إذا فاجأك كاتب ما بإنتاج أدبي مسترسل، إلى حد قد تشك في أنه هو من قام بإنتاجه، حيث من الصعب تصديق من يدعي بأنه ألف رواية تقع في مائتي صفحة مثلا، في ظرف ثلاث ساعات فقط، إذا فاجأك بذلك؛ فلتكذبه. لقد بات بإمكان تحقق ما كان يدخل في باب الخيال العلمي أو أحلام اليقظة، خصوصا بالنسبة للذين يعانون من بطء الكتابة ويشكون من رهاب الصفحة البيضاء. هناك تطبيق يعرضه الأنترنت بصفة مجانية؛ لمن يرغب في تحقيق حلم الكتابة دون عناء الجري وراء الكلمات والجمل والفقرات، يدعى هذا التطبيق: خلاط الكلمات. يمكن أن تختار أي نص إبداعي، غني بقاموسه اللغوي وصوره الشعرية، وتقوم بنقله وإلصاقه في خانة خاصة بخلط الكلمات، ثم تضغط على زر؛ ليتحول النص في رمشة عين إلى مزيج من الجمل، الأنترنت الذي عنده علم من الكتاب يأتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك، وما عليك وأنت تراه مستقرا عندك إلا أن تقول هذا من فضل الحاسوب. مزيج من الجمل لا رابط منطقي بينها، كأنك قمت بحمل النص الجاهز للقراءة، الذي من المفترض أن يكون صاحبه قد أمضى الكثير من الوقت والجهد في تأليفه، وأفرغته في قنينة وأغلقت عليه بإحكام، ثم عملت على تحريكه ورجه جيدا حتى تمتزج الجمل والفقرات وتتجانس في ما بينها بصيغة أخرى، وتصنع منها نصا قابلا للقراءة ونيل إعجاب المتلقي، دون أن يخطر بباله الكيفية التي تمت بها ولادة ذلك النص، وأي ولادة؟ إن خروج النص الإبداعي على هذا المنوال، يدعونا إلى كثير من التأمل، خصوصا عندما نستحضر المعاناة التي يتطلبها عادة كتابة نص يعتمد بصفة أساسية على قريحة الكاتب وموهبته وإلهامه، بعيدا عن حيل الأنترنيت وتطبيقاته وأنظمته الماكرة. أين نحن من تلك القولة الشهيرة للفرزدق: قلع ضرس أهون علي من قول بيت من الشعر. أو تلك العبارة المأثورة لفكتور هيغو: الكلمة كائن حي يد المفكر ترتجف وهي تكتبها. اليوم، لم يعد هناك مجال للخوف من أوجاع ضرسة الكتابة، لم يعد هناك مجال للارتجاف عند محاولة الإمساك بالكلمات، يكفي القيام بعملية خلط بسيطة، للحصول على نص إبداعي في ثوان جد معدودة، وبلا أدنى جهد. إذا قمنا بمقارنة بين ظروف الكتابة الطبيعية، التي عادة ما تخضع لطقوس معينة، حيث يجلس الكاتب في انتظار الإلهام؛ لأجل أن يخط كلمة شاردة أو جملة هاربة، وقد يقضي عدة ساعات دون أن يتمكن من خط فقرة واحدة، ويمني النفس بالعودة في اليوم الموالي لإتمام ما كان قد بدأه بعد أن يعمل بطبيعة الحال على توفير الظروف الملائمة للشروع في عمله. إذا قمنا بمقارنة ذلك مع عملية الخلط التي باتت تمكن الكاتب من تأليف نصه الجديد، عن طريق تطبيق إلكتروني يدعى: خلاط الكلمات. علينا أن نشعر بالخوف حول مستقبل الإبداع الأدبي. لقد بات بالإمكان الحديث عن موت الإلهام على إثر هذا التحول الذي طرأ على ظروف الكتابة. الكثير من الكتاب باتوا يكتبون مباشرة على جهاز الحاسوب، وهذا في حد ذاته تحول جدير بالاهتمام. لم يعد هناك وجود لشيء اسمه المسودات، ونحن نعلم مدى قيمتها في تجويد النص. لقد كانت المسودات تحظى بالدراسة والتحليل، نستحضر بهذا الخصوص اشتغال رولان بارت على مسودات رواية مدام بوفاري لغوستاف فلوبير. الحاسوب ساهم في تغييب هذا العنصر المتمثل في المسودات، باعتباره ضروريا لتعميق فهم النص المعروض للقراءة. الحاسوب -سامحه الله- لم يكتف بذلك، بل عرض علينا تطبيقا عجيبا يسمى: خلاط الكلمات، مهددا بذلك قريحة الكاتب وإلهامه وطقوسه الطبيعية في الخلق والإبداع. هذا البريد الالكتروني محمى من المتطفلين , يجب عليك تفعيل الجافا سكر يبت لرؤيته