلين الحزبيين، ومن غوغائية الكلام المسرب إلى الصحف ومواقع الأنترنيت، وبات شبه عادي أن نتفرج على خطابات الشتائم والسباب بين قياديين حزبيين وداخل جلسات البرلمان، كما كان هناك من يداعب كامل هذا الانحدار وينفخ فيه ويزيده جمرا واشتعالا لهذه الغاية أو تلك، كما كان البعض لا يتلذذ سوى بمحاربة القوى العقلانية والممسكة ببعد النظر وباستقلالية قرارها، وهذه السلوكات هي التي أنتجت اليوم هذا المآل، وجعلت الكيل يطفح، وانتقل الانحباس ليصيب كثير أشياء، وبتنا نلتفت يمينا وشمالا نبحث عن الأصوات الهادئة والرصينة علها تفتح أفقا يلج منه العقل. إن تبادل التصعيد بين السياسيين، وسيادة الشعبوية في الكلام والسلوك والمواقف والعلاقات، أفضى إلى جعل انشغال عدد من القوى المتنافسة محصورا في المزايدات بين بعضها البعض، والتناوب على رفع سقوف المطالب والشروط، وعلى اقتراف المناورات الضيقة والبليدة لمحاصرة الخصوم أو التضييق عليها أو قص أجنحة امتدادها، وفي النهاية لم تكسب هذه اللعبة كلها سوى أن كرست حذرا مرضيا ورفضا متبادلا بين عدد من القوى السياسية لم تعد تتردد في إصدار البيانات المتهجمة على بعضها البعض، وطبعا هذا الحذر وانعدام الثقة يفسران بقية ما قد يصيب البلاد والمؤسسات من انغلاقات واحتباسات، ويقودان في نهاية الأمر إلى الجمود، وإلى الخوف المتبادل، وإلى فرملة مسارات الانفتاح والإصلاح وتطوير المكاسب الديمقراطية والدستورية، وإطالة أمد الانتظارية و... المحافظة في السياسة وفي تدبير الشأن العام. لكل ما سلف تحتاج بلادنا، مع ذلك، إلى السياسة، وتحتاج إلى أحزاب حقيقية وجدية وتمتلك قرارها المستقل ومصداقيتها وقوتها، والسياسة عندنا تحتاج هي أيضا إلى العقل وبعد النظر، وإلى... الهدوء. هذا البريد الالكتروني محمى من المتطفلين , يجب عليك تفعيل الجافا سكر يبت لرؤيته