لم يغادر مشهد التظاهرات الشعبية الحاشدة الشاشات العربية منذ قرابة نصف عقد من السنين، ومازالت الساحات ولادة للحشود ومازال المراسل ينتظر في حرها وبردها متى تنطلق التظاهرة ومن يقودها وما هي أهدافها أو ربما لينقل للناس نقلا حيا ومباشرا الهتافات والأناشيد والخطابات والمطالب وما إلى ذلك مما تحفل به مثل هذه التجمعات. لاشك أنها مادة خصبة وتستحق أن تكرس لها الفضائيات اهتمامها، لكن في واقع الإعلام العربي هنالك انتقائية، فالتظاهرات التي تخدم سياسة القناة ولو جرت في زقاق ضيق وصورت بكاميرا الهاتف النقال، تجد هذه الفضائية أو تلك تكرس وقتا مهما لنقلها وتسليط الضوء عليها والاهتمام بها وتكريسها على أنها حدث من بين الأحداث المهمة، وعلى النقيض من ذلك تجد تعتيما غريبا على تظاهرات أخرى تجري في وضح النهار وفي ساحة عامة ولكن الفضائية تشيح النظر عنها لأنها لا تتناسب مع سياسة القناة. في وسط هذا سيقف المراسل والطاقم الذي يرافقه، هؤلاء الراصدون اليقظون لما يجري ورواة القصة الإخبارية، هذا المراسل مطلوب منه الكثير فها هو غارق في اللجة، في وسط الحشود، الجمهور يتصارخ ويهتف وهو يروي ما يجري من خلفه، ولكن ذلك وحده لا يكفي إذ درجت الفضائيات على إجراء لقاءات حية ومباشرة مع عينات من المشاركين في التظاهرات أو مع منظميها. وهنا تبرز الإشكالية إذ بسبب العجالة في نقل ما يجري ولإنجاز العمل والانتقال إلى آخر صرنا نشاهد تغطيات محرفة أو على الأقل ناقصة وأحيانا ضعيفة خاصة فيما يتعلق بالمشاركين الذين يحكون قصة التظاهرة. لاشك أن ما يكمل أهمية المطالب التي تطرحها التظاهرات هو أن يكون الإعلام والميديا بصفة عامة ناقلين أمينين للمطالب والأصوات الحرة، حصل ذلك في التظاهرات التي شملت أغلب مدن العراق للمطالبة بمحاسبة الفاسدين والاهتمام بالخدمات وإصلاح النظام السياسي القائم على المحاصصة الطائفية. لكن وكما أشرنا يلجأ المراسل إلى بضعة نفر يلتقيهم على عجل لكي يروون جانبا من القصة وغالبا ما يكونون من الوجوه المعروفة، وهو خطأ غالبا ما يقع بسبب الإسراف في التركيز على شخصيات اجتماعية معروفة وذلك لاختصار المهمة على المراسل، لأن هؤلاء يتكلمون جيدا والمراسل لا يريد متلعثما لا يحسن الوقوف أمام الكاميرا. لكن في وسط كل هذه التظاهرات والتجمعات هنالك أصوات أخرى حقا هي ضائعة وسط الصراخ أو هي هناك في عمق الحشود لا تكاد ترى، وتجد في المقابل من يستثمرون مثل هذه المناسبات حتى من السياسيين الفاسدين وغيرهم ممن هم من ضمن منظومة الفساد ويحضرون أمام المراسل. وهنا تقع الطامة الكبرى، يتناسى المراسل الوظيفة التي جاء من أجلها لكي ينجز مهمته بعجالة فيلتقط مثل هؤلاء يختم بهم رسالته، وهو ختام ليس بمسك على أي حال، فيما هناك في العمق ووسط الصراخ المواطن المطحون المعذب الذي يبحث عن وسيلة ما للشكوى ولإسماع صوته، لكن وهو يبحث عن ذلك يكون المراسل قد أكمل المهمة وأطفأ الكاميرا وعاد سريعا إلى مكاتب القناة المكيفة لينقل الحقيقة كما هي، كما يزعم ويزعمون غالبا.